تجليات الواقع في مسرحية «لمن القرار الأخير» لـ عبد العزيز السريع

تجليات الواقع في مسرحية «لمن القرار الأخير» لـ عبد العزيز السريع

يدخل الكاتب المسرحي الكويتي الكبير عبدالعزيز السريع في عمق الواقعية بقوة بمسرحيته «لمن القرار الأخير» التي صدرت عن السلسلة المسرحية (النصوص) دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة. تدور الأحداث في عام 1968م، جسّد من خلالها واقعًا صنعته الظروف الاجتماعية القاسية فدفع بشخصياته لتدخل صراعًا محمومًا معها، كاشفًا عن التحولات النفسية لها وارتباكاتها، استطاع السريع أن يقدم لنا مسرحية متكاملة البنى الفنية أدخل فيها كل التكنيكات التي ساهمت في خلق الجو الدرامي، مزج ما بين الأرسطي والبريختي، يوقف اللاوعي من أجل الوعي، التخييل في مواجهة تحطيم التخييل للمقارنة والمناقشة ومن ثم اتخاذ القرار، تمكَّن من صناعة شخصيات من الواقع الكويتي أو الخليجي بشكل عام، يمكنها أن تقف في مواجهة أزمات الواقع وسطوته ومحاولة مناقشة قضاياه؛ الأبناء واعتمادهم على عائلاتهم بشكل كامل فكبروا وهم لا يقدرون على تحمل مسؤولية الحياة خارج نطاق العائلات، يحدث الصراع بين الأجيال حول رؤية الواقع وكيفية مواجهته، والتعامل معه وفق ظروف مادية ضيقة. 

تطرح المسرحية التساؤل المهم؛ هل يحتاج الزوجان للعائلة بعد الزواج، أم يستطيعان تحمل الحياة بظروفها القاسية بعيدًا عن وصاية الكبار؟ الأبناء في مواجهة الكبار، والأبناء في مواجهة الواقع، تلك هي الحبكة الأساسية التي بنى عليها السريع الدراما. حينما يتأزم الواقع بكل تجلياته ويضع الشخصيات على مقصلة التردد وعدم اتخاذ القرار، أو مأزق الخيار التقليدي، يطفو السؤال؛ لمن القرار الأخير الكبار أم الأبناء؟ يفكك السريع الواقع ويعيد بناءه، جاءت الحبكة لتصنع الحدث الذي يتصاعد تدريجيًا، بينما استخدم اللهجة الكويتية التي كانت بمثابة الثوب المناسب للحبكة والشخصيات لتليق بالواقعية وتدفع بها نحو الذروة.
جاء «إبسن» ليضيء شعلة الواقعية الإبسنية في الموضوع والأسلوب والتكنيك، فهجر الموضوعات القديمة التي كانت تناسب العصر الفيكتوري بقيمتها الزائفة ونهاياتها السعيدة، فجعل مسرحياته مرآة للعصر والمجتمع، تمتزج بالمشكلات الاجتماعية وصنع منها مرآة لمأساة الإنسان الروحية وصراعه مع القوى الطبيعية والاجتماعية وأشباح الماضي والعادات والتقاليد السائدة، إن الدراما الحديثة ارتبطت بـ «هنريك إبسن»، فأصبحت الإبسنية علامة الثورة الدرامية في المادة والتكنيك، بمعنى أنها تناولت بالتحديد كلًا من الموضوع والأسلوب والتكنيك، لكن يجب أن نسلم بأن شهرة «إبسن» قد ارتبطت بإدخاله الواقعية في المسرح. أفاد يوجين أونيل من الواقعية وجاءت موضوعاته لصيقة بالمجتمع ووضع شخصياته في صراع محتدم مع قوى طبيعية ومع شخصياتها، ونال شهرة عريضة بمسرحيات البحر التي برع في بنائها الدرامي.
 كذلك أفاد عبدالعزيز السريع من الواقعية وتجلت في مسرحية «لمن القرار الأخير»  ووضع شخصياته في صراع مع الواقع وأزماته وقضاياه المتشعبة.

فصول المسرحية
 يضع مسرحيته في ثلاثة فصول، يفتتح الفصل الأول بتحديد عنصري الزمان والمكان؛ مكان في منزل الأسرة في صيف 1968م، يناقش الفصل الأول قضية الزوجين، وليد وثريا، اللذين تزوجا حديثًا في منزل عائلة الزوج وليد، تطفو المشكلة الأولى إذ تواجه الزوجة خلافًا بينها وبين والدة زوجها وتشعر بأنها تائهة وتلوذ بمنزل أبيها كحلٍ مؤقت، يحاول سامي شقيق الزوجة التدخل لكنه يفشل ومن ثم تلجأ لأبيها الذي يحاول وضع الحلول من وجهة نظره، تطلب ثريا أن تعيش في شقة بعيدًا عن الخلافات، لكن وليد لا يستطيع اتخاذ قرار خشية الفشل في الاستقلال ويطلب أن يأخذ رأي أبيه الذي يعيش بعيدًا، ثم يتحجج بأنه لن يقدر على نفقات الحياة في شقة بشكل مستقل، ويتفاقم الخلاف إلى أن يصل والد الزوجة بضرورة وجود شقة وأنه مسؤول عن اتخاذ القرار.
يعتبر «إبسن» أعظم فنان عالج الشكل المسمى بالدراما الحديثة، والذي تحول فيه الاهتمام الدرامي من الفعل العنيف إلى ما يحدث في عقول الناس، ولقد ساعد «إبسن» في ذلك شاعريته بالنفس الإنسانية، وقدرته على خلق تتابع أحداث تسبب تغييرات درامية في شخصياته، ثم تمكن من جعل تلك التغيرات الداخلية قوة تدفع الأحداث وحواره الذي يكشف عن ذلك الشيء المخبأ في نفوسهم، كلمات قد لا تعرفها الشخصيات نفسها، ولكنها تنبع تلقائيًّا من واقع ظروفهم النفسية والاجتماعية ويبدو للمشاهد كما لو كان طبيعيًّا ومقنعًا.
يمزج عبد العزيز السريع بين السرد والحوار، بعبارات موجزة ولغة ثرية، هي مفتاح النص ومن خلالها يبني علاقة وثيقة بين النص والمتلقي؛ تلك العلاقة تستند إلى وجود راوٍ عليم يختبيء خلف عباءة المؤلف استهل حديثه بشكل مباشر وأكد على وجود تماه بين الخيال والواقع، جاء بالراوي ليعلق على الأحداث التي يبدأها بأبيات من الشعر ليصور الجو الحالم الذي يعيش فيه الزوجان في بداية حياتهما، أن يكون الواقع في أجمل صوره، يصل الحدث الدرامي إلى نقطة التحول الدرامي من الحدث الأرسطي القائم على الإيهام والذي استطاع أن يقود الحدث لكي يتصاعد نحو الذروة ثم يهبط به نحو التحول الدرامي، ثم الخروج بالحدث الأرسطي إلى الحدث البريختي القائم على التغريب وكسر الإيهام لوضع المتلقي في حلبة الحدث المسرحي إن جاز التعبير ووضعه في المواجهة مع الوعي الذي فجرته حالة هدم الجدار الرابع، وانتقاله السلس من اللاوعي إلى الوعي لينجح التكنيك المسرحي وكشف عورة الواقع بحضوره المتدهور، يستطيع الراوي بداية الحدث وإنهائه، فيرسم لنا الأوضاع الاجتماعية ويحدث الجمهور ليكسر الجدار الرابع ليترك الفرصة للمتلقي أو الجمهور للمقارنة والمناقشة وربما وضع الحلول التي تتماس معه في حياته، يقوم سامي بدور شقيق الزوجة والراوي في آن واحد، يحاول التدخل في الخلافات وتقريب وجهات النظر، ويلبس القناع ليؤدي دوره كراوٍ ينقل الأحداث ويعلق عليها ويحدث الجمهور.
عرّف أرسطو الدراما بأنها: «محاكاة لفعل إنسان» وتنطلق نظرية أرسطو في الدراما من فكرته عن «المحاكاة»، وإن كان قد أخذ هذا المبدأ عن أفلاطون، فإنه جعل المحاكاة للشخصيات والانفعالات والأفعال، إن المسرح الواقعي مستمد من الواقع بعيدًا عن الخيال، وإن وجد في النص المسرحي الواقعي خيالا أو أحداثا فهذا ضمن الإطار الخارجي للمسرحية، بمعنى أنه يصب في خدمة موضوع المسرحية التي تعبر عن واقع مؤلفها ومجتمعه.
 احتك الكاتب المسرحي عبد العزيز السريع بالواقع الذي يعيش فيه وفهم آلياته فخلق من طينته مسرحًا يشبهه، مسرح ذو بناء درامي لا ينسخ الواقع بل يفككه ويعيد بناءه بشكل فني متماسك.
البناء الدرامي في مسرحية «لمن القرار الأخير» يعتمد على التحولات الواقعية في حياة الزوجين؛ وليد وثريا، التي كان يعول عليها نمو الحدث الدرامي من خلال الحبكة الرئيسية ولكن كانت تقطعها المشاهد البريختية والتي شيدها السريع لمزج الواقع المتخيل والواقع الحقيقي الذي يتجسد في المتلقي، ساهم هذا المزج في البناء الدرامي وفي نفس الوقت أضفى عليه الشكل الجمالي، كما ساهم في بناء الشخصيات والتخفيف من حدة التوتر الناجم عن شدة الخط الرئيسي للأحداث.
جاء سامي بوصفه الراوي ليقوم بدور الوسيط الواقعي الذي يفتتح الحدث الدرامي ليقوم بدور التغريب الذي يوقف الحدث المسرحي لكسر حالة الإيهام وتفكيك الواقع ليلقي تساؤلات ويكون في حالة وعي ذي دلالة تخالف إلى حد كبير حالة اللاوعي التي تسود الشخصيات التي تكون العامل الأساسي في نمو الحدث المسرحي بشكل تلقائي، كما يكون له دور في السلوك والضعف الإنساني للشخصيتين الرئيسيتين وارتباكاتهما ورؤيتهما سواء كانت صائبة أم خاطئة حول المجتمع. 
سامي: طبعًا... لازم نغير سلوكنا، لازم نفكر بصوت عالي، أنا ودي أوصل كلامي لكل الناس، وهذا اللي أبحث عنه، أبحث عن الطريقة اللي توصلني للكلام مع الناس.
وليد: انت بأي منطق تتكلم؟
سامي: منطق العقل، منطق المناقشة، المنطق اللي لازم يعم، كل واحد لازم يتساءل، كل واحد لازم يشك،  يناقش، يتكلم. 
يرى الدكتور عبد العزيز حمودة أن الحدث البسيط لا يختلف عن الحدث المركب إلا في استخدام الأخير للحظة الانقلاب أو التعرف أو الاثنين معًا، وعلى هذا الأساس - مثلاً - يكون الحدث في أجاممنون حدثًا بسيطًا، بينما يكون الحدث مركبًا في مسرحية أوديب ملكًا لأنها تستخدم الانقلاب والتعرف معًا، في مسرحية «لمن القرار الأخير» نجد أن الحدث بسيط «حياة زوجين يواجهان الحياة» تتجمع من خلاله خيوط درامية تؤدي إلى لحظة محددة من قبل ولم تحد عنه بل أنها كثفت من دراميته وجعلته يتوهج تمامًا.
يصور السريع في الفصل الثاني حياة ثريا ووليد في الشقة التي انتقلا إليها بعيدًا عن وصاية العائلة أو المجتمع بشكل عام، تبدو فيها الحياة وردية، استطاعا أن يندمجا في المجتمع من خلال أصدقاء ومعارف في حفلات اجتماعية، هذا الاندماج يمثل نجاحًا في الخروج من سطوة ووصاية العائلة، ربما كان هذا النجاح سببًا في ظهور مشكلات أخرى للزوجين، أو عبئًا على ميزانية الأسرة الصغيرة التي تواجه الحياة. يمثل الفصل الثاني وجه الحياة الجميل على الرغم من وجوده فوق سطح ساخن يمكن أن ينفجر في أي لحظة. 
إن الواقعية لا تبشر بشيء ولا تدعو إلى سلوك خاص في الحياة وإنما كل همهما هو فهم واقع الحياة وتفسيره على النحو الذي تراه، جاءت الشخصيات؛ سامي، وليد، ثريا، أبو سامي، في مسرحية «لمن القرار الأخير» متسقة تمامًا مع الحدث وساهمت في البناء الدرامي إذ أنها دينامية وجاءت من نسيج المجتمع وعبرت عنه بشكل حقيقي. استطاع عبد العزيز السريع أن يمنح شخصياته القدرة على الفعل الدرامي دون خطابية أو افتعال غير مبرر، كما منحها العمق من خلال اللهجة المحلية التي تنطق بها.
جاء الفصل الثالث بوصول الحدث الدرامي إلى الذروة، أظهرت الحياة للزوجين وجهها القبيح، تصاعد الحدث وتفاقمت المشكلات، واجهت ثريا مسألة الاستقلال في شقة توقف الحياة بتوقف الآلة (الغسالة) ومن ثم حدثت الفوضى وفشلت ثريا في التعامل مع مفردات الحياة اليومية، وفوجيء وليد بالفوضى ورغبة ثريا في وجود خادمة وخادم لكنه لا يستطيع تحمل نفقات وجودهما في شقة صغيرة، يحاول سامي التدخل لكنه يفشل كونه شابًا بلا خبرة، وحينما يلجأ الزوجان إلى والد ثريا يعرض عليهما الانتقال في منزل آخر سيقوم هو وشقيقه بتأثيثه، يمثل هذا العرض وصاية أخرى من والد ثريا، لكن وليد يطلب وقتًا كي يتحاور مع ثريا حول هذا العرض وفي نهاية الأمر يخرجان وقد اتخذا القرار المهم، القرار الأخير بأن يتحملا الحياة في الشقة دون وصاية أو تدخل من العائلة، أن يواجها الحياة بكل مشكلاتها وأزماتها، يحاولان أن يخلقا من شخصيتيهما نموذجين آخرين يواجهان الواقع بكل حمولاته وهو الخطاب المسرحي الذي سعى إليه السريع منذ البداية.
وليد: لا يا عمي، أنا وثريا بنبقى هنيه، هذا قرار.
أنا وياها تفاهمنا، بنبني حياتنا بأيدينا، ملينا من الوصايا، نبني حريتنا، بنبني حياتنا على كيفنا، هذا آخر قرار لنا، بنتحمل ونتحمل، ونبني مستقبلنا ونحسن أحوالنا.

لغة السهل الممتنع
جاءت اللغة في مسرحية «لمن القرار الأخير» في ثوب العامية الكويتية تناسب المكان والحدث والشخصيات وتكرس للواقعية، وتحمل في طياتها دلالات متعددة كما أنها تناسب كل شخصية من الشخصيات، وكان لها العامل الأهم في نمو الحدث المسرحي. بالإضافة إلى ذلك تمثل اللغة الضلع الأساسي في تطور الحدث الدرامي إذ أنها حققت هدفها في رسم الشخصيات وحشدتها لإضفاء حالة من الواقعية على الحدث المسرحي. تلك اللغة التي على الرغم من بساطتها تمثل السهل الممتنع لأنها جاءت بصورة تناسب كل لسان ينطق بها دون زيادة أو نقصان وكأنها وُضعت بقطارة. صاغ عبد العزيز السريع الحوار بطريقة تجعله ينسجم مع الموقف وتكثيف العبارة.
جاء الغلاف بوصفه بوابة المسرحية البصرية في شكل بورتريه في مربع لشخص كويتي يتناسق فيه اللون الأبيض الذي يمثل البورتريه وبقية الغلاف. يعبر البورتريه عن حالة الاندهاش الممزوج بطرح التساؤل الذي يطرحه العنوان. جاء العنوان «لمن القرار الأخير» بصفته العتبة اللغوية للنص في لون أبيض ليؤكد دعمه لصاحب البورتريه والتساؤل وأهميته ورسوخ مضمونه وأنه يحمل في ذاته أسرارًا ويخفي أكثر مما يظهر، كما يؤكد على وجود علاقة دلالية بينه وبين الغلاف، بحيث يمكنهما أن يأخذا بيد المتلقي للولوج إلى النص لكشف خباياه، ومن الناحية التركيبية تعرب جملة «لمن القرار الأخير» اللام حرف جر ومن اسم مجرور خبرًا مقدمًا والقرار مبتدأ مرفوع مؤخر الأخير نعتًا مرفوعًا. توجد علاقة متينة بين العنوان والخط المكتوب به، يحمل العنوان عدة تأويلات ورموز محددة ويتسق تمامًا مع المتن الذي جاء به السؤال وهي  يمكنها أن تقودنا إلى فك شفرة العنوان.      
استطاع الكاتب المسرحي عبد العزيز السريع أن يقدم لنا مسرحية من قلب الواقع الكويتي، ناقش من خلالها قضايا وأزمات وارتباكات الشخصيات من خلال حدث ظل ينمو ويتطور حتى يصل إلى الذروة ولم يكن يقطعه سوى كسر الإيهام من أجل طرح الأسئلة وعقد المقارنات بين ما يحدث فيها وما يحدث مع المتلقي للوصول إلى حل مناسب للخروج من أزمات الواقع الذي يلقي بظلاله على الشخصيات. قدم السريع عملًا يمس الإنسانية في كل مكان، ومكَّن الشخصيتين الرئيسيتين من الفعل الدرامي الذي يرضي المتلقي فيتجاوب معه ويقلده، فكك الواقع وأعاد تركيبه في دراما إنسانية صالحة لكل زمان ■