أحمد السقاف شاعرًا
أحمد السقاف شاعرًا
يقع الزمن الشعري لأحمد السقاف بين الأربعينيات والسبعينيات من القرن الماضي، أي في زمن نهوض وطني وقومي. فالصهيونية كانت متأهبة للاستيلاء على فلسطين، كما كان الاستعمار الغربي يجثم على الأرض العربية في مشرقها ومغربها، وكان نضال العرب ضدهما في أوجِه. وقد كان من الطبيعي لشاعر كويتي ذي نزعة عروبية أن يواكب هذا النهوض. وأن يحمل شعره صدى معارك الوطن ضد أعدائه، وأن يحرّض على الجهاد والتضحيات. مَن يقرأ ديوان أحمد السقاف يجد أن نصفه على الأقل موهوب لأمته العربية. فما من مناسبة قومية شهدها الوطن العربي إلا وعرفت طريقها إلى شعره، فغنّاها على هذا المنبر العربي أو ذاك، ويحمل شعره القومي حرارة لا يخطئها قارئه. إنها حرارة الفتى العربي الذي تعاونت على تكوينه كشاعر مكونات عدة: فقد ولد في الكويت البلد الذي ينطبق عليه قول الشاعر القديم: «إذا القوم قالوا مَن فتى خلتُ أنني كما أنجز دروسه الجامعية في أواخر الثلاثينيات في بغداد، وهي يومها بؤرة ملتهبة من بؤر العروبة. ولا ننسى التراث العربي القديم الذي أحبّه الشاعر لدرجة العشق، أو لدرجة اعتقال الذات في دقائقه وأسراره. لكل ذلك ينظر كثيرون إلى السقاف على أنه في الأعم الأغلب شاعر من شعراء المناسبات، و«شعر المناسبات» عندهم شعر سيئ السمعة لأسباب منها أنه مرتبط بحدث عابر، وبالتالي فإن أفقه محدود ولا يستطيع اختراق آفاق شعرية ومستقبلية أرحب. وقد نسي هؤلاء أن شعر المناسبات ليس كله كذلك، وأن بعض ما قيل في إطاره قد عبر إلينا من أزمنة ساحقة وأشهر مثال على ذلك شعر المتنبي في معارك سيف الدولة، وقصيدة أبي تمام في فتح عمورية. وأذكر أن الأخطل الصغير قال لي مرة: كنا ننطلق في «قصيدة المناسبة» إلى معالجة قضايا وطنية واجتماعية مختلفة، ولم تكن قصيدة المناسبة عندي وعند شعراء كثيرين في جيلي تقتصر على موضوع المناسبة التي دُعينا إليها. هذا هو إطار شعر المناسبات كما كان سائدًا زمن أحمد السقاف الذي يمكن إلحاقه دون تعسّف بزمن الأخطل الصغير وبتقاليد الشعر العربي في ذلك الزمن. فالقصيدة عمودية، والقوافي مجلجلة، والصوت جهوري، والمباشرة هي سيدة الموقف حتى يثبت العكس، ولعل سبب كل ذلك أن الشعر العربي كان لايزال يرزح تحت أعباء ما يسمّي بعصر الأحياء، أي عصر البارودي ومَن أتى بعده، وأن الحاجة كانت ماسّة لقصيدة ذات طابع شعبي أو جماهيري تستطيع الوصول إلى أكبر عدد من القرّاء والتأثير فيهم. فهي لم تكن في واقع أمرها شعرًا للشعر وحده، وإنما قصيدة ملتزمة بإحداث تأثير أو تغيير في الواقع، وكما كان الأخطل الصغير ممثلاً لهذا النوع من الشعر في لبنان، ومعه في الشام شعراء مثل بدوي الجبل وعمر أبوريشة، كان السقاف هو الممثل الأبرز لهذا الشعر في الكويت ومنطقة الخليج بوجه عام. وكان من الطبيعي أن تكون تقاليد هذا الشعر واحدة عند هؤلاء الشعراء جميعًا. ديوان السقاف يقدّم ديوان أحمد السقاف صورة صادقة لانفعالاته إزاء الأحداث التي عصفت بالوطن العربي في زمانه، وفي طليعتها قضية فلسطين. يعثر القارئ على قصائد عدة في الديوان تتناول هذه القضية القومية المركزية التي تناولها في تلك الفترة شعراء عرب بلا حصر منهم - على سبيل المثال - علي محمود طه في مصر بقصيدته التي يشدو بها محمد عبدالوهاب: أخي جاوز الظالمون المدى أحمد السقاف يقول في قصيدة له ما يعيد إلى الذاكرة قصيدة علي محمود طه هذه، وكذلك قصيدة الأخطل الصغير المشهورة عن فلسطين «وردة من دمنا»: يمينًا فلسطينُ لن نركَعَا إنها نموذج معاصر لما نسمّيه في تراثنا بشعر الحماسة، وما نسمّيه اليوم بشعر الوطنية، وهو يؤلف نصف الشعر العربي القديم والحديث على الأقل. ويمكن إيراد ما لا يُحصى من الأمثلة على شعر وطني للسقاف يعبّر تمامًا عن انفعالات هذا الشاعر الكبير وأشواقه الصادقة تجاه وطنه وأمته. فمن قصيدة له ألقاها في عام 1948 في المدرسة المباركية في الكويت بعد مذبحة دير ياسين: يا ساكب الدمع آلامًا وأحزانا ومن قصيدة ألقاها في عام 1947 في المدرسة ذاتها بمناسبة ذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم: بين فتك الظُبى وخوض الملاحمْ وكان من الطبيعي أن يتوجه الشاعر أحمد السقاف إلى الشباب فيحثّهم على اليقظة والبذل، ومثل هذا التوجه كان أيضًا من سمات الشعر زمن شوقي وحافظ: لا تناموا فقد تبدّى النهارُ ويعود مرة أخرى إلى الشباب ليحرّضهم في قصيدة أخرى تحمل معاني العتاب والملامة: شبابُ العُرْبِ دون الخلقِ ناموا عبدالناصر والثورة وتحمل قصيدة له ألقاها عام 1971 في القاهرة في حفل تأبين الرئيس جمال عبدالناصر معاني الإكبار لعبدالناصر، ولما أثارته ثورة يوليو عند الناس في تلك المرحلة: أنت باقٍ ولم تزل في الوجودِ وله تعريف جميل للشعر: والشعر وحي ليس ألفاظًا أحوال الشعر والحب ويتابع أحوال الشعر في قصيدة أخرى: والشعر إن رقّ فمن بسمةٍ ويجد الباحث في قصيدته الغزلية كل ملامح القصيدة الغزلية عند شعراء الأحياء من حيث تشبيه المحبوبة بالظبي حينًا والبدر حينًا آخر، وهو ما كان عليه الوضع عند الشعراء الأقدمين أيضًا: لاحتْ كظبيٍ أغنِّ وكذلك من حيث الجفاء وطلب الوصال: جودي عليّ بوصلٍ وتتردّد مثل هذه المعاني في قصائد أخرى مثل: أدميتَ بالهجران قلبي أو: لا تلمني إن تضرّعتُ إليكْ أو: وما الروض إلا هشيم كئيب ولكن الشاعر يحاول أحيانًا الخروج على هذا السمت التقليدي: ليس لي بالذي تقولين علمُ ولكن يقع في هذا السمت التقليدي من جديد: إن تظنّي أن الصدودَ كفيلٌ وكل هذا يؤدي إلى القول إن السقاف كان أسير عصر وتقاليد ومعانٍ وقيم شعرية وعاطفية وثقافية كانت شائعة لدى شعراء زمانه وثقافة أولئك الشعراء، وأن الأمر احتاج إلى وقت كي يتم تجاوز ذلك العصر وتقاليده ومواضعاته على النحو الذي شاهدناه فيما بعد لدى شعراء الموجات اللاحقة، شعراء أبوللو في مصر، وشعراء المهجر، وشعراء العراق الحداثيين وفي طليعتهم بدر شاكر السياب. عصر التفعيلة ويبدو، استنادًا إلى ديوان السقاف، أن الشاعر الذي درس في بغداد، والمتردد عليها باستمرار، حاول أن يواكب شعر التفعيلة الذي كان له وهجه في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي. فديوانه يضم عددًا من القصائد التفعيلية التي يبدو أن دافعه إلى كتابتها على هذا النحو هو مجاراة الموجة الجديدة لا غير، بدليل قلقها وضعفها إزاء قصائده الخليلية وعدم قدرتها على الصمود، فقصائده الخليلية تمتاز بالمتانة وقوة السبك والنسج المتماسك، في حين أن تفعيلياته بادية التكلف وتفتقد إلى عصب الشعر. وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على أن الشعر طبع وفطرة وتوزان في الذات، وليس احتذاء كنموذج أو مسايرة له. وقد أخلص أحمد السقاف لذاته ولقومه عندما وهب جلّ شعره لقضايا أمته، ولقضايا القلب والروح، في المتاح والممكن من الأدوات الفنية التي توافرت لديه.
|