«التخلي عن الأدب» قراءة فيما وراء الكلام

«التخلي عن الأدب» قراءة فيما وراء الكلام

  لا يحتاج الناقد المغربي عبد الفتاح  كيليطو إلى تقديم، فهو معروف على مستوى المختصين المنشغلين بالأدب والثقافة العربية، وهو معروف أيضًا من قبل عموم القراء غير المختصين بالأدب، وهذا ما جعله حالة فريدة في عصرنا الذي انشغل بالتخصص الأكاديمي أكثر مما ينبغي، ولم يعد بمقدور كثير من الدارسين والباحثين مخاطبية الجمهور العام. 

 

في كتابه الأخير «التخلي عن الأدب» صدر عن دار المتوسط (2023م) يقدم كيليطو- كعادته - مقالات أقرب إلى حبَّات العقد المنضد، مختلفة الأشكال والألوان، ولكنها مترابطة ومنسجمة فيما بينها، إذ تدفعك كل حبّة إلى التي تليها، فكل حبّة تقوم بنفسها، ولكنها في الوقت نفسه تبدو أنضر وأكثر اكتمالًا بغيرها، وهكذا ننتقل من مقالة إلى التي تليها، في بساطة وسلاسة وغير قليل من الإعجاب، ونظل كذلك حتى نهاية الكتاب. 
موضوع الكتاب هو «التخلي» عن الأدب، أو ترك الأدب، بما هو مفهوم متعدد الأبعاد، فقد يتبرأ الكاتب من كتبه في لحظة ما من حياته، وغالبًا ما يكون ذلك في أخريات الحياة، على نحو ما فعل «دون كيخوته» الذي تاقت نفسه في أخريات حياته إلى أسلوب جديد أو بالأحرى إلى حياة جديدة، فقد سئم محاكاة أبطال الفروسية بلا طائل، لم يتخل «دون كيخوته» عن حلمه إلا وهو على فراش الموت. (ص63) 
وقد يكون «التخلي» مجرد تعديل في الوجهة فحسب، كأن يملّ الكاتب من النوع الذي يمارسه ويبحث عن نوع آخر، على نحو ما كان يحلم رولان بارت بترك النقد إلى كتابة أخرى عقب موت أمه، ولكن إصابته في حادث سير وموته بعدها حال دون ذلك. (ص61)، وفي الأدب العربي نجد أبا العلاء المعري يتخلى في ديوان «اللزوميات» عن أغراض الشعر التقليدية التي طرقها قبل ذلك في ديوان «سقط الزند» باعتبارها من المَيْن، أي الكذب. (ص68).
ومن المعروف أن الجاحظ «في بداية أمره كان ينسب بعض كتبه لمؤلفين سابقين، ثم تبناها فيما بعد، على الأرجح عندما اشتهر وتمّ الاعتراف به». (ص73)
وحول هذه الفكرة بكل تجلياتها، وفي هذه المساحة التي لا تخلو من طرافة والتباس وغير قليل من المفارقة تأتي مقالات هذا الكتاب. 
واللافت أن كيليطو يشحن سطوره - ببساطة ورهافة - بخلاصات نقدية، يصوغها من وحي موضوعه أو يستدعيها من موضوعه، وذلك على نَحْوٍ يمزج بين الذاتي والموضوعي، وهكذا تطالعنا المقالة الأولى التي حملت عنوان «بورخيس والمغرب» وقد جاء موضوعها على هامش ندوة عقدتها سفارة الأرجنتين بالمغرب في
28 أكتوبر2021م، ليفرض التساؤل نفسه على الكاتب: ما علاقة بورخيس بالمغرب ؟ فهو لم يكتب شيئًا عن المغرب، بل لم يعرف عنه اهتمام يُذكر بما يكتبه المغاربة.. وقد يكون العكس هو الصحيح، بمعنى أن المغاربة هم من يهتمون به، «فليس من بين المثقفين المغاربة من لم يقرأ بورخيس، أو لم ينوِ على أقل تقدير قراءته، بحيث إن الإحالة إليه شائعة، فضلًا عن تدريسه في بعض الشعب وترجمة قسط وافر من كتبه، هذا علاوة على البحوث التي اهتمت به عندنا بأكثر من لغة». (ص10)
نحن إذن الذين ننشغل ببورخيس، ثقافتنا هي من تحاول الاستفادة منه، ولا يعني هذا أن بورخيس لا يعرف الأدب العربي، إنه بالعكس يظهر معرفة قريبة به، شأنه في ذلك شأن المستشرقين الذين يعرفون أمهات الكتب القديمة، كالمعلقات وقصص «ألف ليلة وليله».. وهذا بالنسبة لـ «كيليطو» كاف لكي يثير دهشته ولكي يُقبل «على قراءته بانشراح وارتياح». 
ماذا يعني أن بورخيس يعرف أدبنا القديم ويشير إليها ؟ هذا يعني ببساطة أنه يرانا ولا ينكرنا، فنحن بالنسبة إليه - وهو الكاتب العالمي- موجودون، لنا لسان ينطق عنا، ولنا آثار تفاعل معها إنتاج كاتب كبير مثل بورخيس، وهذا بحدّ ذاته يجعل قراءته والكتابة عنه مبهجة..!
فهل نحن حقًّا بحاجة إلى أن يرانا الآخرون ويُقرون بجدارتنا ؟ هذا بالضبط هو سؤال الهوية والتمثل الثقافي الذي يثيره كيليطو بمهارة - ولكن السؤال الدقيق أو المهم هنا: كيف سيقرأ كيليطو بورخيس، أو بالأحرى: ما الذي سوف يشغله، في هذه الحال، من كتابات بورخيس تحديدًا ؟ 
ولا يتركنا الكاتب الذكي للحيرة، وكيف يتركنا والجواب هو عين الانشغال وجوهر الفكرة، فـ كيليطو سيقوم بما يُطلق عليه «القراءة المُوجَّهة»، وهي القراءة التي تبحث عن أشياء محددة في أدب بورخيس، وما سوف يبحث عنه هو الطريقة التي يتلقى بها بورخيس أدبنا. كيليطو إذًا يبحث عن نفسه في أدب بورخيس، أو لنقل: يبحث عن ثقافته في هذا الأدب؛ فالقارئ - أي قارئ - لا يُقبل على المقروء بذهن فارغ، ولكنه يقبل عليه بذهن مثقف، هناك أفق انتظار وتوقع، وهناك قدر من الغموض والترقب، يتجلى رويدًا رويدًا في مسارات المقروء.
وبالنسبة لحالتنا هذه فإن القارئ يترقب أدنى علامة تشير إلى الثقافة العربية، وهذا ما يُصَرّح به كيليطو: «ولا أُخفي أنني شعرت بفخرٍ واعتزاز بجانبه العربي (يقصد بورخيس)، لقد تم الاعتراف بي على الرغم من أنه لم يكن يخاطبني، وأنا ممتن له على ذلك، فكأن ما يجمعنا داخل في باب القربى والنسب. إنه ليس غريبًا، أو إن غرابته في ألفته». (ص13)
هل يمكننا وصف «القراءة الموجهة» بأنها نوع من «التخلي» عن أجزاء من المقروء لصالح التركيز على أجزاء أخرى، وإذا صح هذا الاستنتاج، ففي هذه الحالة يغدو «التخلي» فعلًا قهريًّا، بمعنى أنّ كل قراءة محكومة به، كل قراءة ترى أشياء وتتخلى عن رؤية أشياء أخرى- وهذه نقطة تحتاج إلى مراجعة، لنتركها الآن ولننظر في مفهوم التخلي بالمعنى المباشر، كما يتجسد في نموذج «دون كيخوته» الذي أبدعه الأسباني «سرفانتيس» (ت 1616)، وكما هو معروف، فقد حاول «دون كيخوته» تجسيد نماذج الفروسية على نحو ما تجلّت في الآداب التي اطّلع عليها، حاول أن يجعلها حقيقة معيشة، ولكنه في كل مرة يفشل، ورغم ذلك لم يفكر في التخلي عن الأدب أو بتعبير أدق، لم ييأس من فكرة ترجمة قراءاته الأدبية وتحويلها إلى واقع.
يتسع مفهوم التخلي في رواية «دون كيخوته» إلى أفق أكثر إثارة؛ فالمؤلف سرفانتيس يذكر أن الراوية مجرد مخطوط عربي عثر عليه في سوق طليطلة، وقام أحد المورسكيين بترجمته إلى الإسبانية نظير أجر محدد، واسم المؤلف كما يشير المخطوط هو «سيد حامد بن الأيلي»، وكما أننا لا نعرف اسم المترجم الذي تخلى عن حقوقه في الترجمة مقابل ما حصل عليه من أجر، فنحن كذلك لا نعرف ابن الأيلي الذي ينسب إليه المخطوطة، سيختفي ابن الأيلي، ليس هذا فحسب، ولكن الاختفاء يطول النص الأصلي، النص العربي الذي لم ينشر ولن ينشر، ولن نعرف مصيره.  
لقد استحوذ «ثيرفانتيس» إذًا على مخطوط ابن الأيلي، واكتفى بالإشارة العابرة إليه، رغم أنه على امتداد الرواية ينطق بروحه ويتحدث بصوته، شأنه في ذلك شأن شعراء اليونان مع ربات الشعر، وشأن شعراء العرب مع شياطينهم، هناك قوى غيرية تمنح الشعر قيمته، و«هذه الغيرية هي ما حدا بثيرفانطيس إلى التشبه بمؤلف عربي يختلف عنه في اللغة والدين والعادات. تخلى عن اسمه، عن هويته وتقمص هوية عربية». (ص24)
وما يمكن تأكيده أننا إزاء لعبة يمارسها سرفانتيس، وهي التخلي عن نصه لصالح رجل عربي اسمه «سيد حامد بن الأيلي».. كان سرفانتيس بذلك التخلي يمارس قدرًا من الغموض والإبهام، أو يسعى بصفة هزلية إلى الرّد على أي تحفظ محتمل من القُرّاء، فيقول: «إن الاعتراض الذي يمكن أن يُوجّه من حيث صدق قصتنا هذه هو أن مؤلفها من العرب». (ص27) 
فالتخلي هنا- فيما يرى سرفانتيس- له علاقة بالصراعات العرقية والدينية في القرن السابع وما قبله.. ولكن الملاحظ أن هذه التقنية (تقنية المخطوط) ستغدو واحدة من الحيل الجمالية لكثير من كتّاب الرواية في الشرق والغرب، دون أن ينفي ذلك بالطبع علاقاتها الاجتماعية والسياسية، لقد انتشرت تقنية المخطوط حتى باتت تشكل نمطًا كتايبًّا يحتاج إلى مزيد من الفحص والدرس، وذلك على نحو ما نجد لدى «أمبرتكو إيكو» في «اسم الوردة»، و«أنطونيو غالا» في «المخطوط القرمزي يوميات أبي عبد الله الصغير آخر ملوك الأندلس»، و«أمين معلوف» في «ليون الإفريقي»، و«يوسف زيدان» في «عزازيل»، و«واسيني الأعرج» في «البيت الأندلسي»... إلخ.
في حديثه عن رسالة الغفران يقدم لنا كيليطو مساحة أخرى لمفهوم التخلي؛ إذ يُقرّر أن الكتب والقصائد تجد رواجًا عالميًّا حين ترافقها قصّة ما تؤكد على مكانتها وقيمتها وتجعلها موضوعًا للحديث المستمر بين القراء والدارسين، وهكذا وجد كتابا «ألف ليلة وليلة» و«كليلة ودمنة» سبيلهما إلى الثقافة العربية لأن (لكليهما تاريخ ومسار)، والأمر نفسه نجده في كتاب طه حسين «في الشعر الجاهلي» ورواية نجيب محفوظ «أولاد حارتنا»، و«الخبز الحافي» لـ محمد شكري... إلخ
وبالنظر في أدب أبي العلاء نجد أن ديوان اللزوميات يثير كثيرًا من الجدل منذ صدوره بسبب قصته، ولكننا لا نجد الأمر نفسه مع رسالة الغفران، التي لم يلتفت إليها أحد لعدة قرون، ومع ترجمتها إلى الإنجليزية أوجد لها «رينولد نيكسون» قصة، حيث ربط - في مقدمته - بينها وبين الكوميديا الإلهية لدانتي - وبهذا باتت كتابًا تتداول بين القرّاء حكايته أو تسبقه حكايته فيتداول. 
كانت رسالة الغفران مجهولة، أو يمكنك القول، كانت في وضع «التخلي» ولكنها خرجت بفضل نيكسون من منطقة الظل هذه وصار لها حضور وذكر في الغرب ولدى العرب، بقدر ما صار لدانتي حضور في العالم العربي، لنقر إذاً - مع «كيليطو- بأن دانتي لم يكن ليترجم إلى العربية أكثر من مرة لو لم يرتبط بأبي العلاء.. (ص42)
تبدو القيمة الأساسية لمفهــوم «التخلي» في قدرته على رؤية الأنساق الثقافية والجمالية الفاعلة في إنتاج الأدب وفي تلقيه، باعتباره مفهومًا ذا طابع مفصلي، يتصل بشكل مباشر بالتحولات الفردية والاجتماعية، وهو لا يقتصر على الأدب القديم على نحو ما أشرنا؛ إذ يمكننا متابعته في الكتابات المعاصرة وفي فترات التحولات الاجتماعية أيضًا؛ أشير هنا، على سبيل المثال فحسب، إلى اضطرار الدكتوره عائشة عبد الرحمن (1913-1994م) تحت ضغط اجتماعي لا يتقبل وجود الأنثى في الفضاء الثقافي، إلى التخلـــي عن اسمـــها وتوقيــع مقالاتها بلقب مستعار هو «بنت الشاطئ»..!
وقبل ذلك ارتبطت بداية الرواية العربية باسم مستعار وضعه محمد حسين هيكل (1888 - 1956م) على روايتــه «زينب».. فقد كتبها وهو في باريس1911م يدرس الحقوق، ونشرها بعد عودته إلى القاهرة في1914م، لا لشيء إلا لأن الرواية تعد في المنظور الاجتماعي «فنًا تافهًا، وقد تقلل من قيمتـــه كمحامٍ، وربمـــا غيّب اسمه شعورًا منه أن الـــرواية نوع غريب على الأدب العربي، وأنه بكتابتها انفصل عن الأدب التقليدي وارتبط بالأدب الأوروبي». (ص88) 
وهكذا يضعنا مفهوم التخلي إزاء نسق التحولات النفسية والاجتماعية، ويمكننا، في هذا الصدد، اعتباره مفهومًا بينيًّا، يصل البحث فيه ما بين العلوم والمعارف، ولا يني التأمل فيه عن مزيد من الكشف والربط بين الظواهر الثقافية والمعارف المختلفة ■