الثقافة الشعبية في العصر الرقمي
يرى الكاتب البريطاني ألبيرتو أتشيربي أن رسائل البريد الإلكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي والرسائل الفورية والتغريدات السياسية، تعكس التغير في طريقة إنتاجنا ونقلنا للثقافة بصورة جذرية، وهنا تكمن الأهمية البالغة لفهم العواقب المترتبة على الانتشار الواسع لوسائل التواصل الرقمية، سواء من الناحية الفكرية أم الاجتماعية.
لقد صارت الهواتف النقالة، والحواسيب اللوحية، ومواقع التواصل الاجتماعي فيس بوك، وتويتر، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي مكونات أساسية في حياة البشر، وترسخت في ثقافتهم، كعناصر لبيئة جديدة فرضتها التطورات المتلاحقة في تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، ولكن ما تأثيرات تلك البيئة الرقمية على الثقافة الشعبية؟ وما دور التقنيات الرقمية في انتشار الثقافة الشعبية والتأسيس لها؟ وهذا ما سنتناوله عبر السطور الآتية.
إذا كان من الصعب إعطاء تعريف ثابت وشامل للثقافة الشعبية، فمن الممكن، بصورة غير رسمية، النظر إليها على إنها نوع من أنواع المكتسبات المعرفية المشتركة التي يتقاسمها أفراد مجتمع معين، يتأثرون بها وتؤثر فيهم، وإنها في حالة استمرارية وتطور دائمين، فهي تُبنى على الماضي والحاضر، وتتأثر بمجمل التغيُّرات الحياتية وتتفاعل معها.
وتتباين الآراء حول تأثيرات التقنيات الرقمية على الثقافة الشعبية، إذ يرى أنصار النظرة التقليدية أن تلك البيئة الرقمية الجديدة هي بطبيعتها تتعارض مع عناصر الثقافة الشعبية - أو الفولكلور- التي تعبّر عن الموروث الثقافي للمجتمع. وهناك العديد من الرؤى والتصورات، التي تتراوح ما بين هذا الطرح، وبين أطروحات أخرى ترى أن البيئة الرقمية تعزز الثقافة الشعبية، وتؤثر فيها كما تتأثر بها.
وثمة من يرى أن بعض العادات والتقاليد - مثل الطب الشعبي، والرقصات الفولكلورية - هي في سبيلها للاندثار، بسبب انتشار التكنولوجيا الرقمية، وما استتبعها من تحول كثير من الموروث الثقافي الشعبي، إلى عناصر باهتة، فاقدة لقيمتها الجمالية، التي كانت تستمدها من سيطرتها على القلوب والعقول، باعتبارها موروثًا تاريخيًّا يحمل عبق الآباء والأجداد.
ويرى البعض أن هناك دائمًا تداخلاً بين الأشكال الفولكلورية التقليدية التي تنتشر في المجتمع، وبين الأنماط الناشئة في البيئة السيبرانية، ويظهر هذا التداخل في استدعاء الأشكال المألوفة للعادات السلوكية والاجتماعية، ومحاكاة ملامحها اللغوية والرمزية في الخطاب الرقمي. والمتتبع للممارسات الرقمية يمكنه أن يلاحظ أن هناك انتقالاً في البيئة الرقمية من استخدام التعبيرات العامية التراثية التي تستلزم التواصل وجهًا لوجه، إلى التعبيرات الافتراضية ذات الطبيعة السيبرانية، مع الاحتفاظ بالملامح التراثية لتلك التعبيرات.
إن انتشار التقنيات في حياتنا اليومية لا يعني أنها ستلغي ثقافتنا الشعبية، ولكن ذلك يعتمد على فهمنا للتقنيات من ناحية، وتقديرنا للثقافة من ناحية ثانية، فممارساتنا اليومية في شبكات التواصل تبني ثقافة شعبية وغير شعبية، وهي بحد ذاتها ثقافة جديدة لم تحظ حتى الآن بالدراسات الكافية لفهمها وتحليلها، ولكن هذا الممارسات هي حصيلة سلوك الأفراد وتصرفاتهم؛ سلوك مبني في جزء منه على الذاكرة الثقافية، ومن الممكن أن يؤسس بدوره ذاكرة ثقافية للمستقبل.
على الأرجح، إنّ انتشار المعطيات والمعلومات، مهما كانت طبيعتها، إذا ما جرى بطريقة منهجية، فإنه سيؤدي دوراً في عملية اكتساب المعرفة، لتشكل هذه المعلومات جزءاً من المخزون الثقافي - المعرفي، الذي يصبح بالتالي محركاً للذكاء الجماعي وللوعي الجماعي، فالثقافة الشعبية، بحسب البعض، هي حقل من الحقول المعرفية التي تتأقلم مع المتغيّرات الحياتية بكل جوانبها وتتماشى معها وتدخل ضمن نطاقها.
لقد غيرت البيئة الرقمية - الطريقة التي يتعلم بها الناس، والتي يرتبطون بها مع الآخرين، أو يشاركون من خلالها في فعالياتهم الثقافية - كبيئة يمكن أن تتجلّى فيها الثقافة الشعبية، وأن تسهم في زيادة فهم طرق التعبير الفولكلورية والتفاعل معها، والإضافة عليها. فهي قادرة تمامًا على تعزيز الفولكلور الشعبي، من خلال نقل وأرشفة وسائل التعبير الفولكلورية، وتوثيق المشاهد الثقافية، سواء الموروثة أو الجديدة، بل والمساهمة في طرح هذا الموروث الثقافي كفولكلور رقمي.
وكما بات معروفاً، أن التكنولوجيا ليست محايدة، وإذا كانت الأجهزة والتطبيقات المستخدمة من الناحية التقنية تحتم استخداماً عالمياً من دون أن تتأصل فيه، فعليها أن تتفاعل مع التنوع الثقافي والحضاري.
ويرى الكاتب ميلاد دويهي صـاحب كــتاب Pour un humanisme numérique، أننا في مرحلة الانتقال إلى ما يسمّى الإنسانية الرقمية نتيجة تسارع الرقمنة في حياة الأفراد، وفي تكوين المجتمعات، لكونها تتأقلم مع ما يُعرف بالصناعات الثقافية، وأن هذه الصناعات الإبداعية لا يمكن أن تكون فاعلة وأن تكون لها سلطة اجتماعية، إلا من خلال تأسيس علوم إنسانية ترقى إلى ما نسميه الإنسانيات الرقمية، التي هي دعوة إلى الإبداع في العلوم الإنسانية لتصبح علوماً إنسانية علمية؛ فلم نعد بشراً يستخدمون التقنيات، بل إن تشكّل الإنسان بات من خلال وجود التقنية الرقمية، وبتنا بالتالي بشراً رقميين. إذاً، الإنسانيات الرقمية هي توافق لإنتاج تطبيقات معلوماتية، ودراسة الأبعاد النظريّة لتأثيرها في إنتاج المعرفة التي تشكل جزءاً من الثقافة الشعبية وتداولها.
لقد حولت التقنيات الإنسان إلى وثيقة كباقي الوثائق، وصار إنساناً هجيناً. وإذا أردنا أن نصف الواقع الحالي والتوقعات المستقبلية، فإننا في مرحلة تقارب بين الآلة والإنسان، فنحن نؤنسن الآلة من جهة، ونطوّع الإنسان نحو الآلة من جهة ثانية، فالأدوات والتطبيقات التقنية تشكّل امتداداً للإنسان جسدياً وفكرياً، والرقمنة بحد ذاتها هي حدث ثقافي بالمفهوم الواسع، تمسّ رؤيتنا للعالم بأكمله، والنزعة الإنسانية الرقمية هي حالة بحكم الأمر الواقع. إنها نتيجة للتقارب بين تراثنا الثقافي المعقد وتقنية صارت تأخذ مكاناً غير مسبوق من الأنسنة؛ فقد بتنا الآن في طور تكوين جديد للهُوية، يُحدد بحسب ارتباطنا بالتقنيات الرقمية التي تتكون من خلالها الهوية الرقمية للأفراد وللمجتمعات، كما تؤدي إلى تكوين ما يعرف بالمواطنة الرقمية كجزء من الثقافة الشعبية.
وفي ظلّ هذا التداخل الرقمي مع الثقافة، هل من الممكن أن نستفيد من الرقمنة في نشر الثقافة الشعبية رقمياً بهدف الحفاظ على هذا الإنتاج الرقمي ونشره للعالم أجمع والتعريف به، بهدف الحفاظ على الثقافة الشعبية الموروثة، والحفاظ على الثقافة الشعبية التي تُبنى حالياً، لكي لا تضيع في المستقبل؟
وإذا كانت الثقافة الشعبية بمفهومها الضيق عانت وتعاني من التدوين، فمن الممكن استغلال شبكات التواصل والإنترنت لكي تصبح أدوات لتخزين وحفظ التراث الشعبي العربي والثقافة الشعبية العربية على أنواعها، وذلك من خلال توظيف الحقول المعرفية المختلفة كافة، فالرقمنة والتمظهر وبناء السمعة الرقمية وأرشفة الوثاثق والتنقيب عنها ونشرها، لم تعد محددة في الزمان ولا في المكان، ولا حتى في النص الذي هو أساس المقاربات المعرفية المختلفة للعلوم.
وإذا أردنا ببساطة البحث عن بعض الكلمات المفتاحية على «غوغل»، فإننا نجد ما يقارب 413000 موقع عن الأمثال الشعبية، 1000000 موقع عن الزجل، ما يقارب 2470 موقعاً يتحدّث حصراً عنأمثال لبنانية، 70900 موقع يتحدّث عن الأمثال العربية، 444000 موقع عن الأغاني الشعبية.
أخيراً، تبقى التساؤلات عديدة: هل ما ينشر ذو محتوى غني لكي يستخدم بكثافة وبتكرار؟ هل البنية التحتية لتسهيل توزيع الثقافة والأفكار مؤهلة لذلك؟ هل هناك إجراءات منهجية لنشر الأفكار لكي تصبح نافذة ومستخدمة ؟ هل هناك استراتيجيات فعليّة لنشر الثقافة العربية والتعريف بها ؟ هل هناك إنتاج ثقافي وفكري ومعرفي نتطلّع إلى نشره لكي يشكل ما نعرّف به، ولكي يصير نتاجًا مطلوباً من الآخرين يبحثون عنه لاستخدامه؟ هل نحن مؤهلون تقنيّاً لبناء واجهات معلوماتية على الإنترنت مقبولة لنشر الثقافة العربية؟ هل نحن مؤهلون لغوياً لذلك؟ أين نحن من عدد الوثائق المهمة المترجمة من اللغة العربية إلى اللّغات الأخرى؟ هل نحن قادرون على خلق محتوى وأشكال جديدة من الإبداعات الثقافيّة لكي تستمر؟ ما ميزانية الأبحاث ومراكز الأبحاث في العالم العربي؟ هل التكنولوجيا الشبكية تساعد فعلاً على نشر الثقافة أو أنّ المشكلة تكمن في مكان آخر، كالتربية والقراءة والكتابة والإبداع الفكري؟
يجب على المجتمعات تهيئة وتشكيل البيئة المناسبة سياسيّاً وقانونيّاً وتربويّاً للإبداع والابتكار، فبهذه الطريقة فقط تؤدي ثقافة ما دوراً فعّالاً في مجال النشر المعلوماتيّ أو غيره، وإذا لم تُخلق البيئة المناسبة، يصير المجتمع مجرد متلقٍّ لثقافات أخرى أكثر ديناميكية، فكل مجتمع يحتاج إلى خلق وسائل سمعيّة وبصرية، وخلق بيئات فكرية ديناميكية، ونشر هذا كله لتنمية القطاع الثقافي للمجتمع، ومن المفترض أن تدخل أنظمة المعالجة الآلية للغة العربية وحوسبة اللغة ضمن مناهج تعليم اللغة العربية في الجامعات، فذلك له أهمية كبرى في تطوير برمجيات الترجمة الآلية من العربية وإليها، كما تطوير برمجيات التنقيب الآلي عن المعلومات ■