ما قصة فيلم ميغالوبوليس لفرانسيس فورد كوبولا ؟

ما قصة فيلم  ميغالوبوليس لفرانسيس فورد كوبولا ؟

بعد ثلاثة عشر عامًا من فيلم «تويكست» فيلمه الأخير، والمتعلق بالحكاية السياسية المستقبلية، يعود فرانسيس فورد كوبولا إلى السينما بميغالوبوليس، وهو بالمناسبة مشروع كان قد بدأ التفكير فيه منذ أكثر من 40 عامًا وقام بتمويله بنفسه بعد رفض العديد من استديوهات هوليوود ذلك بميزانية تقدر بـ 120 مليون دولار.

 

للعلم فقط فإن مدة العرض، ساعتان و13 دقيقة، وقد تم عرض الفيلم لأول مرة في 17 مايو 2024 في الدورة السابعة والسبعين لمهرجان كان السينمائي، حيث كان التنافس على جائزة السعفة الذهبية. ومن المعلوم أن المخرج اعتمد على حقائق تاريخية حصلت خلال الحكم الروماني وما شهده من انقلابات ودسائس.  

استقلالية أم مجرد فذلكة إخراجية؟
أقل ما يمكننا قوله عند رؤية العمل هو أن روح الاستقلالية والريادة ميزتا مخرج   Apocalypse Now  في كثير من الأحيان لدرجة أنهما أصبحتا أكثر وضوحًا من أي وقت مضى. تم تقديم هذا الفيلم اللافت للفضول بنفس فلسفي يمجد إصرار سبينوزا على الرغبة مقابل كل أشكال الحواجز التي توضع أمامها لإعتاقها من خلال المقدمة الممسرحة للتعبير عن ملحمة رومانية، لاحظ الإكسسوارات والملابس، تم نقلها زمنيًا وفضائيًا إلى مدينة أمريكية حديثة أعيد تسميتها «روما الجديدة». ويفترض ذلك الانطلاق من حبكة مسلسل تلفزيوني تعلن فيه  الشخصيات على الفور عن مشاعرها وتصميماتها بشكل علني في حوار يبسط خطة عملها. نتابع الصراع العلني بين سيزار كاتيلينا (آدم درايفر)، المهندس المعماري العبقري الذي اخترع مادة معجزة وتخيل مدينة مستقبلية طوباوية، وفرانكلين شيشرون (جيانكارلو إسبوزيتو)، عمدة روما الجديدة الذي يرغب في إعطاء الأولوية للإدارة اليومية لمدينة مهددة بأزمة اقتصادية واجتماعية خانقة بين قطبي الصرامة الإدارية والحرية الإبداعية.
مجموعة من الشخصيات  الأخرى (ابنة العمدة التي تلعب دورها ناتالي إيمانويل، ثم الصحفية عديمة الضمير التي تلعب دورها أوبري بلازا، والتي أتقنت دورها بامتياز، وذلك من خلال مقارنتها بمهندسي المستقبل. يبدو أن فرانسيس فورد كوبولا يدين فراغ الخطاب الجماهيري، واستغلال الثقافة الشعبية على حساب التفكير الفكري الحقيقي. يمثل واو بلاتينيوم هذه الشاشة التي تفصل الإنسان عن المعرفة، وهو حجاب من الوهم لن يتمكن من رفعه في رحلته نحو النور.  
يعيد الفيلم عرض الصراع الأبدي بين رومانسية الحالمين وجشع الآخرين، على خلفية من الانهيار الأخلاقي في الولايات المتحدة، وهو ما يذكرنا بالظل الذي ألقاه دونالد ترامب على الديمقراطية الأمريكية (التلميحات إلى هجوم عام 2021 على مبنى الكابيتول التي تتخلل القصة، ولا يوجه المخرج أي نقد مباشر للمجتمع الاستهلاكي الفارغ الذي نعيشه هو فقط يلح أنه مجتمع قائم على الإبهار بالصور).
ولكن يبدو أن أكثر ما يثير اهتمام كوبولا هنا ليس هو الفذلكة الإخراجية من حيث تفكك الروابط بين المتتاليات أو الدفع بأفكار غير معالجة أو طريقة القطع في المونتاج، بل  تقديم عالم حسي وجو فني لا مثيل لهما، مليء بالألوان المتلألئة والتجارب البصرية المصنوعة من تركيبات صور تستحق وصفها بالتعبيرية الألمانية لفريتز لانج (متروبوليس في تناص ما حول الاسم ذاته) أو مورناو (داون)... وبالتالي فإن هذه التجربة تولد أحاسيس رائعة بالغربة عن الواقع يرتبها المخرج محاولًا رمينا في تجربة بصرية تفوق الخيال العالمي.
يقدم المخرج البالغ من العمر 83 عامًا في نفس الوقت شكلًا من أشكال الحرية السردية ومن خلال كتابة السيناريو تغيب عنه أحيانًا تلك الخطية الكلاسيكية، والذي يؤدي إلى حوارات تكون في بعض الأحيان مبتذلة بشكل مربك (تتقاطع فيها الاقتباسات الأدبية وهنا تذكير بطريقة جان لوك غودار) والعبارات الفلسفية من ماركوس أوريليوس) والحبكات الفرعية الصغرى، وهو ما أعابه عليه الكثير من منتقديه الذين قالوا إن فرانسيس فور كوبولا  هو سيزار روما ذاته وغروره هو ما دفعه لصرف المال الكثير على مشروعه.
من هذا اللقاء الواسع والمتشابك  بين الومضات البصرية والتداخل الموضوعاتي، يرسم الفيلم شخصيات هذيانية لا يمكن تصنيفها لعبتها ابنته أيضا، حيث يطفو على السطح إيمان  كوبولا بقوى الفن والسينما وبالعواطف الغرامية، وكأنها الأكثر قدرة على التغلب على حقد الإنسان وعنفه ودناءته بمسحة فلسفية تنتقد قيم حضارة متوحشة فقدت بريقها وطحنت الإنسان.

فيلم خارج التصنيف 
إننا وراء طموح عمل يمزج بين الكوميديا الساخرة والميلودراما العاطفية والخيال العلمي وأفلام العصابات، نبدأ في الاعتقاد بأن مدينة ميغالوبوليس، والتي تحيل في أصلها الفرنسي بالإنسان المختل أو الأحمق، حيث تحوي صورة ذاتية صادقة عن المخرج ذاته، والذي يصرح هنا مرة أخرى من خلال مدى صعوبة تعايش رجل الأعمال الوحشي مع الجوانب الشاعرية للحب والحياة. وبالتالي يصعب فصل رؤية المخرج كوبولا كفرد عن مصير أمريكا ذاتها وتطوراتها السياسية. إن هذا الفيلم الذي ينقل صورة مدينة وزمن غابرين إلى واقع يعاش ينتهي به الأمر إلى حمل رسالة ذات أهمية وبعدًا راهنًا للغاية بل تنبئيًا كما تعود على ذلك المخرج دائمًا.
يحكي فيلم (Megalopolis 2024) قصة مهندس معماري حزين منذ وفاة زوجته، والذي يخترع Megalon مادة جديدة ذات خصائص مذهلة، أصلب من الفولاذ، وأكثر قزحية وخفة من أجمل الأقمشة، وأسرع من الفضة الزئبقية، وأكثر ترميمًا للبشرة، إذ أن الضوء المركز لذلك الإختراع سيجعل العالم أكثر جمالًا وربما الإنسانية خالدة. إن الميغالون هو استعارة للسينما، حيث إن الفيلم أيضًا يستحوذ على الواقع ليجعله أكثر جمالًا، وأكثر احتمالًا وهو تحويل العالم إلى صورة، يلتقط الوقت ليوقف تدفقه، يهدي فرانسيس فورد كوبولا فيلمه إلى «زوجته الحبيبة»، إليانور كوبولا، التي يصور ذكراها في هذا الفيلم، حيث بطلته كاتيلينا سيزار، وهي أرمل مثل المخرج، وُهبت بفضل ميجالون القدرة على إيقاف الزمن، لكن إيقاف الزمن يعني درء الموت، حيث التقاطع من أعرق الأساطير في محاولة الحصول على الأبدية، يمكن للميجالون، الفن، أن يخفف من حدة قهر الوقت العابر خلال فترة الحلم، وهو الحلم الذي يأخذ كاتيلين شكل مدينة فاضلة، ميغالوبوليس.
يلتقي لانغ وفيليني ومايكل باول، في إعادة صياغة إبداعية، أحيانًا ممزوجة بالإعجاب بقوة التكنولوجيا الرقمية، إنه تزامن زمني، حيث لا يزال الاتحاد السوفييتي موجودًا، حيث لم تكن نيويورك تسمى في البداية نيو أمستردام ولكن روما الجديدة، ويبدو أن كوبولا يبدأ من قصة مؤامرة كاتيلين، في ظل روما القديمة، ليروي قصة مختلفة تمامًا. باختصار، كوبولا مجنون يرقص، يسمح لنفسه بفعل ما يشاء، تائه في أعالي المثالية، ويوظف السردية الفيلمية كلعبة تتماشى مع كيفية تصوره للأشياء وللعالم.

نكون أو لا نكون  استعارة سينمائية 
في بداية الفيلم، نواجه عاصفة من الصور مع تعمد لتحرير عين المشاهد مما تعود عليه كي نتساءل عن جدوى ما نراه، وبعد ذلك يظهر المشهد بسرعة كبيرة وهو بمثابة عرض للحبكة. مشهد غريب جدًا: يجمع كوبولا كل أبطال القصة كما لو كانوا على خشبة مسرح: المهندس المعماري صاحب الرؤية كاتيلينا، عدوه شيشرون عمدة نيويورك، ابنته جوليا التي ستقع في حب كاتيلينا، ابنة عمه كلوديو، مهرج حريص على الانتقام، يحلم بأن يكون دكتاتورًا فاشيًا، الصحفي واو بلاتينيوم، الذي يخاطبنا أمام الكاميرا وكأنه يكسر كل حواجز السرد بين الروائي والوثائقي، ويعطي المشهد بُعدًا مريبًا وتوثيقيًا، باستثناء أن كل هؤلاء الأشخاص ليسوا على مسرح بالفعل، بل يتواجدون، في شفق المساء، على سقالة متهالكة تطل على نموذج مدينة ميغالوبوليس، مدينة المستقبل التي تدعي كاتلين أنها تبنيها رغم كل الصعاب. 
هذا المشهد كاف لوحده ليعلن ويكشف عن طبيعة الفيلم بأكمله، بسيناريو وشخصيات عديمة الوزن، هشة ودانتيسية محيلة على قيامات محتملة، إذ تبدو جاهزة للانهيار في كل مشهد أو تقريبًا، تحت فيض رؤاها الهابطة ومرجعياتها المتعددة، وعندما تشجب كاتيلينا خطبة هاملت، فإننا لا نفكر في شكسبير بقدر ما نفكر في المعنى الأساسي لـ «نكون أو لا نكون»: ما هذا الفيلم، ما هو، ما هو، ما هو؟ وعن ماهية النظام الذي ينتمي إليه؟ إن الميزان في هذا المشهد الجاثم على سقالة يفتح تحت أقدام المشاهد مجالًا كاملًا من الفرضيات والأسئلة عن الوتيرة التي سوف تتقدم بها مفاصيل القصة باختصار، يضعنا كوبولا على الفور في موقف المتفرج كحكم وطرف: وكأن الأمر متروكًا لنا لنقرر ما إذا كنا سنستقبل أو نرفض هذه السينما من النوع الهجين ، حيث يُسمح  بمقتها أو الإعجاب بها أو سلك طريق ثالث لا معالم له. 

تجريبية بوعي سياسي 
نكاد نحس أن هناك أجزاءً كاملة من السرد قد اختفت أو ظلت خفية، وشخصيات مسرحية تائهة ، لكن لا يمكن الإنكار أن فيلم ميغالوبوليس بإمكانه أن يتباهى بإنتاج العديد من الصور الخارقة  التي استطاع كوبولا أن ينسجها  بنفس تجريبي لم يتوقف أبدًا طوال حياته المهنية عن الرغبة في تحقيق طرقه المتفردة في الحكي، بنجاح أكثر أو أقل، من العديد من التأثيرات، والعديد من المواد، والعديد من العصور، وهو أقل كلاسيكية بكثير، على الرغم من أنه أكبر سنًا، من صانعي الأفلام مثل سبيلبرج وسكورسيزي. 
كيف يمكننا أن نمثل سينمائيًا اجتماعًا سياسيًا اليوم في بلد شهد بروز ظاهرة دونالد ترامب، الشخصية الهزلية وكأنها مهرج أحمق خرجت من حلم مزعج، ليصبح رئيسًا، هل كلوديو هو الدكتاتور المتدرب الذي يثير الغرائز الشريرة لدى الجماهير، أكثر كاريكاتير من ترامب نفسه؟ من المؤكد أن كوبولا ليس فيليني، الذي لم ينكر في رؤيته المحسوبة على دانتي للعصور الرومانية القديمة في ساتيريكون القواعد الجمالية للجمال الكلاسيكي بل هو جمال من صنع مخيلة كوبولا الذي يشكك أصلًا في وجود قواعد سينمائية.
متل المدن الكبرى على عدة عصور، وعوالم عديدة، والتي يمثلها كوبولا من خلال التركيبات البصرية تصل أحيانًا إلى شاشة منقسمة، لكن الفيلم ولد في العالم من قبل. ليس فقط لأن كوبولا جمع الأفكار الأولى التي ولدت الفيلم في الثمانينيات، ومن هناك جاءت هذه الشخصية التاريخية التي جعلت  العالم الماضي بين قطبين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة التي باتت إمبراطورية مهيمنة في عالم ليس متعدد الأقطاب كما عهدناه سابقًا. لكن الاعتقاد بإمكانية وجود مادة مثل الميجالون قد يفضي  أي إيمان متجدد بالعبقرية البشرية لإنقاذ مصيرها الكالح. 

فكرة القيامة والأفق المظلم 
إن فكرة وجود كائن حي يعدنا بمستقبل مشرق وسط لحظات القلق التي نخشى فيها الكوارث، حيث إن الذكاء الاصطناعي قد يسمح لنا باكتشاف مواد جديدة وهو على وجه التحديد ذكاء منافس نخشاه أبدًا لكنه بالمقابل قد يكون نقمة أكثر منه نعمة. هذا التفاؤل الصريح للفيلم، الذي يصالح بين الجماهير والأطراف الأخرى، سيعمل على تحقيق المصالحة المهمة جدًا بالنسبة لكوبولا أي بين كاتيلين وشيشرون، اللذين يمثل كل منهما مبدأ (كاتالينا عالم ميغالودون الجديد وشيشرون العالم القديم). كما أن نوعًا من  التقارب العائلي سيحصل بين جوليا والطفل الذي ولد وبذلك ستحل المصالحة لتخفو وتيرة الفيلم الغاضبة.
لكن هل يظل الفيلم غارقًا في السوداوية والتشاؤم بقدر بني البشر فقط أم ينبغي لنا أن نصف هذا الحكم  بقدر من التفاؤل المحدود. إن هذا التفاؤل الأخير تسبقه رؤى الألآم والكاوابيس التي تتوالى طوال الفيلم: تماثيل استعارية عملاقة، تمثل المُثُل العليا، تنهار في الليل، وأشكال ملتوية تسقط ظلالها على ناطحات السحاب عندما يسقط حطام قمر صناعي.
 هل تنبأ الفيلم بالخوف من نهاية العالم الذي يسير بشكل محتوم نحو الهاوية تحت أقدام الشخصيات في مشهد السقالات؟ وما رمزية بكاء الطفل؟ هل ابنة كاتلين وجوليا هي وعد المستقبل أم مجرد توقف جديد للبشرية في مسيرتها نحو الأبدية؟ 
وإذا توقف الزمن فمن سيعيده لهذا الطفل ليبشر بفجر جديد؟ وهل الفيلم مجرد حلم طوباوي لمخرج ركب موجة الرسل للتنبؤ بمستقبل البشرية ؟
قد نعجب بفيلم كوبولا الأخير ميغالوبوليس وقد لا نفعل، المهم أن الفيلم أثار العديد من الأسئلة المتعلقة بجماليات التلقي، ووضع على المحك مسألة التذوق الجمالي والمسافة الواجب اتخاذها قبل إصدار أحكام على أفلام لا تمر علينا مرور الكرام. من هذا المنطلق، يبدو أن هذا الفيلم المنفلت من صرامة التحديد، ومن توقيع مخرج بصم تاريخ السينما ينسج خيوطه العنكبوتية حول حكاية مستقبلية  مترامية الأهداف والأطراف ومثيرة للقلق والتشويش الذهني والوجداني معًا، فضلًا عن كونه عمل  غير قابل للتصنيف، حيث تتمازج فيه نغمة المسلسلات مع الرؤى المبهرة، والإيمان غير القابل للتغيير بالقيم الإنسانية من خلال تجربة أقرب إلى  السريالية، مع الإشارة للإعجاب بالتفوق الماسوني للبناء المتكامل والسعي نحو الأنوار ■