الكاتب الإيطالي كارلو فيتشي يثبت في روايته «ابتسامة كاترينا»: أم ليوناردو دافنشي جارية شركسية
لم أعرف كارلو فيتشي إلا في يناير 2024م عندما تواصلت معي الدكتورة مروة فوزي الملحق الثقافي المصري بروما تطلب مني إعداد زيارة له لمكتبة الإسكندرية، حدثتني عنه، أرسلت لي سيرة ذاتية مختصرة عرفت منها أنه أصدر أولى رواياته «ابتسامة كاترينا» عن أم ليوناردو دافنشي، فاقترحت عليها أن تكون زيارة المكتبة معها مناقشة للرواية من خلال مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية الذي أسسته وأديره منذ عام 2009م، تحمست د. مروة، وأبلغتني ترحيبه الكبير بذلك. تواصلت مع الدكتور محمد سليمان رئيس قطاع التواصل الثقافي بالمكتبة، رحب بالزيارة، وأكد لي ترحيب الأستاذ الدكتور أحمد زايد مدير مكتبة الإسكندرية لدرجة أنه بنفسه سيدير اللقاء مع كارلو فيتشي، لكن ظروفًا صحية تخص زوجة الكاتب الإيطالي منعته من الحضور، فأجلنا اللقاء إلى فرصة قادمة، لكنني لم أقطع التواصل معه من خلال د. مروة فوزي والمترجمة غادة جاد، فقد أثارني حديث د. مروة عن روايته الأولى التي فجر فيها اكتشافه الجذور العرقية لأم دافنشي فأصبحت الرواية الأكثر مبيعًا؛ فحرصت على التحاور معه، خصوصًا وقد علمت أن الرواية ستصدر قريبًا باللغة العربية عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة.
كارلو فيتشي هو أستاذ الأدب الإيطالي في جامعة نابولي «الشرقية»، اختير ليترأس أكاديمية لينشاي الأدبية العريقة المعنية بالدراسات الأدبية البينية.
تتركز أبحاثه على الأدب والحضارة في عصر النهضة في إيطاليا وأوربا وكرس حياته لدراسة شخصية وأعمال ليوناردو دافنشي وتاريخ الفكر في عصر النهضة الذي مهد للعصر الحديث ليس فقط على مستوى العلوم الإنسانية ولكن تخطاها ليبحر في علم الجمال والعلاقات بين مختلف لغات الفن؛ بين الكتابات الأدبية والفنون التشكيلية وشارك في كتابة دراسة عن حياة ليوناردو دافنشي تحت عنوان «الحياة والفكر» مع الكاتب جيوسيبي أو لونجو وقام بإلقاء العديد من المحاضرات عن أعمال ليوناردو دافنشي في أشهر متاحف العالم منها اللوفر، الميتروبوليتان، ومتحف الأوفيتسي في فلورنس، وغيرها أدار برامج التعاون الثقافي لجامعة «الشرقية» في الهند والصين، ويرأس حاليًا مشروع «ذاكرة المتوسط» في ذات الجامعة المعني أيضًا بتراث الإيطاليين في مصر في مطلع القرن العشرين، صدر له هذا العام 2024م رواية «ابتسامة كاترينا» عن قصة حياة والدة ليوناردو دافنشي؛ كاترينا، التي اكتشف مخطوطة عنها من شأنها تغيير الكثير عن تكوين ليوناردو دافنشي وطفولته إذ تكشف لنا المخطوطة أن كاترينا لم تكن إيطالية وإنما أمة شركسية أتت من بلاد القوقاز ومنها إلى البندقية بعد رحلة طويلة مثيرة مرت بها في العديد من البلدان والتقت بشخصيات من ثقافات وألسنة عدة إلى أن انتهى بها المطاف في فلورنسا، حيث تلتقي ببييرو دا فينشي الذي سيصبح فيما بعد والد الفنان والعالم الشهير ليوناردو دافينشي، أصبحت «ابتسامة كاتيرينا»، حديث الساعة في الأوساط الأدبية الإيطالية وكان لها أصداء عالمية أيضًا فصدر عنها مقالات في New York Times CNN NBC. جار ترجمة الرواية إلى عدة لغات منها الصينية واليابانية والروسية.
• لماذا اخترت مجال الدراسات الأدبية، وما سبب هذا الانتقال المفاجئ إلى الرواية؟
- لطالما كانت الدراسات الأدبية والتاريخية بالنسبة لي عشقًا حقيقيًا منذ نعومة أظافري لأني آمنت؛ ومازلت أؤمن، بأنه من خلالها يستطيع المرء أن يجد بعض الإجابات على الأسئلة الإنسانية الأساسية، ومنها على سبيل المثال ما الحياة؟ وما القيم التى من شأنها أن تقرب بين البشر فيما وراء العوائق والاختلافات؟ ثم وبعد الكثير من سنوات دراسة عصر النهضة وليوناردو دافنشي، أثر في نفسي اكتشاف وثائق كاترينا، وجعلني أكثر انخراطًا في الأمر، ولم أعد أقوى على سرد حكايتها إلا في قالب سردي روائي، لأن الأدب وحده هو الذي يستطيع أن يخبرك عن الحياة بكلياتها.
• ما أهم ملامح السرد الإيطالي المعاصر في الرواية والقصة، وأهم اتجاهات الكتابة فيهما؟
- إن الأدب المعاصر في إيطالي، شأنه شأن سائر الآداب، يعكس الأزمات والتغيرات الكبرى في عالم الاتصال، لدينا تقاليد عتيقة، وشديدة الثراء، ولغة عذبة، ولكن ما هو معروف عنها قليل في هذا العالم، وهكذا؛ شأنه شأن الآداب الأخرى، نحن نعتبر تابعين (مجرد أدب ثانوي) بالنسبة لدوائر الآداب الإنجليزية والأمريكية. وعلى وجه العموم، في إيطاليا، أرى اليوم اتجاهين رئيسيين ومتعارضين تقريبًا، الأول يعود إلى صنف من القصة غير موضوعي حميم يتسم عادة بالسلبية، والثاني وهو الصنف الذي أفضله، فإنه يسعى إلى المقاربة مع الواقع والعالم من حولنا بما يحدث فيه من مشكلات، ويحاول أن يتواصل مع ردود الأفعال والقيم الإيجابية، وغالبًا ما تكون حكايات عظيمة، وسرديات ملحمية جبارة، وتتماشى الرواية التاريخية مع هذا السياق، لأن استيعاب حكايات الماضي وفهمها يجعلنا كذلك نفهم واقعنا الحالي على نحو أفضل.
• تفجر روايتك «ابتسامة كاترينا» مفاجأة عن الأصول الشرقية لليوناردو دافنشي إذ تثبت أن والدته كانت أمَة شركسية الأصل من بلاد القوقاز، ما الذي يمكن أن تغيره هذه المعلومة المهمة في الدراسات المهتمة بدافنشي كإنسان وفنان؟
- إن اكتشاف هوية والدة ليوناردو دافنشي، الفتاة الأجنبية التى استُعْبِدتْ وجيء بها إلى إيطاليا، كان له تبعات هائلة الأثر في تفسير حياة ابنها وأعماله. فقد استطعنا أخيرًا أن نفهم مصدر بعض السمات المميزة لدى ليوناردو والتي كان يكتنفها الغموض وظلت بلا إجابة ومنها روحه الجبارة المفعمة بالحرية، عشقه للطبيعة وللحياة والجمال، اسم ليوناردو في حد ذاته يعني «الحرية» لانه يعود إلى أحد القديسين الفرنسيين الذي كان يؤدي معجزة عتق العبيد، وأخيرًا، اكتشفنا أن شخصية ليوناردو ذاتها عالمية أصيلة، فهو ليس مجرد إيطالي ولا ينتمي لشعب بعينه أو ثقافة بعينها ولكن للإنسانية جمعاء.
• هل كنت تتوقع كل هذا النجاح لروايتك الأولى، لدرجة أن تكون الأكثر مبيعًا؟
- لا على الإطلاق، فقد كان الأمر مفاجأة كبرى بالنسبة لي، ومن اللطيف جدًا الآن أن تسافر حول العالم وأن ترى كاترينا؛ شأنها شأن ليوناردو، قد سارت معروفة في كل مكان.
كتبت الرواية نتيجة لأبحاثك وتخصصك، فهل ستكون رواية وحيدة أم ستتبعها روايات أخرى، وهل ستكون الأعمال الجديدة في المجال نفسه أم ستتحرك إلى آفاق جديدة؟
- كان أمرًا مدهشًا جدًا أن أكتب هذه الرواية، وقد انغمرت بذاتي كليًا في العملية الإبداعية الخاصة بالتخيل وحيوات الشخصيات لدرجة أني لا أستطيع التمهل لكي تتاح لي تجربة مماثلة مجددًا، ما زلت لا أعرف تحديدًا كيف ومتى، ولكن أظن أني راغب في استكشاف آفاق جديدة، في حين ستظل كاترينا بموضوعاتها العظيمة ذاتها في قلب الدائرة ومنها الحرية، والكرامة الإنسانية، والحياة، وقيمة الكتابة.
• بعض الباحثين الغربيين يرون أن المقامات العربية هي التي أوحت لبوكاتشيو فكرة كتابه الديكاميرون ولجوسر فكرة حكايات كانتبري، كما أن هناك رأيًا يشير إلى تأثر دانتي في الكوميديا الإلهية بأبي العلاء المعري في «رسالة الغفران»، ثم أثرت هذه الكتابات الغربية في الإبداع العربي الحديث، ما رأيك في هذا التأثير المتبادل والتواصل، وهل لا يزال موجودًا؟ وبأي درجة وما الذي تعرفه عن الأدب العربي الحديث؟
- إنني على قناعة بأن هذه المؤثرات كانت من الأهمية بمكان في ثقافة العصر الوسيط الغربية، في ذلك الوقت؛ كانت أوربا متخلفة إلى حدٍ بعيد عن العالم العربي، حيث كان يعمه ازدهار مذهل للفن، والعلوم، والأدب، ولحسن الطالع، كان البحر المتوسط (على عكس ما هو الآن) بحرًا يوحد الثقافات، وكانت إيطاليا نموذجًا ساطعًا لهذا (صقيلة أولًا). ولم يكن ليوجد في الأغلب عصر النهضة لولا أن جاء المسافرون والتجار الإيطاليون بثروات الثقافة العربية إلى إيطاليا، ومنها الرياضيات، الهندسة، علوم الفلك، الطب، الشعر... إلخ.
وقد حكى بوكاتشيو الأصغر عن هذه الثقافة في نابولي التى كانت مرفأ متوسطيًا عظيمًا التقت فيه كل الثقافات أما اليوم، فالوضع مختلف لأننا نحيا في عالم متصل ببعضه البعض، لدينا الوهم بأننا نعرف كل شيء ولكن في الواقع ما زلنا بحاجة لبذل الكثير من الجهود للتعرف على الثقافات المختلفة بعمق وليس مجرد معرفة سطحية. بالنسبة للأدب العربي المعاصر، فأنا دومًا منبهر بوجود حركة تسمى «النهضة» أي «الميلاد من جديد»؛ تمامًا مثل عصر النهضة لدينا، وفي الواقع هي لازمة لاستشراف المستقبل دون نسيان أصوات الماضي لهذا السبب أحب أعمال الُكتاب مثل بهاء طاهر، والروايات التاريخية مثل أعمال يوسف زيدان، أو تلك الخيالية مثل أعمال أحمد خالد توفيق، وفي العموم ما يحمل منها الأصوات النسائية.
• ما رأيك في بعض الإجراءات الثقافية التي اتخذتها دول أوربية بعد الحرب الروسية الأوكرانية مثل إعلان جامعة بمدينة ميلانو الإيطالية عن إلغاء مقررها الأدبي حول أدب فيودور دوستويفسكي واستغناء أوركسترا ميونخ عن قائدها الروسي فاليري غيرغييف؟
- تعبر تلك الأمور؛ بكل أسف، عن جنون البشر وعن المخاوف الخاصة بالعقل الجمعي غير المنطقي التى في أساسها تنم عن الكراهية والحرب. وبدلاً من ذلك، يتعين علينا فهم أن الفن والجمال هما دومًا قيم عالمية من شأنها توحيد الإنسانية.
• كان لفلسفة العلوم في عصر النهضة منظور موسوعي للمعرفة تندرج تحته جميع أفرع العلوم والفنون، هل لايزال هذا المنظور موجودًا أم أن الانشغال بالتخصصات الدقيقة جعله يتراجع، وهل هذا أثر على وجود رؤية كلية للعالم لدى الإنسان المعاصر؟
- لا أعتقد أن البُعد العالمي الموسوعي لعصر النهضة لم يعد حاضرًا في عصرنا الحالي. وأعتبر أن عصر النهضة حقبة طويلة الأمد بدأت في إيطاليا في القرن الثاني عشر، وصارت عالمية في العصر الحديث، وانتهت في تسعينيات القرن العشرين، بتقدم العصر الرقمي، وقد بدأ انحساره بالفعل مع بداية العصر الحديث، مع زيادة غير مسبوقة في التخصص العلمي والمعرفي، اليوم لم يعد ثمة رجل كوني كليوناردو دافنشي، قادرًا على توحيد رؤية الإنسان والطبيعة، ومع الأسف كان لهذا تبعاته على حياتنا وربما على مستقبل البشرية، فقد أفلحنا في القيام باكتشافات فردية مذهلة، غير أننا عجزنا عن إيجاد حلول عالمية للمشكلات والمعضلات الكونية، مثل التغيرات المناخية، وخطر الانقراض.
• كمتخصص في حضارة عصر النهضة؛ ما أهم الأفكار والرؤى التي لا تزال ممتدة من هذا العصر إلى عصرنا الحالي، وما الذي افتقدناه منها ونحتاج إلى استعادته؟
- حتى وإن كان عصر النهضة قد تلاشى في تسعينيات القرن العشرين؛ فثمة بعض المكتساب المثالية التى تنتمي للإنسانية جمعاء، والتي لابد من الدفاع عنها كقيم لا غنى عنها مثل حق حرية الإنسان، ومن ثم الحق في المعرفة، والبحث العلمي، والعقلي فيما يتعلق بالدين، والحق في الحياة، واحترام الآخر، والتسامح، وقبول الأفكار المختلفة عما لدينا ويكفي النظر حولنا في عالم الحاضر لنرى بكل أسف أن هذه القيم قد أصبحت في الغالب منسية أو تم إغفالها.
• البعض يختصر ليوناردو دافنشي في الموناليزا وابتسامتها الغامضة، والآخر يعتبره مجرد وسيلة مسلية للألغاز خصوصًا بعد انتشار رواية دان براون «شفرة دافنشي»، وأنت أحد أهم المتخصصين في دافنشي، ما الذي يمكن أن تقوله عنه كمفاتيح للدخول إلى تجربته الثرية، وما رأيك في الرواية الأشهر التي كتبت عنه؟
- نعم، وبكل آسف، فقد شيدت الثقافة الشعبية هالة من الغموض وأحجية حول شخصية ليوناردو على نحو لا علاقة له بالواقع التاريخي لشخصية ليوناردو الحقيقية. يبرز عادة ليوناردو المكفهر، كعبقري فذ وإنسان خارق، على نحو ما جاء في الروايات الأمريكية النمطية كشفرة دافنشي. لكنه ليوناردو مزيف، فالواقع مختلف تمامًا. فقد كانت شخصية ليوناردو بشوشة باسمة كأمه كاترينا. وأفضل سبيل للاقتراب منه هو فهم إنسانيته العميقة.
ما مشروع «ذاكرة المتوسط» الذي ترأسه في جامعة «الشرقية» في الهند والصين. وحدثني عن اهتمامك بتراث الإيطاليين في مصر في مطلع القرن العشرين.
يعني مشروع الـ ALMAMED «أرشيف ذاكرة البحر المتوسط». لطالما كان لجامعتي؛ جامعة نابولي الشرقية، تبادلات ثقافية كثيرة جدًا مع دول آسيوية وأفريقية، لاسيما في البحر المتوسط. وفي هذا البحث، نريد إعادة اكتشاف آثار المجتمعات الإيطالية في بلدان البحر المتوسط، والذكريات الأدبية والفكرية لكبار الشعراء مثل أونجاريتي، وعلامات الطريق المشترك بين الثقافات المختلفة التي يجمعها بحر واحد.
•أنت متخصص في علم الجمال والعلاقات بين مختلف لغات الفن؛ بين الكتابات الأدبية والفنون التشكيلية، هل ترى أن الفنون التشكيلية لا تزال لها قيمتها وتأثيرها في الحياة المعاصرة، وهل كان تسليعها بما جعل بعض الأعمال تساوي ملايين الدولارات مفيدًا أم مضرًا لها؟
- نعم، للفنون المرئية أهمية كبرى في الثقافة المعاصرة، تعد الصورة في عالم اليوم هي كل شيء. وبالرغم من ذلك، فثمة جانب سلبي في عالم الفن يكمن في تسليعه، وتقديره وفق بنود مالية.
وفي رأيي هذا خطأ لأن العمل الفني كلوحة ليوناردو دافنشي أو مايكل أنجلو قبل أي شيء هو عمل قامت به روح إنسانية لا يجب تقييمه بالدولارات. إنها رسالة جمال، رسالة كونية لابد من جعلها متاحة للجميع ■