كونيّة الإيقاع وتشكيل المعنى

كونيّة الإيقاع  وتشكيل المعنى

 يأخذ الإيقاع، عبر امتداده الزمني والشعري قطاعاً مهماً من الشعرية العربية، إذ هو (الدَّال الأكبر) كما وصفه هنري ميشونيك، فهو الذي يميز الشعري عن النثري، وبه تتحقق شعرية النصوص، بعيداً عن السجال المفتعل حول أهمية الإيقاع الشعري من عدمه، لكن، الثابت أن الشعر العربي لا يكون ولا يتشكل في جوهره وحقيقته المثلى إلا حين يلتحم مع الإيقاع، فلا غرابة، أن نجده «من أكثر الكلمات التي لها تأثير سحري، ولا يمكن أن يُحدد معناها تحديداً كاملاً، لم يأل كثير من علماء الشعر والجمال والبلاغة، ومن منظري الخطاب، وواضعي أوفاق النظر الشعري قديمه وحديثه، جهدًا في تحديدها دون جدوى، أرادوا تحديدها، لكن دون كبير نجاح" كما تنبه إلى ذلك الناقد المغربي عبد اللطيف الوراري.

 

من زاوية أخرى، يرى الناقد علي عباس علوان أنه «عبارة عن ترديد وتناوب متناسق لمقاطع يحسه الشاعر بفطرته إحساسًا فطريًا»، والثابت أن الرؤى والصور والانفعالات والأخيلة والفيوضات الشعرية والشاعرية لا تتأتى ولا تكتمل في دفقاتها دون إيقاع، فالقصيدة في كلياتها، مثل آلة بيانو تحتاج إلى أصابع ماهرة ناعمة، تتقن العزف حتى تخرج النغمة الموسيقية مكتملة. واضح إذًا، أن قانون الإيقاع في الشعرية العربية والكونية له علاقة وطيدة بالموسيقى، من حيث التمثلات الإيقاعية والاحتدام الدلالي والخصائص الصوتية والتقابلات اللفظية، وهذا ما أشار إليه علي يونس في كون الإيقاع هو «تردد ظاهرة صوتية ما على مسافات زمنية محددة النسب». 
إن كل المعطيات تُشير إلى أن الإيقاع يعد عنصراً محورياً في أي قولٍ شعري، ومن المهم الإشارة إلى أن الفاعلية الإيقاعية لا تتحدد إلا في اشتباكها مع باقي الأبنية الأخرى، وربما، وبدرجة وأخرى، تتقاسم هذا الدفق الشعوري والانسيابية وبناء المعنى في النص الشعري، ونتقصد به ها هنا، تلك العملية من الذوبان الخلاق بين العناصر التي تتكون منها الكتابة الشعرية، وأيقنة الخطاب، فـ «الأبنية الإيقاعية تكون قوية ومتجانسة بحجم عمق التجربة التي يعيشها المبدع، فالإيقاع شعور تجسمه المادة التي يتلبس بها ليتخذ شكلًا ماديًا، ويؤول إلى التجربة الشعرية ونوعيتها»، وإلى جانب ذلك، فإن النشاطية الإيقاعية لا ترتبط جوهرياً بنظامٍ إشاريّ إحاليّ على ما يأتي من التعبير الجمالي للبلاغة العربية، ومن تنظيرات علماء الجمال والشعرية فحسب، بل وجب النظر إليه من قانون الكونية، من تلك الأسرار الخفية التي تبثها الطبيعة في النفس البشرية، إننا نتحدث هنا عن كونية الموسيقى، ألا تطرب النفس لشدو الطيور في أعالي الشجر؟ ألا يشدنا منظر شلال مائي، وهو يحفر عميقاً في أرض العدم والصخور الناتئة؟ ألا نهب مصفقين لموالٍ غنائي أوبراليّ آسر؟ أليس خفقان القلب نوع من الإيقاع ؟ إن الإيقاع ليس أي شيء، وإنما، هو معاني وصور ورؤى وأصوات وانفعالات ومواقف تنسرب من الروح الإنسانية، ولا تجد ضالتها إلا في أذنٍ طروب تستلذ الأنغام والإيقاعات، وتتنسَّم بها، فبدون شك، «إن قوانين اللاوعي التي نجهل أسرارها تتدخل في صوغ هذا الإيقاع»، وعليه، فإن الإيقاع الشعريّ له صلة مباشرة بعملية بناء المعنى ومستويات التحول والتغير على مستوى الخطاب الشعري في كلياته، وبمثل هذا، تؤسس كل قصيدة إيقاعها الموسيقي- الوزني الخاص، انطلاقاً من فعل الكتابة في اشتباكه الدائب مع مكنونات الذات وقوة اللغة وعمق التّجربة. 

الأفق الشعري وتشكيل المعنى
يمكننا القول إذًا، إن البناء الإيقاعي لا يكون ذا معنى ما لم يتشابك دلالياً وتركيبياً مع الأفق الشعري، ونسج علاقات مع الأبنية الأخرى التي يتشكل منها الخطاب الشعري، لاسيما أننا نعيش اليوم على وقع نصوص متعددة الدلالات، مختلفة الرؤى والتصورات، ولابد من توافر نسيج من الإشارات يُمكننا من الدخول إلى عالم النص وتحديد خصوصياته الدلالية والتركيبية واللغوية والإيقاعية، «سعيًا وراء التواؤم الفني بين قيم النص الجمالية والبنائية من ناحية، ووظيفته الثقافية والاجتماعية من ناحية أخرى»، ووفق هذه المعطيات من تشكيل المعنى، فلا ينهض القول الشعري إلا به، مندغماً مع باقي أبنية الخطاب الشعري، ساكباً في القصيدة إيقاعات وترجيعات موسيقية، وفي هذا الصدد، لا بد من الإشارة إلا أن الشعرية العربية منذ القديم إلى وقتنا الراهن، لا تزال متعلقة بالنشاطية الإيقاعية التي يخلقها الشعر وتميزه عن ما هو نثري، وهو ما يعكس هذه القدرة المدهشة على التأثير في القارئ - المستمع - المتلقي، بغض النظر عن ميولاته ومواقفه ورؤاه، «وفي سياق علاقة التضافر بين الموسيقى والشعر، يرى الدكتور محمد مفتاح أنها تعتبر من المشاغل الكبرى التي تدرسها العلوم المعرفية والمعاصرة، وخير من يُمثل هذه العلاقة «كتاب الموسيقى» لأرستيد كانتليانوس، الذي جمع بين آراء فيثاغورس وأرسطوكسينوس (تلميذ أرسطو) وأفلاطون وأرسطو، وأفلطوين.. وهذا الكتاب مزج بين الآثار الهيلينية والأفلطونية المحدثة. وهي نظرية انتقلت إلى العالم الإسلامي، فتلقاها البعض بالقبول التام وابعض بالتعديل والتكييف. إلا أن ما قبله الجميع هو العلاقة بين الشعر والموسيقى، وخير ما يمثلها في الثقافة العربية كتاب «الأغاني» وكتاب «كمال أدب الغناء»، حيث يجد القارئ تداخلاً بين صناعتي الموسيقى والشعر». ومن جانب آخر، ترى الباحثة المغربية حورية الخمليشي أن «هناك علاقة وطيدة بين الشعر والموسيقى، لأن كلاهما يعبر تعبيراً ميتافيزيقياً وفيزيقياً عن رغباتنا الإنسانية العميقة لصلتهما بقيم الإنسانية في بعدها الواسع، فجاء تعبيراً عن هذه الروح الإنسانية الخالدة»، كما أن «أثر الموسيقى على الإنسان أكثر وأقدم من أثر الخطاب»، وهذه الإشارات تؤكد بالملموس، على أن العلاقة التي تجمع الشعر بالموسيقى، هي علاقة طبيعية، كونها متجذرة في الإنسان، عامرة بأسرار الكون والملكوت، ومن ثم، فإن التَّفجرات الإيقاعية والبناءات التي تتكئ عليها القصيدة - النَّص، لا بد لها وأن تندغم مع التجربة الذاتية للشاعر، تتداعى وتتناثر في عوالم الكتابة والوجود وتُنْصتُ بدهشةٍ وعمقٍ للدفق الشعريّ - الشُّعوريّ الذي يطوب الشاعر لحظة انبثاق القصيدة من رحم الخيال، في مسعى إلى تحقيق منشأةٍ شعرية درامية معبرة وموحيةٍ، فالحاجة دائماً مُلحَّةً إلى صوت المبدع - الشاعر لضبط تلك الدفقات وموْسقتها وأَنسنتها، باعتبارها تجربة. 
تجربة في الشعر، وفي الحياة، وفي الوجود، وفي الأسئلة التي تطرحها وتنسجها من أفق إلى آخر. ووفق هذا التَّصور، فإن «البناء الدرامي يظل غير متماسك تماسكًا كلياً، إنه في حاجة دائمة إلى صوت الشاعر الذي يرفعه إلى ذرى جديدة»، فالقصيدة تتخلق وتنبثق من كوامن الدَّاخل، تنسج إيقاعاتها من صوت الشاعر، ومن دمه وروحه وانفعالاته، قبل أن تتشرب كونية الإيقاع المنتشرة بشكلٍ لا مرئي بين ثنايا الطبيعة ■