لماذا اخترت هذه القصص؟

تصدرت القصة القصيرة واجهة الفنون السردية في العصر الحديث، وتمكن كتَّابها من تطويع آليات الكتابة فيها وتقنياتها الفنية بمهارة فائقة، فجاءت مضامينها ثرية حافلة بقضايا الإنسان وهمومه.
وهى جنس أدبي مستقل بذاته يصور موقفًا أو شعورًا إنسانيًا تصويرًا مكثفًا له أثر ومغزى.
ولهذا الفن سمات وخصائص مختلفة عن الرواية من أهمها: وحدة الانطباع الذي تتركه القصة في المتلقي، والإيجاز، والتكثيف. ويمكننا القول إنها الشكل الأدبي الذي يقترب من كثافة القصيدة وبريقها وتوهجها، حيث يبلغ التركيز مداه فكل لفظة في القصة القصيرة ينبغي أن تكون منتقاة مقصودة بعناية شديدة، ولها دورها تمامًا كاللفظة في القصيدة.
هذا وتتطلب لحظة الكشف أو ما نطلق عليه التنوير اتساقًا وتناغمًا شاملًا لعناصر القصة الأخرى كالشخصية والحدث والزمان والمكان. وقد يستخدم الكاتب نهايات تعتمد على الدهشة والمفارقة، أو نهايات مفتوحة تتيح لمخيلة القارئ ما تتيحه، أو قد يميل الكتّاب إلى النهايات الحاسمة المغلقة المريحة للقراء. ورغم أن القصة القصيرة قد تجمع أشياء متناقضة من حيث المضمون إلا أن نظامها الشكلي الفني لا بد أن يتسم بالتكامل. والمعول هنا على القالب اللغوي للقصة القصيرة ولا غرو في ذلك فهي فن لغوي يعتمد كثيرًا على الصياغة الفنية المناسبة ولا مجال للاستطراد والحشو والإطناب أو الكلمات الزائدة مهما كان جمالها ووقعها على الأذن، فالتفاصيل وكثرة الأحداث وتعدد الشخصيات يضر كثيرًا بالقصة القصيرة ويصيبها بالترهل. إن القصة القصيرة يجب أن تنطلق بقوة كالصاروخ الذي يعرف هدفه، ولذا لا ننصح الكتّاب المبتدئين بالإكثار من اللوحات الوصفية، أو سرد تفاصيل حياة الأبطال او تعدد الأحداث، فكل هذا يضعف البناء ويشتت الانتباه ويقوض شرطي الوحدة والتماسك.
وأخيرًا يمكننا القول بأريحية، إن قيمة هذا الفن القصصي تكمن في كونه قادرًا على الغوص في معاني الوجود الإنساني ومحاولة فهمه وتغييره وإعادة النظر في تجارب الآخرين والتعبير الموجز المواكب لإيقاع العصر الحديث عن كل ما يؤرق الإنسان ويمس مشاكله ويناقش قضايا العالم آخذًا من الفلسفة والتاريخ وعلم النفس والاقتصاد والاجتماع خلفية وتكئة له.
وقد قرأت واستمتعت بالقصص التي وردتني من مجلة العربي مشكورة، للاختيار من بينها والتعليق عليها في الباب الذائع الصيت «قصص على الهواء»، وإليكم اختياراتي.
المرتبة الأولى: قصة «بو عزة الإسكافي» لـ د. حافظ عبداللوي/المغرب
- العنوان يتناسب مع موضوع القصة ويتلاحم معها فهو اسم بطلها الذي يدور حوله الحدث.
- الموقف القصصي يتميز بالسرعة، وطريقة الأداء تتسم باللمسة الدالة والكلمة الموحية.
- لغة القصة فصيحة مؤثرة معبرة عن الطبقة الاجتماعية التي تتحدث عنها القصة.
- ساهمت البداية المكانية الوصفية في إلقاء الضوء على الشخصيتين الرئيسيتين في القصة: بوعزة والراوي وأوضحت بيئة الحدث، ما كان له أثر إيجابي في تلقي القصة وتخيلها.
- وفق الكاتب في الكتابة القصصية بلغة جسدت التماهي بين الشكل والمضمون، ومن ثم خدمت اللغة المضمون.
المرتبة الثانية: قصة «أحبك مؤمنًا» لمصعب تقي الدين/ الجزائر
- اعتمدت على الحدث والحوار والشخصيات.
- اعتمدت التركيز والوحدة والكثافة، وهى من عناصر جودة القصة القصيرة.
- المغزى الإنساني في القصة عميق .
- لغة السارد طيعة فصيحة وتميزت لغة الحوار فيها بملاءمتها للشخصيات.
- الموضوع إنساني لا يختص ببيئة محددة.
- تجلت الوحدة والتماسك في وحدة المشاعر الإنسانية التي اكتنفت الشخصية (البطلة) وشعور الراوي تجاهها، ما انعكس بالضرورة على المتلقي الذي تعاطف مع الفتاة ومحنتها، وقد رسخت النهاية لذا التعاطف معها.
المرتبة الثالثة: قصة «زيارة» لمحمود يحيى/ مصر
- القصة اجتماعية تنتمي للواقعية النقدية، ولذا فإن لغتها تنحو نحو المباشرة والسهولة بعيدًا عن الإيحاء والغموض والصور المجازية.
- الأثر الفني الذي تركته القصة في نفس المتلقي قد أدّى دوره من حيث الثورة على الفساد
واستغلال النفوذ وسلطة القمع للضعفاء وهي رسالة واضحة ومغزى مهم حققته القصة.
- تميزت القصة بالتماسك، حيث ارتبطت البداية بالنهاية، ورسخت النهاية كثيرًا من الدلالات الاجتماعية والجمالية الشكلية.
- تجلت وحدتا الزمان والمكان في هذه القصة وكان لهما عميق الأثر في خلق الجو الواقعي الذي تحدثنا عنه آنفًا.
- وقد ظهرت هنا وحدة الانطباع وهي ميزة جمالية مهمة جدًا في فن القصة القصيرة.
المرتبة الأولى: قصة «بو عزة الإسكافي» لـ د. حافظ عبداللوي/المغرب
بأحد الأحياء الشعبية كان بوعزة يتخذ من محل صغير ورشة إسكافية له ولا يفصله عن مسجد القصر القديم سوى أمتار قليلة، إسكافي الحي ومحبوب الكبير والصغير، حيث يقصده كل من بدت علامات الضحك على أحذيته فكان يتفنن في الإصلاح ودق المسامير أو خياطة الممزق منها، كان أيضًا يصلح كل دلو بلاستيكي تعرض للشق أو الثقب، فترى الضحايا وقد وضعهم أمامه أو علق بعضها ولربما ترك الأخرى أمام محله الجميل والبسيط، كان في سقف المدخل حبل قصير يشده بوعزة للدخول وتجاوز عتبة مرتفعة بنصف متر في المدخل يتخذها الأصدقاء أو الزوار متكأ لهم، فقد كان دكانه مهوى شريحة من الشيوخ الذين يقبلون عليه قبل الظهر والعصر وبعده يتجاذبون أطراف الحديث ومناقشة الأخبار الجديدة في الحي والبلدة ونغمات مذياع قديم معلق من خيط مطاطي على الحائط بجانبه، حيث يمكنه من سحبه إليه أحيانًا لضبط الصوت أو الموجة الإذاعية.
ذات صباح قصد الدكان خالد أحد التلاميذ في الثانوية وقد أصاب حذاءه الرياضي ثقب وكاد يظهر ضحكه كما يحلو لبوعزة أن يصف ذلك، طلب منه العودة صباح اليوم الموالي لكونه ملتزم بإصلاح بعض الأحذية وكرسي بلاستيكي فقد أحد أرجله إذ سيلصق مكانها قطعة خشبية ويضبطها بالمسامير والسائل الأحمر اللاصق ذي الرائحة العجيبة التي تفوح في أرجاء الدكان وحاشيته...
بلغ اليوم الموالي وقصد خالد دكان عمي بوعزة - كما يناديه أهل الحي - بعد مغادرته الثانوية وكله أمل في استعادة حذائه الرياضي وأن يصبح في حلة جديدة وجميلة، توقف بجانب الدكان وهو يلمح ابتسامة بعض الشباب وهم يقلبون بين أناملهم أحذيتهم بعدما تم إصلاحها وخياطة ما أصابها من ثقب أو تمزيق، لحظة نادى عليه أن تقدم تقدم يا بني يا خالد وطلب منه الدخول وسحب أحد الأكياس البلاستيكية المعلقة فوق أحد الرفوف أعلى المذياع، مده إليه وأخبره بوعزة أن الحذاء بداخل الكيس خفق قلب خالد سعادة بما سيراه وسيكون عليه حذاؤه خاصة، وأن المساء لديه حصة التربية البدنية في الثانوية ونهاية أسبوع مباراة في كرة القدم مع الزملاء وأقران الحي هناك في ملعب خلف المستوصف، ملعب تعلوه الأتربة والحجارة حيث تتراء لك الزوابع الرملية من بعيد وكأن خلفها فرسان جيش فاتح.
فتح خالد الكيس وابتسمت عيناه قبل شفاهه لما لمح غياب الثقب في مقدمة الحذاء وأحس بنشوة الفرح وهو ما لم يكتمل لما أخذ يقلب الحذاء بين أنامله ليجد عمي بوعزة قد وضع قطعة خشبية في أسفل الحذاء مثبتة بمسامير محكمة.
قدم له الدريهمات مع دعوة بالرحمة للوالدين كالمعتاد وتوجه صوب البيت وصورة القطعة لا تغادر ذاكرته، في المساء وخلال الحصة الرياضية استغرب الزملاء من تزحلق خالد مرات عديدة فوق أرضية الملعب وسماع قرع لحذائه، ما اضطره للتوقف وإخبار الأصدقاء بنكتة الأسبوع ، ما دفع ببعضهم السؤال عن عنوان الإسكافي علهم يظفرون أيضا بقطع خشبية أو حديدية تساعدهم على التسديد القوي للكرة.
المرتبة الثانية: قصة «أحبك مؤمنًا» لمصعب تقي الدين/ الجزائر
أتذكره كيف التزم فجأة، لم نكن لننتبه لتحوله لولا أنه صار يأتي إلى الجامعة مزينًا بلحيته وقميصه المقصر وأتذكرها أيضًا كيف أصبحت تجلس في آخر المدرج بجلبابها الرمادي ونظرتها الخجلى وأصابعها التي ترقص باضطراب على لوح الطاولة الأملس، بعدما كانت تكشف للشمس جدائل شعرها الكستنائي الطويل.
أتذكر يوم كنا سنجري امتحانًا مساء خميس شاحب من شهر ديسمبر، كان جميع الطلبة متذمرين من توقيت إجراء الامتحان في آخر يوم يسبق العطلة الشتوية، وتجمعنا عند باب قاعة الدرس في الطابق الأخير قبل نصف ساعة مراجعين ما تيسر من معلومات تكون زادنا قبل الامتحان.
كنا منقسمين إلى جماعات اختلطت أصواتها برجع صدى بدد السكون المتكوم على نفسه في زوايا الطابق الفسيح، وكان صاحبنا يقف عند النافذة التي تتسلل منها أنفاس الشتاء ممسكًا رزمة أوراق يقلبها بهدوء تعلو وجهه نظرة سكينة.
كنت جالسًا على الدرج في زاوية المبنى حين لمحتها تتقدم إليه بخطوات خجلى متعثرة متلفتة يمنة ويسرة وهي تضم إلى صدرها دفترها، وحين لم تبق بينهما سوى خطوتين تكلمت قائلة:
- خذ هذا الدفتر وألق عليه نظرة فقد لخصت فيه كل الدروس.
رفع إليها بصره ليعود ويخفضه أخرى مادًا يده إلى الدفتر قائلًا بارتباك:
- بارك الله فيك... سألقي عليه نظرة وأعيده لك.
قالت وقد اقتربت منه خطوة أخرى:
- لا بأس أن نراجعه معًا...
فرد عليها وقد رفع عينيه إليها بشبه ابتسامة وحمرة لطيفة صبغت وجنتيه:
- أظن أنه لا بأس بذلك...
كانا محاطين بهالة من قداسة سمحة وكأنهما مقامان جليلان طاف بينهما السكون كأنه مريد تعطر بالهوى العذري أو شيء ما أجل منه قدرًا، وأنا أراقبهما بابتسامة رضا كأن الحجاب كشف لها لترى ما سيحدث في قادم الزمن بينهما.
اليوم رأيتهما وأنا أهم بزيارة أحد أقاربي بالمستشفى، ظل صاحبي محتفظًا بوجهه السمح ونظرته الطيبة سلم علي بحرارة وأخذنا نقص على بعض ما فاتنا من زمن، فيما هي تقف قريبًا منا ساندة ذراعيها على حافة النافذة القريبة.
سألني عن سبب قدومي إلى المستشفى فأخبرته، وسألته فأجاب بنبرة حزينة معتقة بحزن قديم:
- جئت مع زوجتي فلانة - وأشار إليها - أدع الله أن يخفف عنها، آتي بها في كل مرة لجلسة الكيماوي حتى يخف ألمها، يقولون إنه لا أمل في علاجها، لكن الله كريم أليس كذلك؟
نظرت إليها فأدارت وجهها الشاحب إلينا بابتسامة لا تكاد ترى، هي أقرب للحزن منها قربها من شيء يشبه الفرح، ثم عادت وأسندت ذراعها على حافة النافذة مرسلة نظرها إلى الأفق البعيد.
أغمضت عيني لوهلة مسافرًا بذاكرتي إلى زمن قريب ورأيتهما، كان يقف قرب النافذة التي تتسلل منها أنفاس الشتاء، وكانت تقف قريبًا منه مبتسمة بخجل، والريح تمد أصابعها الباردة من النافذة محاولة العبث بجلبابها الرمادي، كانت تشبه غيمة لطيفة تاهت عن الأفق واستقر بها المطاف هنا - في المستشفى.
المرتبة الثالثة: قصة «زيارة» لمحمود يحيى/ مصر
علمت بمصيبة أصابت صديقًا لي، بينما كان يعبر الطريق، حتى دهسه مراهق ابن أحد الكبار المتنفذين، كان رؤوفًا معه؛ إذ طيره في الهواء عدة أمتار، حتى سقط على قدمه فدغدغَّت، ويديه فكُسرت، ورأسه فَدشدشت، وعينيه فأظلمت. كان ذلك في وضح النهار، بل كان شرطيًا - أمين شرطة - على بعد خطوات، في قلب الميدان، والشارع في الأصل مدجج بالكاميرات... ولكن لا نعلم؟! وقتها طبعًا كان الشاغل هو نقل صديقنا للمشفى، والتي علمنا بخبر نقله لها بعد الحادث بحوالي ساعة، كان هو في غرفة العمليات بالمشفى العمومي. عرفنا ممن شهد الحادث أن الفتى كان يقود السيارة تحت تأثير المخدرات، وبجانبه حسناء من عمره، وفي الكرسي الخلفي أصدقاؤه يشعلون سجائر الحشيش، على أهازيج أغانيهم الماجنة . هو وجه معروف طبعًا للمدينة كنجم سينمائي؛ لأنه «ابن الباشا» يأمر فيُطاع بغمزة عين، ورفع الحاجب يغنيه عن فتح الفم، كان صديقنا غائبًا بفعل المُخدر العمومي.
فاقترح أحدنا أن نذهب لتحرير محضر بالواقعة، لنحفظ حق هذا المغدور المكوَّم على سرير حقير بملاءة متسخة، يسرح عليها البق، والقمل، ملطخة بالدماء،... وتأخذ العدالة مجراها فتقتص من المجرم، وربما سبب تراخينا في تبليغ الجهات الرسمية، إلى بعد خروجه من العمليات؛ ركوننا بأن الشارع يعجِ بالكاميرات أعلى البنايات، وأمام المحال، ويوجد غير الشاهد ألف لحادثة وقعت في قلب المدينة.
كانت الصدمة أن جميع أصحاب المحلات، والحوانيت يزعمون ألا حوادث جرت بالمكان، ولا يعلمون أمرًا عن الواقعة، ولن يطلع أحد على الكاميرات!. طفنا الشارع بطوله وعرضه قطعناه ذهابًا وعودة على الاتجاهين. ولكن لا مجيب! حتى أمين الشرطة لما سألناه اصطنع الجهل، بالواقعة برمتها، فشرحنا له الأمر وذكرناه بالرقم المميز لسيارة ابن الباشا - الذي يحفظه - عن ظهر قلب؛ لأن هذا الأرعن يصبح عليه ويمسي بورقة من فئة مائتي جنيه، وربما غمزه بسيجارة معتبرة من الحشيش الأفغاني الأصلي حتى ينتعش المرور! أخبرنا عجوز على جانب الطريق، هامسًا أن الشرطة حضرت بعد أن اتصل الأمين بها، ودخلوا جميع المحلات.
وزميلنا ينازع آلامه، هناك يتمدد في غرفة تعافها الكلاب! تضع قدميك على بوابة تلك المشافي المرعبة، فيأتيك الموت من كل مكان. الجدران كئيبة محفور عليها مئات القصص البشعة أحدهم فقئت عينه لأن الطبيب قليل خبرة، وحديث عهد بالطب. آخر يعاني من آلام مبرحة قادمة من بطنه، بعد عملية أجراها ليكتشف أن مقصًا نائمًا بجوار أحشائه، نسيه أحد أطباء العمليات؛ لأنه كان مشغولًا بقصة حب ضعضعت فؤاده، ومنهم من خرج «بكلية واحدة» بعد استئصاله المرارة. الصراخ ينهمر عليك من جميع الأركان، فيتحول المكان لسيمفونية آلام حين يتحالف المرض مع الفقر ! العجائز بأصواتهن الواهنة المبحوحة، والشباب بصراخهم الفتي، والصبية بصوتهم المسلوخ، تتقدم منك ممرضة في مقتبل شبابها كاملة الزينة، يَكسوها الهدوء، تتلبسها نفس مطمئنة، وكأنها في جنة وارفة، لا ترى أو تسمَّع أرواحًا تتألم ! تكتفي بحقنة «مسكن» مع ابتسامة رسمية - إن كانت رحيمة - أو صيحةً آمرة بالانصياع لأوامرها إن كانت جاحدة... وهنَّ الأكثر. وأطباء لن تراهم، لأنهم هناك في غرفهم المغلقة، يضحكون ويبحثون عن آخر نكتة . أما صاحبنا فخرج جثة تتنفس ملقاة على كرسي، لا يتحرك منه غير رموشه والفاعل مجهول ■