الصحف ديوان التاريخ
تجربة روائية مميزة في حياكتها ومشاهد سريعة من مسلسل تلفزيوني خيالي، حركت نقاشًا ثريًّا عن كيفية كتابة التاريخ بعد عشر سنوات من اليوم، قد يبدو الموضوع عاديًا للوهلة الأولى لأننا نملك لحظات اليوم ونمسك بتفاصيله التي يمكن استرجاعها بلمسة على شاشة الهاتف الذكي، ولكن عندما نتمعن فيما يدور حولنا من اختفاء بطيء لعناصر كانت تعتبر محورية في كتابة التاريخ سندرك أننا مقبلون على مستقبل بلا جذور.
الرواية المقصودة هي «لا أحد ينام في الإسكندرية» لإبراهيم عبدالمجيد الذي استعان بأرشيف جريدة الأهرام للفترة من عام 1939م ولغاية 1942م وأمضى ست سنوات في كتابتها. تمكن عبدالمجيد عبر تلك الرحلة الزمنية استعادة أدق تفاصيل الحياة اليومية لمدينة الإسكندرية، وهي ما مكنته من إحياء مدينة الإسكندرية في خيال القارئ على أسس حقيقية كانت موجودة على مختلف صفحات الأهرام بشكل اعتيادي.
وفي الواقع فإن عبدالمجيد لم يعتمد فقط على أرشيف جريدة الأهرام، ولكنه رجع أيضًا إلى الكثير من الصحف اليومية الأخرى، والمجلات الأسبوعية، والكتب التاريخية، ومذكرات ورسائل القادة والسياسيين والعسكريين الذين عاشوا تلك الحقبة، واستخلص منها ما يفيد أو يخدم أحداث الرواية وتطورها الزمني الممتد ما بين الخامس والعشرين من أغسطس 1939م وحتى يوم انسحاب رومل من العلمين في نهاية شهر أكتوبر 1942م، حيث «ابتهجت الإسكندرية فأضيئت شوارعها لأول مرة منذ ثلاث سنوات».
أما المسلسل فهو «عمر أفندي» الذي وجد فيه البطل الرئيسي مسارًا زمنيًّا عبر سرداب منزل والده يربط بين زماننا الحالي وعام 1943م، ليعيش حياتين معًا مستعينًا بأرشيف الصحافة المصرية آنذاك لمعرفة تفاصيل أحداث معينة وقعت عام 1943م ويستثمرها في الزمانين، زمانه والزمان الذي يزوره.
وفق هذا السياق تتضح الصورة أكثر ويصبح السؤال عن كيفية كتابة التاريخ بعد عشر سنوات ثقيلًا، في واقع زادت فيه المنافسة بين الصحافة الورقية التي بدأت تعاني من قلة الإيرادات وتحولها إلى سوق المؤثرين الذين يتابعهم الناس بالملايين، وبين الصحافة الإلكترونية الأقل كلفة والأسرع انتشارًا.
ما يزيد القلق من صورة المستقبل الخالي من أرشيف متاح يمكن الرجوع إليه لكتابة التاريخ هو أن النقاش عندما يكون مرتكزًا على الأرباح والخسائر فلا سبيل للكلمة أو الأمور المعنوية أن تقف بوجه المال ولغة الأرقام حجّة قوية ليس فيها مجاملة أو جبر خواطر.
قد يقول قائل: وهل التاريخ تكتبه الصحف فقط ؟ أين التلفزيون وبرامجه ونشراته المحلية، ألا يذهب الكثير منها إلى منصة «اليوتيوب»؟ بالتأكيد لا. ولكن هل توجد وسيلة تشبه الصحف في تدوين تفاصيل وأحداث اليوم الواحد؟ وهل سنضمن في عالم متسارع ومتنافس في توليد التطبيقات الجديدة وبيعها لأعلى سعر ورجال أعمال بعضهم متقلب المزاج أن يقرر مسح «اليوتيوب» من الوجود؟
أيضًا قد يقول قائل: يمكن الرجوع إلى أرشيف الصحف عن طريق محركات البحث. هنا تتشعب الإجابة، فبعض الصحف قد تفرض رسومًا على ذلك الأرشيف ربما تكون باهظة بالنسبة لباحث لا يملك المال، وبعض الصحف قد تختفي نسخُها الورقية والإلكترونية معًا، كما أن عملية البحث قد لا تكون متاحة داخل محتويات الأعداد لأنه تم تحميلها كصورة وليس كلمات مكتوبة يمكن العثور عليها. وأخيرًا قد يفضل بعض الباحثين البحث يدويًّا، على الرغم من أن البحث الرقمي لا يختلف كثيرًا عن البحث في أوراق ووثائق الميكروفيلم.
وهناك نقطة جوهرية يجب التوقف عندها وربطها مع سؤال المستقبل بعد عشر سنوات، وهو أن الصحف ككيان تجاري قد تنتهي مثل أي شركة تنتهي ويزول ترخيصها من الوجود، وبالتالي مَن سيحتفظ بأرشيفها الإلكتروني حيًّا على شبكة الإنترنت؟ أما الورقي فرغم مخاطر تعرضه للتلف فهو على الأقل في حماية المكتبات الوطنية وباعة النوادر القديمة وهؤلاء الناس أحرص الناس عليها. إن الورقي منح عبدالمجيد في روايته السابق الإشارة إليها، مخزونًا صحفيًّا ضخمًا استطاع أن يستثمره بنجاح ودون إملال، رغم تدفق العبارات الصحفية في فضاء روايته، ونعطي مثلًا بهذا التدفق. يقول على سبيل المثال:
(قال الألمان إن الحدود الفرنسية ضيقة، لذلك لا بد من التمدد بالقوات، وليس لألمانيا أي مطامع في هولندا، وظهر في الأسواق البرتقال اليافاوي، وقيل إن محصوله وفير الآن بفلسطين، وأن الحكومة تجد صعوبة في تصديره إلى أوربا بسبب الحرب، لذلك صار رخيصًا جدًا في الأسواق. وأنعم صاحب الجلالة الملك فاروق برتبة لواء على صاحب السعادة بيكر باشا، حكمدار بوليس الإسكندرية، وتم تحذير الناس من التوجه إلى ضاحية سيدي بشر ليلاً خارج نطاق شريط الترام، حيث كثرت حوادث القتل والسرقة بالإكراه والاغتصاب. وتقرر أن يسافر ضباط الجيش بالدرجة الأولى في السكك الحديدية للمرة الأولى، تقديرًا لمركزهم الممتاز في المجتمع، وصونًا لكرامتهم، وغادر الأمير محمد علي الإسكندرية إلى القاهرة بعد انتهاء مصيفه. وقدم تياترو ببا عز الدين رواية الفودفيل «حرامي أرستقراطي».
وبلغ سعر الجنيه الذهب مائة وخمسة وثمانين قرشًا، وسجائر الكرافن ثلاثة قروش للعلبة عشر سجائر، وستة للعلبة عشرين سيجارة، وتقرر أن يكون ضباط الجيش المرابط من خريجي كلية التربية الرياضية الذين يعانون من البطالة دائمًا. وبدأ عرض فيلم «العزيمة»، وتم تعديل قانون الحياد الأمريكي ورفع الحظر عن تصدير السلاح للحلفاء، وأعدم ثلاثة جنود ألمان كانوا قد قتلوا الجنرال فون فريتش أثناء القتال قرب وارسو. واستمر الملك يؤدي صلاة الجمعة من كل أسبوع في جامع ومكان آخر، فصلى حتى الآن في جامع كخيا في القاهرة، والدخيلة بالإسكندرية.
أعتقد أننا لم نشعر بالملل من هذا التدفق الحيوي للأرشيف الصحفي، بل يدهشنا أحيانًا ما نلاحظه من تضاد أو تناقض، وكأننا نعيش من خلال بعض العبارات أكثر من حياة روائية، إذا تركنا لخيالنا العنان، أو إذا تركنا أنفسنا نسبح مع تيار تلك العبارات المنتزعة بقوة من سياقها الصحفي، وتداعياتها الحرة.
هنا نصل إلى قناعة أن العبرة ليست في الأرشيف الصحفي، ومقارنة حياة بحياة، كأن نقارن بين العصر الذي وردت فيه العبارة الأرشيفية، والعصر الذي نحياه حاليًا، أو يحياه عمر في المسلسل، أو حتى بعد عشر سنوات من تاريخ العبارة، ولكن العبرة في هذا الأمر بالمؤلف نفسه، ومدى مرونته ونجاحه في التوظيف، وإجادته لفن السباحة في عصرين مختلفين قد يصل الأمر فيهما إلى حد التناقض، والتقاطه من الأرشيف الصحفي ما يناسب اللحظة الآنية التي يبدع فيها عمله.
هل لو تمت الاستعانة بتطبيقات الذكاء الاصطناعي لينتقي لنا من الأرشيف الصحفي القريب أو البعيد، عبارات دالة على لحظة زمنية معينة، توائم توجه الكاتب الفني والفكري لحظة إبداعه، هل سينجح في ذلك؟
أعتقد أن الذوق الإنساني هو الذي يتغلب على اختيارات الذكاء الاصطناعي، هذا في حال توافر الأرشيف بحاله وبحالته المأمولة، وليست المشوَّهة لأي سبب من الأسباب. وبالنسبة للأرشيف الورقي الأسباب كثيرة منها خطر الحريق، وزحف الحشرات الورقية كالعتة وغيرها، والعفونة التي قد تسببها الرطوبة، أو الذوبان في الماء أو اقتراب المواد الكيميائية منها، وغير ذلك من أسباب إذا لم يكن هذا الأرشيف مُصانًا طبقًا للقواعد العلمية المتعارف عليها في هذا الشأن، هذا إلى جانب ما أشرنا إليه بخصوص الأرشيف الإلكتروني.
تُرى لو لم يجد عبدالمجيد - على سبيل المثال - أرشيفًا صحفيًّا جيدًا، خلال الفترة الروائية المبحوثة، هل كان في مُكنته أن يقدم لنا عملًا مثل هذا العمل البديع «لا أحد ينام في الإسكندرية»؟
والأمر لا يتوقف على تلك الرواية فحسب، ولكن هناك العشرات من الروايات الأخرى التي اعتمدت على الأرشيف وعلى القصاصات الصحفية، مثل رواية «بيروت بيروت» لصنع الله إبراهيم، وغيرها. ولكن نضرب المثل برواية عبدالمجيد لأن الكاتب كان أكثر وضوحًا وصراحة من غيره - سواء داخل الرواية أو خارجها من خلال أحاديثه وحواراته الصحفية - أنه عاد إلى الأرشيف الصحفي الورقي ليستنطقه بالأحداث والوقائع.
هنا سنجد الفرق الكبير بين المؤرخ والروائي الفنان، الذي يلتقط هذه الأخبار، المؤرخ سيدونها كما هي وبقدر كبير من الحياد، والفنان سيحولها إلى قطعة إنسانية تتخلق منها أحداث وشخصيات من لحم ودم.
ومن هنا نصل إلى ما نود طرحه في هذه الأسطر، أن الصحف - أو وسائل الإعلام عامة سواء أكانت ورقية أم إلكترونية - تستطيع أن تدوّن الحدث أو الواقعة، وربما تحللها وتشرح أبعادها ومدى تأثيرها الحالي والمستقبلي، ولكن يأتي المبدع الفنان أو الكاتب الموهوب، ليحول تلك المادة إلى مادة إنسانية حية تؤثر في قارئها أو مشاهدها، مشحونة بالمشاعر والأحاسيس، وربما الأساطير التي تأخذ القارئ أو المشاهد إلى دروب جمالية أخرى قد لا تصل إليها المادة الخبرية الجافة، أو العبارة التأريخية الدقيقة التي مهما حاول المؤرخ أن يصوغها ويطرزها بجماليات اللغة لم يستطع أن يصل إلى أغوارها ومعناها قبل مبناها.
هل تستطيع تطبيقات الذكاء الاصطناعي مثلًا الوصول إلى لحظة مضيئة في التاريخ تكون عماد عمل فني ما، سواء رواية أو مسرحية أو فيلمًا أو لوحة تشكيلية، أو مسلسلاً درميًّا؟... إلخ، لا يستطيع ذلك سوى الإنسان الفنان، بعد ذلك يأتي الأرشيف والتطبيقات كعوامل مساعدة، ولكنها أبدًا لن تحصل على شرارة الإبداع الأولى، إنها لحظة نورانية لحظة مهداة من الخالق للمخلوق الفنان، وقد لا تأتي كثيرًا.
هل سنجد في أرشيف الإسكندرية التاريخي الصحفي سواء من خلال جريدة الأهرام أو غيرها، عبارة مثل تلك العبارة التي اختتم بها عبدالمجيد روايته: «صارت الإسكندرية مدينة من فضة، تسري فيها عروق من ذهب»؟
في الختام هذه ليست نظرة متشائمة ولكنها دعوة للنقاش حول موضوع يخص المستقبل القريب، الذي كنا وما زلنا نسعى ونتأمل أن نواكبه وألا نخرج من سياقه فنصبح بلا تاريخ ولا مستقبل ■