الصراع اللغوي في المغرب العربي
تقدم دار صوفيا بالكويت للقارئ العربي موسوعة مهمة من تأليف مختار الغوث، في طبعة أنيقة على ورق الشموا، تحت عنوان رئيس ثابت هو «الحرب الباردة على الكينونة العربية»، تقع في سلسلة عدَّتُها سبعة أسفار، هي على التوالي «اللغة هُوية»، و«اللغة والإبداع والتعليم»، و«التجني على الهوية»، و«كيد الهوية»، و«الهوية بعد الحادي عشر من سبتمبر»، و«مسخ الهوية»، وآخرها السفر السابع الذي جاء في جزءين سميكين من 1026 صفحة بعنوان «الصراع اللغوي في المغرب العربي» (ط1، 2023م).
يتناول هذا السفر بالدرس التحليل والمُحاجة مسألة الصراع اللغوي في المغرب العربي بين العربية والفرنسية من جهة، وبين الفصحى والعامية من جهة ثانية، وبين العربية والبربرية من جهة ثالثة، مبرزًا مجالات ذلك الصراع، وخلفياته التاريخية، وواقعه الحالي، ووجوهه، وأسبابه، ومقاصده، مع ما استتبعه درسُه من تناول قضايا أخرى مرتبطة به، وإلم تكن قضايا لغوية، كالتاريخ والإناسة والسياسة، وذلك لأنها «تجلي حقيقته، وتُبين أنه صراع هويات ووجود يسمى بغير اسمه، ومن غير الممكن أن تتضح ماهيته دون الحديث عنها».
الازدواجية اللغوية... ثابت لا يتغير!
اصطبغت السياسات اللغوية في دول المغرب العربي بالتوجهات السياسية للساسة والحكام، وهي سياسات تقوم على تكريس الازدواجية اللغوية في البلاد، حيث بقي حزب فرنسا الخفي - بعد الاستقلال - متغلبًا على دواليب الدولة ومؤسساتها، ما جعل الدولة الوطنية تخلُف الاستعمار الزائل في إمضاء خططه المتعلقة بالفرنسة. وهكذا بقيت الإدارات بمعزل عن التعريب الذي رفعته الحكومات شعارًا، وأصدرت فيه مراسيم ومذكرات كثيرة، ولكنها أُصدرت لتبقى حبيسة الرفوف، بينما الواقع الفعلي لأغلب الإدارات بقي مفرنساً ولا يزال إلى اليوم، باستثناء إدارات قليلة فرض اتصالُها بالسكان تعريبَها، كالإعلام والداخلية والعدل.
في هذا السياق يتناول المؤلف الصراع اللغوي المرير الذي لا يزال مستمرًا إلى اليوم بين التعريب والفرنسة في كل من التعليم والإعلام والإدارة، ففي التعليم - مثلاً - بقيت الفرنسية هي اللغة المسيطرة على تدريس المواد العلمية في المرحلتين الثانوية والجامعية، وفي كافة الشعب العلمية والتطبيقية، وهي الشعب التي توليها الدول أهمية كبيرة، رغم الخسارات الكبرى التي تُلحقها الفرنسة بالتعليم، ورغم الرتب غير المشرِّفة التي تحتلها فرنسا والجامعات المفرنسة في لائحة التصنيفات الدولية للدول الأفضل تعليماً في العالم. أما محاولات تعريب تدريس العلوم منذ عقود فقد اتسمت خططها بالاضطراب والتقلب والتذبذب والتعثر والتراجع وعدم التنسيق بين المرحلتين الثانوية والجامعية، وبقيت مجرد شعارات حزبية أو حكومية مفرغة. وما يدل على سطوة النفوذ الفرنكوفوني في المغرب العربي - وهو نفوذ يشمل المال والإعلام والقرار - أنه حتى قرارات اعتماد الإنجليزية بدل الفرنسية وُئدت في مهدها، مع أن الإنجليزية لغة التفوق في تدريس العلوم حاليًا!
العامية أقصر الطرق لتمكين الفرنسية
وامتدادًا لهذا الأمر يرى الكاتب أن الصراع الحديث المفتعل بين الفصحى والعامية - وقد عاش الطرفان معًا قرونًا طوالاً في تكامل وسلام مطلق يعرف فيه كل منهما مقامه وحدوده التداولية، إلى حين مجيء الاستعمار الحديث - ليس إلا قناعًا للصراع بين العربية والفرنسية، لأن «اصطناع العامية في التعليم والبحث العلمي هو الطريق القصير إلى توطين الفرنسية، لأن العامية غير صالحة للعلم، وليس لها رصيد يؤهلها لمنافسة اللغات العالمية، فإذا اصطنعت، وأسقطت بها العربية الفصحى، فلسوف يزورُّ الناس عنها حتماً إلى الفرنسية».
يتعرض الكاتب لتحركات دعاة العامية - وهم أقلية متفرنسة مسنودة بمؤسسات أجنبية تنشط في البلاد المغاربية، كالمراكز الثقافية الفرنسية - في مؤسسات التعليم والإعلام والإشهار، رغم أن دعوتهم مسيَّسة، وأن تحركهم يتم في ظل عراء نظري، وفقر أيديولوجي (إذ أغلب حججهم قديمة مستعارة من مفكري الاستعمار ككولان ومارسي ودي سلان)، وتناقضٍ فاضح بين واقعهم المتفرنس المغترب المتعالي على الواقع المحلي، وما يدعون إليه من اعتماد لهجة العامة، وهو تناقض لم يمنعهم من المضي بنشاط في تأسيس جمعيات حركية، ومحطات إذاعية كل برامجها أو جلها بالعامية، ودبلجة المسلسلات الأجنبية بها، وإصدار معاجم لها ولتنوعاتها اللهجية، وطبع كتب وجرائد بها، وفتح شعب جامعية ومراكز لدراستها وتقعيدها، وتدوين تراثها الشفهي، ودعوتهم حتى إلى ترسيمها دستوريًا، مع النيل من العربية لا بتصويرها لغة ميتة أو طقوسية فحسب، ولكن كذلك بربطها (وفق الموضة الحديثة منذ الحادي عشر من سبتمبر بالإرهاب)، سعيًا إلى إخراجها تمامًا من المشهد، وبالتالي إخراج الناس من القيم التي دخلت البلادَ معها وبها منذ الفتح، وعلى رأسها قيمُ الإسلام، ووحدةُ الهوية التي تجمع مشرق العالم العربي الإسلامي بمغربه.
الحركة الأمازيغية دعوة مفاصلة هووية تتذرع باللغة
أما الصراع بين العربية والبربرية فقد أولاه المؤلفُ اهتمامًا أكبر بكثير يتضح من خلال سمك الفصل الخاص بهذه المسألة مقارنة بالفصلين المخصصين للصراع مع الفرنسية والعامية، وذلك لأنه في البلاد المغاربية حديث الساعة، معتبرًا أن الصراع بين العربية والبربرية - تمامًا كالصراع بين العربية والعامية كما ذكرنا آنفًا - هو كذلك وجه مقنع من وجوه الصراع بين العربية والفرنسية، إذ كان غرض الصراع المفتعل بين العربية والبربرية هو إخراج العربية من المغرب بالبربرية، ثم إخراج البربرية بالفرنسية، لأن البربرية أضعف من أن تثبت للفرنسية أو تسد مسد العربية، وهذا نفسه الغرض الأصلي لافتعال الصراع بين العربية الفصحى وعامياتها الدوارج من قبل.
وفي هذا الصدد تناول المؤلف بالتوثيق تاريخ اهتمام الاحتلال الفرنسي في المغرب والجزائر خاصةً بالبربرية منذ ما قبل الاحتلال، وذلك عبر البعثات الاستكشافية والتنصيرية والاستخباراتية خلال القرنين 18و19 التي سبقت الاحتلال ومهدت له، حيث اهتمت فرنسا بدراسة البربرية في معهد الدراسات الشرقية بباريس منذ 1913م، (وكثير ممن خاض في هذا الأمر ضباط أو موظفون إداريون فرنسيون، لذلك قلَّت فيهم نزاهة الموضوعية والحياد)، وكذا بتعليمها، والتعليم بها، مع التشجيع على ذلك بالرواتب والعلاوات، وتخصيص مدارس مفرنسة للبربر لا يلجها غيرهم، وذلك بالتوازي مع اهتمامها بكل ما من شأنه أن يصب في غاية التفرقة الهووية بين البربر والعرب، كتأسيس حزب لهم في منطقة القبائل بالجزائر يرفع شعارات تذم العربية والعروبة، وذلك على يد الطلاب الذين تخرجوا في المدارس الآنف ذكرها بعد أن تشربوا فيها فكرة فرنسا حول أن العرب غزاة مستعمرون، وأنهم لا ينتمون وإياهم إلى الأصل نفسه خلاف ما أثبته مؤرخون عرب وبربر حول أصولهم الحميرية أو الكنعانية، وإنما أصولهم جرمانية، وهم بذلك أقرب إلى فرنسا وأوربا منهم إلى العرب، وكالعمل على تنصيرهم، وكذا على استبدال أعرافهم القبلية بالشرع الإسلامي، وكمحاولة عزلهم نهائيًا عن العرب (كما فضحه بشكل صريح مباشر ظهيرُ 1930م في المغرب المعروف بالظهير البربري)، تمامًا كما عزلت بريطانيا جنوب السودان عن شماله.
علاوة على هذا الجانب التاريخي يتعرض الكتاب بكثير من التفصيل الدقيق إلى نشأة الحركة الأمازيغية الحالية في المغرب والجزائر، ويطرح بتوسعٍ وحياد آراءها، وآراء من يوافقها ومن يخالفها، وعلى رأسها فكرة أن اللغة البربرية هي محور الهوية المغرب العربي، وأنها هي التي كيفتْ روحه وفكره، وصاغتهما. كما يتناول علاقة هذا الرأي بما طالبت به الحركة من ترسيم للغة البربرية، وإيجاب تعلمها على المواطنين كافة في البلدين، وهو الأمر الذي استجاب له دستورا المغرب والجزائر. كما ناقش الكاتب هذا الأمر، مبينًا ضعفه، وضعف ما يبنى عليه، «لأن البربرية جزء من ثقافة المغرب العربي، وليست هي هويته، إذ اللغة إنما تكون هوية بما تُوعي من ثقافة، لا من حيث هي مفردات وقوانين نحوية وصرفية». ومعلوم تاريخيا أن البربرية لم تكن لغة رسمية للبلاد يومًا ما، ولم يكتب بها علم ولا أدب، وإنما كان أجدادنا يكتبون بلغات الأقوام الذين حكموا البلاد، ومن الأبجديات التي دُونت بها البربرية أبجدية الحرف العربي الذي احتضنها لقرون - وقد بينَ الكاتب أنه أصلح لها من غيره - في تماهٍ وحدوي، قبل أن تحاول الحركة الأمازيغية المفاصلة بينهما عن طريق اعتماد حرف تيفيناغ الذي دحض المؤلف كلَّ ما تزعمه الحركة بشأنه، مبيناً أنه إنما هو هجاء عربي فينيقي لم يكتب به شيء على طول تاريخ شمال إفريقيا(باستثناء نقوش قليلة طقوسية أو تواصلية أو حروف للزينة في نسج الزرابي والأوشام). وعليه فإن أدلوجة الحركة الأمازيغية إنما تخطط لحمل البلدين على الهوية البربرية كما تفهمها هي، لأنها تتغيا ردَّ البربر عن الإسلام والعربية إلى ما كانوا عليه قبل الفتح الإسلامي، ولو كان ذلك بمعاكسة سنن التاريخ بالانطلاق - على المستوى اللغوي مثلاً - من لهجات بربرية عديدة مختلفة باختلاف القبائل والجماعات المحلية، لصنع لغة بربرية معيارية، وهو الأمر الذي لم يتحقق إلا بإقصاء كثير من اللهجات البربرية المحلية لصالح غلبة لهجة واحدة مفضلة بسبب الانتماء القبلي لزعماء مشروع الحركة الأمازيغية أنفسهم... وفي المحصلة، فإن هذه الأوجه من تطرف الحركة الأمازيغية ما هو إلا رجع صدى لما كتبه مفكرو فرنسا الكولونياليون، وما سعى في إنجازه الاحتلال قديمًا من مفاصلة بين العرب والبربر، يتذرع باللغة، ويستهدف إقامة دولة بربرية خالصة، مستبيحا في ذلك أشكالا متطرفة من آليات تأجيج العداوة لم يشهد لها تاريخ البلاد نظيرًا، ما ينذر - لا قدر الله - بما لا تحمد عقباه.
يخوض الكتاب في مساحات شائكة مليئة بالألغام التي زرعها الاحتلال الفرنسي من قبلُ، (وترعاها النخب الفرنكفونية بالوكالة اليوم)، إذ هو الوحيد الذي في صالحه تعديدُ الواحد، وتفريق المتحد، وتشتيت المجتمع، ليبقى محافظًا على نفوذه الاستراتيجي القديم، ومصالحه السياسية، وريعه الاقتصادي، ومنافعه المالية؛ لذلك قد تثير أفكار الكتاب كثيرًا من الزوابع والتوابع، غير أنه يحسب للكاتب تجرده في سوق حُجج هذا وذاك، لتكون الصورة كاملة، ولو لأغرب الآراء المتطرفة وأبعدها عن العقل والتاريخ، (كدعاوى بعض الباحثين الاستعماريين حول الأصول السيبيرية أو الأمريكية للبربر، أو انتماء البربرية إلى المجموعة الهندوأوربية)، ثم مناقشتها في طول نفَس، وقوة حجة، بلغة جزلة سهلة في آن، رغم ما اكتنف الكتاب من استطرادات لعل تداخل مجالات الصراع وطبيعة الكتاب الحجاجية هو ما فرضَها ■