علاقاتنا الإيجابية سعادتنا

علاقاتنا الإيجابية سعادتنا

  يؤكد الباحثون في العلاقات الإنسانية حقيقة اعتماد سعادتنا على سعادة من نتواصل معهم، ويعدون السعادة ظاهرة جماعية قد تنتشر لثلاث درجات - كسعادة صديق صديق الصديق - ويرون أنه بالإمكان زيادة فرصنا في العيش بسعادة بنسبة 15 بالمئة إذا ارتبطنا بشخص سعيد بشكل وثيق، و10 بالمئة عند الارتباط بصديق السعيد - مقارنة بزيادة لا تتجاوز 2 بالمئة من سعادة زيادة الدخل - ولحسن الحظ، يمكننا اكتساب بعض المهارات التي تساعدنا على الاهتمام بعلاقاتنا والحفاظ عليها في الجانب الإيجابي، كتلك المتعلقة بالتعامل مع انفعالاتنا، ومحاولة قراءة أفكار الآخر لتعميق فهمنا له، وترحيبنا بالتواصل التعاوني لخلق أرضية مشتركة من التفاهم، لننعم بالرضا والسلامة طوال حياتنا.

 


علاقات العمر  
كشفت دراسة حول أثر العلاقات الإيجابية على سلامة الإنسان النفسية - أجرتها مجموعة من باحثي جامعة بانتيون اليونانية - عن علاقات متعددة في الحياة، واستطلعت نوع العلاقات الإيجابية في حيوات الناس، وتأثيرها عبر مراحل العمر - من الحادية عشرة وحتى السابعة عشرة، وفي مرحلتي النضج، والشيخوخة - وتبين أنه في سن المراهقة المبكرة تكون أهم العلاقات الإيجابية ما ينسج مع الوالدين، والمعلمين، والأشقاء والأقران؛ وفي مرحلة لاحقة تضيق دائرة العلاقات المهمة لتقتصر على الوالدين والأقران؛ ثم تتغير مع النضج والتقدم في العمر لتشمل الأزواج والأولاد والأصدقاء.
ومن مؤشرات سلامة المراهقين تأقلمهم مع الحياة المدرسية، فالذين يتمتعون منهم بعلاقات جيدة ويتلقون الدعم من آبائهم وأصدقائهم يكونون أكثر مشاركة في الأنشطة الصفية، وينجزون واجباتهم المدرسية، ما يزيد من سعادتهم وسلامتهم النفسية، واتضح أن تأثير دعم المعلمين أكبر من تأثير الأنداد، كما تساهم العلاقات الوالدية، بين العاشرة والثالثة عشرة، في تحقيق السلامة بصورة كبيرة. 
وأكدت دراسة أجريت عام 2015 على عينة تتجاوز الخمسة آلاف طفل في عمر الثالثة عشرة حتى الخامسة عشرة - واستمرت حتى بلوغهم ما بين الستين والرابعة والستين - أن العلاقات الوالدية الإيجابية يمكن أن تؤدي إلى مستويات أعلى من السلامة، عندما تتحلى بقدر وفير من الرعاية بعيدًا عن السيطرة. وكذلك الحال بالنسبة للعلاقة الجيدة بالأنداد، حيث تقود إلى تواصل إيجابي صحي بلا صراعات وبلا مشكلات؛ أما الصداقات الافتراضية المتنامية في السنوات الأخيرة، فلا تزال أثارها غير واضحة. 
وبينت الدراسة المذكورة تغير شبكة الأصدقاء في مرحلة النضج، التي قد تتشكل وفقًا لنظرية الانجذاب للشبيه؛ أي تعتمد نوعية العلاقة على شخصية الفرد، وعندما تكون إيجابية فهي صحبة، وتشابه، واهتمامات مشتركة، ولاستمرار الزواج أثر إيجابي على مستوى السعادة، فقد ذكر عدد من الأزواج، ممن قضوا ما بين 10 و35 سنة معًا، أنهم سعداء في زواجاتهم، مقارنة بالمطلقين أو العزاب أو الأرامل، وعادة ما يورث هذا الأثر الإيجابي للأولاد فيميلون إلى التمتع بصحة وسلامة نفسية. 

المسنون والعلاقات المفيدة   
يستبعــــد المسنـــون العلاقات الضـارة، ولا يختــارون إلا المفيد منها، وفقًا لاحتيــاجاتهم المتغيرة، فيحتفظون بمن يعتمدون عليهم أكثر من سواهم؛ ولهذا تنكمش شبكة علاقاتهم المهمة في معظم الأحيان، غير أن أدراكهم لأهمية الدعم يبقى قويًا، وعادة ما تكون العلاقة الزوجية الإيجابية هي الأهم لديهم، وتصبح مؤشرًا من مؤشرات السلامة؛ إضافة إلى العلاقات بأفراد العائلة الآخرين من الأولاد والأشقاء والأصدقاء ممن يساهمون في التخفيف من أعراض الشيخوخة، ويمنحون شعورًا بالرضا، ويقللون من الإصابة بالاكتئاب، فقد خلصت دراسة شملت أكثر من سبعة آلاف مشارك تراوحت أعمارهم ما بين  50 و108، إلى أن الدعم من جميع المصادر مهم، ويرفع من مستوى السلامة، ويخفف من الشعور بالوحدة، وأشارت دراسات أخرى إلى أن وجود العلاقات الإيجابية مع الأسرة والأقارب والأصدقاء يعني دعم عاطفي أفضل وقدر أكبر من الرضا، وتستفيد النساء من العلاقات الودودة في السن المتأخرة أكثر مما يفعل الرجال، وتكون أهمية الصداقات لديهن أكبر. 
وعلى مستوى التواصل اليومي العادي مع غير المقربين، كالجيران والناس في إطار الأنشطة العامة، وغيرها من السياقات، كثيرًا ما يكون لمشاركة الأخبار الإيجابية السعيدة، والتفاعل البناء المعبر عنه بحماس وفخر أثر طيب علينا وعلى سلامتنا النفسية، وكذلك الحال بالنسبة للمشاركة في الأعمال الخيرية، وإظهار الاهتمام والمساندة، وتبادل كلمات التشجيع والمواساة؛ فتكون العلاقات الطيبة بلسمًا في الشدائد، وملاذًا آمنًا لحماية النفس واستعادة القوة لمواجهة الصعاب من جديد، كما تساعد هذه العلاقات على إعادة تعريف التحديات كوسائل لتنمية الشخصية وهكذا، لا يكون الدعم عبر العلاقة مجرد درع ضد التوتر فحسب، بل سبيلًا للتعافي والتطور.

مهارات ضرورية
تؤكد جانيت ريبستاين، المتخصصة في علم النفس والعلاج النفسي والأستاذة بجامعة إكستر   في كتابها «علاقات جيدة» أننا عادة ما نكون قادرين على تسيير الأمور على نحو طيب، فإذا تفاعلنا جيدًا نكون «على نفس الموجة» وحلفاء في الجبهة نفسها، وهو أمر يفيد التواصل، ومثير لشعورنا بالرضا والراحة؛ على عكس الصراعات وتعذر الفهم، وترى أنه حتى مع الصراع، يمكن لبعض المهارات أن تنقذ العلاقات من التدهور أو الجمود وتستطيع أن تعيد لها توازنها، ورغم استمرار بعض الدوائر السلبية، يمكن تحسين الوضع وملاحظة الأخطاء وتصويبها بعكس اتجاه هذه الدوائر في المواقف اللاحقة حتى تغلب الإيجابية على تعاملاتنا. وهذه قضية أساسية تحول دون تراكم السلبية التي تقودنا إلى المزيد منها ثم الشعور بالاستياء والقسوة والانعزال، ومع تكرار المعاملة السيئة، ربما تتولد لدينا رغبات في الانتقام، فلماذا نكون لطفاء مع أشخاص مؤذيين؟ وإذا حدث ذلك، سنظل عالقين في محطة السلبية. 
وتعتقد أنه يمكن العودة إلى اللطف إذا لم نضخم الأمور، وبدأنا تواصلنا بتحية دافئة ومتجاوزة لما حدث، أو باعتذار، كما يمكن التوقف في الحدث، والتقاط الأنفاس والهدوء، ثم التفكير للحظة في الآخر وتقدير ظروفه. بعدها سيأتي الشعور بالمودة والتعاطف، عبر التعامل مع الانفعالات، وقراءة أفكار الآخر؛ ثم تفعيل مهارة التواصل التعاوني في جزء من الثانية. وهكذا يتغير الاتجاه السلبي بسؤال أو عبارة لطيفة ومتعاطفة مثل كيف حالك يا عزيزي؟ أو سعيد لسماع صوتك.

التعامل مع الانفعالات 
وفقًا لـ ريبستاين، لكي نقلل المواجهات التي لا تخلو الحياة منها ولا نفاقمها فنخسر أشخاصًا أعزاء، يمكن تعلم مهارات تساعدنا على تركيز انتباهنا على ما يحدث بيننا وبين الآخرين، ونعينهم على أن يستمعوا إلينا، ونستمع نحن لهم، ونتمكن من تهدئة أنفسنا مع بداية الانفعال، وعند التوتر أو الشعور بالانزعاج أو الغضب، ويمكن التعامل مع المشاعر في خطوات تتضمن وصفها وتسميتها، والوعي بالجسد، ثم الاسترخاء، ولو تذكرنا أوقاتًا أدركنا فيها أننا في حالة قلق، أو ألم، ربما نتذكر أيضًا كيف أن مجرد ملاحظتنا لحالنا ووصفنا له - «لقد تم استفزازي» أو «أنا لست هادئًا» – نهدأ ونسترخي؛ وهذا لأن تأملنا في الذات منعنا من الاندفاع في تصرف سلبي - كالشخص الذي وصف مشاعره في موقف ما وتأملها، ومع حلول صباح اليوم التالي، لم يكن راضيًا عن نفسه، فقد أراد أن يتصرف على نحو ألطف ويتصالح مع الآخر، فالهدوء والتأمل يعني إمكانية اختيار التصرف، ولا يكون ذلك ممكنًا إلا بالابتعاد خطوة عن الشعور وموجات الأدرينالين المصاحبة التي تحجب التفكير، عندما يعمل الدماغ بصورة غريزية وبدائية - المواجهة أو الهروب - بعيدًا عن التفكير الواضح فيما يحدث، واختيار كيفية التصرف.
فإذا توقفنا ونحن غاضبون - لجزء من الثانية - يمنحنا التأمل في الموقف فرصة وقف التهور، وإذا هدأنا وتأملنا، نتعامل مع الأمر بطريقة مختلفة في الموقف التالي، ونلاحظ أجسادنا المتوترة، ونبرات أصواتنا الحادة، ونعرف «أننا متوترون» أو «غاضبون» وبعد ملاحظة الوضع، والوعي بحالة الجسد، ربما نرغب في الاسترخاء والتفكير، لا فيما حدث أو ما سيحدث، بل في الـهنا والآن، وهكذا يكون الاسترخاء أقصر الطرق لتغيير المناخ الانفعالي؛ وبمجرد تغيير وضعيتنا وإرخاء مناطق كالفك والكتفين والقبضة والتنفس بعمق، نصل إلى التهدئة وتحسين العلاقة. 

قراءة الأفكار 
توضح ريبستاين أنه بعد التعامل مع مشاعرنا واستيعابها، تأتي مرحلة التفكير فيما يمكن أن يشعر به الآخر ولماذا، لبلوغ فهم مشترك، وهنا ينتقل الاهتمام من الذات إلى الآخر، ونتوقع أو نتخيل بتعاطف سبب الغضب أو الرفض، وكيف يمكن أن يفكر الآخر، لنفهم مشاعره وسلوكه، ويجعل هذا التخيل، أو تقمص دور الآخر، الأجواء أكثر طيبة، فمن الممكن أن نتخيل مروره بمشكلات قللت من صبره، ويسهل القرب من الشخص قراءة أفكاره، حيث نعرف ما يثير غضبه وما يسعده، وفي جميع الأحوال علينا التحلي بعقلية منفتحة ولا نفترض وجود طريقة واحدة أو تصرف وحيد.
ومن منطلق اهتمامها بالعلاقات الزوجية، أشارت إلى دراسة حول علاقات الزواج الممتدة السعيدة بينت حال زوجين في نهاية الخمسينيات، ارتبطا ببعضهما منذ المراهقة؛ وصفا علاقتهما بالمتقلبة، والمحبة في الوقت نفسه، وفي مقابلة مع الزوج قال إنه أصبح يسيطر على غضبه عند اندلاع الخلافات بأن يخرج ليمشي الكلب. وأكد أنه في البداية لا يشغله سوى شعوره بالجرح، ولكن مع الوقت والتنزه في الحديقة يتوقف عن التفكير بهذه الطريقة، وبدلًا من ذلك يفكر في الكلب وينظر إلى البيوت فيصفى ذهنه، ويتبدد شعوره بالجرح؛ ثم يجد نفسه يفكر في زوجته وربما يشعر بأنه قد جرحها بكلماته، ويرغب في أن يعود أدراجه ليعتذر لها، وبمجرد عودته يتحدث معها بلطف وهدوء، ولأن زوجته تفضل الوصال، مثله، تعود الأمور إلى طبيعتها.

تواصل تعاوني 
وفيما يتعلق بمهارة التواصل التعاوني، ترى ريبستاين أننا قد ننفجر في بعض تواصلنا، فنجعل الآخر يتراجع أو ينفجر في وجهنا هو الآخر، لنعرف فيما بعد أن ما نفعله هو ما يضفي أجواء الأمان ويمنح الثقة أو يغيبها، ويشيع التهديد، فلا يكون التواصل تعاونيًا. ولتصويب الموقف، نحتاج إلى بناء روابط قوية وخلق فهم مشترك، عبر صياغتنا لعباراتنا، ومعرفة ما نقول وكيف نقول، إضافة إلى تعبيراتنا غير اللفظية، ونبرة الصوت المشيعة للأمان، ووضعية الجسم المرحبة، فالأمان شرط للاستماع بلا خوف أو تهديد. 
كما يساعد الاختصار واستخدام اللغة المناسبة، والوضوح وتوافق النظرات مع محتوى الحديث على تيسير التواصل، ومن الأفضل تفادي مواجهة الآخر بما نعرف عنه وفيما يفكر، حتى لا يشعر بانتهاك خصوصيته، فيتمرد ويتوقف عن الاستماع لنا، بل ويقفز لحماية نفسه من «الغزو الخارجي». ومن يدري لعل ما نعرف ليس صوابًا. والبديل أن نتحدث من منطلق خبرة شخصية لتوصيل رسالة ما بصورة غير مباشرة ودون فرض. ويمكن أن تكون الدعوة للتعاون والتفكير معًا في عبارات مهذبة مثل «اتخيل أنك تشعر بـ --»، أو «أريد أن أعرف بماذا تفكر؟». و«هل هناك ما يمكن عمله بصورة مختلفة لنتفق؟» وفي مثل هذا السؤال وعبارات مثل «قد أكون مخطئًا» أو «يبدو لي...». 
وعلى طريق اكتساب هذه المهارات وسواها، لابد من المرور بعملية تعلم تقتضي التسامح مع ارتكاب بعض الأخطاء ومحاولة إصلاحها. فإذا تداعى تواصل، ربما تكفي ابتسامة، أو كلمات تعاطف، أو ندم على التسبب في الأذى لعودة المياه إلى مجاريها ■