التاريخ وراهنية الخطاب الفلسفي عند ميشيل فوكو
كيف يمكن للمرء أن يكتب بعناية مثل هذا البحث الفلسفي، على مدار مائتي صفحة غزيرة، ويتركه، بالإضافة إلى ذلك، خاملًا، بل يتناساه، ويخفيه؟ مع أن أبواب النشر لم تكن مغلقة في وجه ميشيل فوكو عام 1966م، بعد نجاح كتابه الأسطوري «الكلمات والأشياء»، الذي صدر في ذلك العام. وبعد نصف قرن أيضًا، بعد وفاته، تم نشر هذا النص «التاريخ وراهنية الخطاب الفلسفي»، والذي يجب اعتباره بمثابة عمل فني في حد ذاته، على عكس الدروس التي نشرتها دار غاليمار، تحت رعاية مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية. إذا كان ميشيل فوكو يدرس في هذا الكتاب «الخطاب»، أليس هذا بالفعل جواب بطريقة ما على السؤال الكلاسيكي الذي صاغه جيل دولوز في عام 1991م: ما الفلسفة، هل هذا الحقل المعرفي الذي يخلق المفاهيم هو مجرد إشكالية من إشكاليات الخطاب؟
من خلال كتابة هذه الدراسة التطبيقية، خلال صيف عام 1966م، ربما لاستثمارها في المحاضرات التي كان يقدمها في جامعة تونس، يبدو أن ميشيل فوكو يقدم عنوانًا سيكون له هدف محدد، أطروحة باختصار: الخطاب الفلسفي. هل يمكن أن يكون هذا الكتاب رابطًا يبدأ من عمله «الكلمات والأشياء» لينضم إلى «أركيولوجيا المعرفة»، الذي ينير منظوراته...
منذ العصور القديمة، مارس الفيلسوف فن التشخيص. إنه «الطبيب والمفسّر»، «طبيب الثقافة»، وإن كان بلا دواء ولا شفاء، بالكاد كان يستطيع أن يتخيل اكتشاف ما يكمن وراء الكهف، وهنا «هذا الخطاب الغريب والساخر الذي يشكل الفلسفة في هذا النشاط التشخيصي، حيث يجب علينا اليوم أن نتعرف على أنفسنا»، والذي تهم محتوياته ميشيل فوكو أقل ما تهمه طرق التعبير عن انتمائنا إلى الخطاب حول الذات والعالم، وبهذا المعنى، يبدو أن الفلسفة « تحيد عن المسار الملكي الذي كانت تسلكه عندما يتعلق الأمر بتأسيس المعرفة أو استكمالها، والتعبير عن الوجود أو الإنسان».
على الرغم من ذاتيته المفترضة، يسعى الفيلسوف إلى الوصول إلى الحقيقة، مهما كانت غير مؤكدة: «لا توجد حقيقة فلسفية - سواء كانت تتعلق بالعالم، أو بالإنسان، أو بالطبيعة، أو بالوجود، أو بالفلسفة نفسها - إذا كانت الفلسفة لا تفصح في نفس الوقت عن سيرورة نشأتها، وظروف ولادتها لتصبح في متناول الفيلسوف الذي يصوغها ومع ذلك، يفترض ميشيل فوكو وجود» الحقيقة الفلسفية، المخفية بحكم طبيعتها، والتي يمكن مع ذلك أن تظهر إلى النور وتحيي خطاب الفيلسوف، علاوة على ذلك، فهو يقترح بحذر: «الحقيقة لا تأتي إلينا دائمًا وبشكل مستمر في شكل برهان، ولكن في شكل من أشكال الخيال». وهو ما يذكرنا بهذه المحاضرات التي قدمها في الكوليج دو فرانس عامي 1980م و1981م، والتي جُمعت في كتاب تحت عنوان «الذاتية والحقيقة».
وعلى الرغم من أن الخطاب الفلسفي يتموضع في زمن التلفظ به، إلا أنه يختلف تمامًا عن اللغة اليومية، وكذلك الأدب الذي يبتدع حاضره الخاص، خاصة منذ القرن السابع عشر، عندما جسد سرفانتس قصصه وأنشأ «نظامًا جديدًا للتخييل»، بمناسبة نشر عمله «دون كيشوت». ويختلف أيضًا الخطاب الفلسفي عن الخطاب العلمي، الذي يؤسس لحقيقة كونية لا تعتمد على الحاضر ولا على مكان ظهورها، ولا سيما عندما أنشأ غاليلي، في القرن السابع عشر، «نظامًا جديدًا للخطاب العلمي». وفي الوقت نفسه، «تخلص ديكارت، فيلسوف الكشف، من الخضوع لسلطة اللاهوت التي دامت قرونًا عديدة». وبالتالي فإن المعرفة العقلانية للطبيعة تصاحبها إمكانية التفلسف بدون ميتافيزيقا، ليقول الإنسان حقًا «أنا أفكر». وهو ما يفسر «حقيقة أن الفلسفة الغربية لم تتوقف منذ ثلاثة قرون عن التقويض ووضع حد للميتافيزيقا».
وباجتثاث الميتافيزيقا من خلال «إرساء أنطولوجيا جديدة تهدف إلى تشكيل نظرية عامة للموضوع»، يتساءل كانط عن شروط إمكانية الوصول إلى الحقيقة، وذلك لتشكيل لوغوس للعالم في شكل موسوعة.
في تحول جديد أكثر حدة، يقوم نيتشه بتفكيك الخطاب الكلاسيكي للفلسفة. وبالتالي، فبدلاُ من الفلسفة الخالصة - إن وجدت - يُظهر فوكو كيف أن كل شيء هو مجرد صورة خطابية، منغرسة في تاريخيتها وهكذا، فإن صور الخطاب النيتشوي، والعدمية، والعودة الأبدية للذات، ومناهضة الأفلاطونية، تأتي لتقويض طرائق الفكر أو اختفاء كل موضوعات الفلسفة، ولا سيما «كل الميتافيزيقا الغربية حسب تصنيفات الخير والشر، الظاهر والواقع، الوجود والحقيقة»، وفي المقابل يحظى الحقل الفلسفي بإمكانية الجمع بين فقه اللغة والتاريخ وعلم النفس والأنثروبولوجيا والعلوم لم يعد مؤلف كتاب «ما وراء الخير والشر» يكتب أطروحات، بل أقوال مأثورة، وهو أيضًا شاعر في عمله «هكذا تكلم زرادشت «، والسياسي، موسعًا من نطاق الأشكال والمقاصد الخطابية. لكن «تفكيك الخطاب الفلسفي ترك نيتشه دون حماية أو دفاع ضد الجنون». هل هذه نتيجة فكرية أم بالأحرى نتيجة لمرض الزهري؟
وبالتالي هل سيكون التفكير بعد نيتشه تحديًا؟ يبدو أن الوضعية، والفينومونولوجيا، والبنيوية، والماركسية، جميعها لا تأخذ في الاعتبار سوى القليل من أفكار نيتشه ويبقى، على الأقل بالنسبة لميشيل فوكو، أن ينصب نفسه أمينًا للأرشيف، في إطار حقل معرفي هو حقل نظام «أرشيف الخطاب كنظام لقيود اللغة والتاريخ»، في إطار علم أركيولوجيا المعرفة الخاص به. فهل في هذا ارتداد إلى الماضي؟
ومع ذلك، مع نيتشه، الفيلسوف الناقد، لا بد من تشخيص العالم والحدث الذي يقع فيه، لتسليط الضوء على المرئي والمعيش، واللحظة الحاسمة، ولتغطية فترة أوسع تبقى «المهمة النقدية للفلسفة هي الوعي بما يبقى غير ظاهر في وجوه العالم الأكثر وضوحًا».
هل تفقد الفلسفة، بفعلها هذا، طريقها الملكي، عندما يتعين عليها لزامًا أن تصنع المعرفة، وتتحدث عن الوجود؟ لكن ألا تجد هذه النزوع حاضرًا عند اليونانيين التمييز بين العلامات وتفسيرها، ما ينتج عنها متاعب يتعذر السيطرة عليها؟ وبطريقة ما، العراف، وطبيب الروح، والمفسر، على شاكلة هيراقليطس، وأناكسيماندر الذين هم آذان لكلمة الإلهام، هم أسلاف لنيتشه وهذا ما يفسر التحول الذي يقودنا نحو كتاب ميشيل فوكو «تاريخ الجنسانية».
غير أن مفكر السلطة، صاحب كتاب «راقب وعاقب» على سبيل المثال، هو هنا فقط في طور التكوين، حيث يمارس ألمعيته الفكرية من خلال إضفاء طابع تاريخي على الخطاب الفلسفي ليضعه مع ذلك في خدمة الحاضر، وإذا كان فوكو ينهل من الحركات الإنسانية، والماركسية، والوجودية، فإنه يضفي قيمة كبرى على كانط من خلال عمله «ما التنوير؟»، الذي ما زال يحافظ على راهنيته، بينما يجعل من نيتشه محور قطيعة كبرى، عندما ينكر هذا الأخير قدرة الفلسفة على الوصول إلى الحقائق الأبدية والكونية، وهو ما يمكن أن نقول ربما يشكل صدعًا للنسبية، وبالمثل فإن قدرته على إنصاف الإنسان قد أبطلها نيتشه، والذي يبقى فوكو حذرًا إزاء أفكاره، لاسيما وأن الفلسفة بالنسبة له قد تشعبت، بين الفنون، في خطابات غير فلسفية مبدئيًا، دون أن تفقد مع ذلك أهميتها وهيبتها.
هل يجب علينا بعد ذلك أن نتساءل ما إذا كانت رباعية عمله «تاريخ الجنسانية»، الذي يسافر بنا عبر العصور القديمة والوسطى، لا يزال يمت بصلة إلى الفلسفة؟ إن الميل إلى «علم أركيولوجيا المعرفة» يجذب ميشيل فوكو إلى مجال المؤرخ دون الابتعاد عن السلطة، المجتمعية والدينية، التي تذهب إلى حد التنقيب والسيطرة لإغراء الأجساد والعقول.
خلق المفاهيم. هذه هي وظيفة الفلسفة، خارج التصور التقليدي الذي يقوم على العمل من أجل حياة مثالية الفلسفة لا تتأمل، ولا تفكر، ولا تتواصل فحسب، بل تخلق مفاهيم لهذه الأفعال أو الأهواء، لها لغتها ومفرداتها وتركيبها «تصل إلى حد السمو أو الجمال العظيم». ومن ثم، تنافس تفكير العلماء أو الفنانين، في تخصصات جديدة مثل التحليل النفسي أو علم اللغة، في خضم الميل إلى التسويق والدعاية الدينية والسياسية، وهكذا تم ضرب سلطة الكلمة نفسها، حيث يدعي الجميع أن لديه فلسفة تجارية ومجتمعية وحدثية.
وبهذا المعنى، يؤسس جيل دولوز تسلسلًا هرميًا مرحبًا به «إذا كانت العصور الثلاثة للمفهوم هي الموسوعة، والتربية، والتدريب المهني التجاري، فإن العصر الثاني فقط هو الذي يمكن أن يمنعنا من السقوط من قمم العصر الأول إلى الكارثة المطلقة للعصر الثالث.
إن «الجيوفلسفة»، التي نشأت من اليونان القديمة، هي التي تحدد المسار التاريخي للفكر، في انتساب حقيقي «في الواقع، إنها اليوتوبيا التي تربط الفلسفة بعصرها، وبالرأسمالية الأوروبية، ولكن أيضًا بالمدينة اليونانية» وهذا ما تؤكده أيضًا قراءة عمل كارل بوبر «المجتمع المفتوح وأعدائه»، مبينًا أن البنوة الطوباوية والكليانية تمتد من أفلاطون إلى ماركس، مرورًا بهيغل. وفي هذا الصدد، لا بد من إضافة أن جيل دولوز، مؤلف كتاب «الرأسمالية والفصام»، يشترك مع العديد من المثقفين في عصره في توجه مناهض للرأسمالية.
عندما يعمل العلم من خلال الملاحظات والوظائف، وعندما يعمل الفن من خلال المدركات والمؤثرات، تحاول الفلسفة إحلال النظام في هذه الفوضى التي هي العالم. الفن ليس فوضى، بل هو تركيب من الفوضى يعطي رؤية أو إحساسًا، بحيث يشكل فضاء كونيًا، كما يقول جويس، فوضى مؤلفة - غير مخططة أو متصورة مسبقًا يحول الفن التنافر الفوضوي إلى حقيقة فوضوية ألا يمكن قول الشيء نفسه عن الفلسفة؟
ضمن التقليد النيتشوي، يعتبر فوكو ودولوز معارضين للأفلاطونية بالنسبة لكليهما، الحدث الإنساني هو جزء من المحايثة منذ كتابه «أركيولوجيا المعرفة»، اكتشف أهمية «الأرشيف»؛ وأصبح في عمله «راقب وعاقب» رسام خرائط جديد للفضاء القضائي ومن هنا فإن الطوبولوجيا هي التي تسمح لنا بالتفكير بشكل مختلف، في حين أن البعد الزمني يكشف الطبقات أو التكوينات التاريخية دعونا نكتشف التصنيف التحليلي ذي الصلة بالتصنيف الذي وضعه جيل دولوز «إن المبدأ العام لميشبل فوكو هو: كل شيء يشكل تركيبة من علاقات القوة»، بما في ذلك القضايا المجتمعية المؤثرة في سياق تاريخنا عن الجنسانيات. في جزئه الأخير «عن موت الإنسان والإنسان الأعلى»، يدعي أن الإنسان «المسؤول عن الحيوانات والصخور» و«وجود اللغة» لم يعد إنسانًا، بل مبشرًا عن «مجيء عالم جديد» و«شكل جديد في الوجود»، دون أن يخبرنا عن ماهيته.
علاوة على ذلك، أليس من المفارقة أن يصبح ناقد السلطة هو نفسه، مثل معاصره عالم الاجتماع بيير بورديو، صورة للسلطة الفكرية؟ دعونا نفكر في مدى تأثر الأكاديميين بفوكو، ومدى تأثير أنصاره الذين جعلوا منه وما زالوا، ربما على الرغم منه، مرجعًا لا محيد عنه، بل وحتى أيقونة.
نجد نفس الطرح الملتبس في الصفحة الأخيرة من كتابه «الكلمات والأشياء»، مع هذه الجملة الأخيرة الشهيرة للغاية «إذا وُلِدت معرفة جديدة، من خلال تأثير تغيير جديد في السلوكيات المعرفية، فإننا يمكن المراهنة على أن الإنسان سوف يختفي، نعلم حقًا أن الإنسان فانٍ، وأن الحضارات فانية، وأن الجنس البشري فانٍ بالنظر إلى الزمن الجيولوجي» على ضوء هذه المعضلة، هل يمكننا أن نتخيل ما إذا كان الإنسان الجديد سيظهر، وما هو الإنسان الجديد؟ إنسان عصر الأنثروبوسين (حقبة التأثير البشري) وخروجه، أم إنسان التقنيات السعيدة، أو إنسان عصر التسامح الكوني؟ ■