الروابط التاريخية في خدمة الاقتصاد
رغم اختلاف العلاقات الدولية عن العلاقات الشخصية في كل شيء تقريبًا، إلا أن الساسة حالهم حال أهل المال والأعمال يستثمرون في الروابط التاريخية والثقافية والدينيـة والأحـداث المشتــركة، متـى ما وجدوا فيها منافع تخدم مصالحهم الآنية والمستقبلية، وحتى الدول التي يخلو رصيدها من الروابط المشتركة مع مناطق بعيدة تحاول بشتى الطرق صنع تاريخ جديد يربطها مع مناطق بعيدة تكون بوابتها مشاريع تنموية تزرع المحبة في قلوب الملايين من سكان تلك المناطق، وبذلك تؤسس لنفسها قواعد صلبة تضمن لها جني الأرباح على المدى الطويل.
لقد شكلت تجربة السوق الأوربية المشتركة أمام العالم بأسره، مثالًا حيًا على تفوق لغة المصالح المشتركة على بقية اللغات المنتشرة في القارة العجوز، تفوق «اليورو» على تاريخ طويل من التناقضات والحروب التي أشعلتها أوربا مرتين في أرجاء المعمورة، لتبدأ مرحلة جديدة من العقلانية استطاعت من خلالها أن تصنع معجزات من العمل المشترك تربع على قمته إلغاء الحدود واستعمال عملة واحدة.
تلك الطاقة «العملية» انتقلت إلى قارة آسيا بأشكال متعددة، فقد خرجت اليابان جريحة من الحرب العالمية الثانية، ولكنها بمزيد من الانضباط والتفاني استطاعت أن تعيد بناء نهضتها الصناعية بأبعاد أوسع، وانفتحت على جيرانها الأقربين رغم تاريخها الدموي معهم، ويمكن القول إن دافعها كان الإحساس العميق بالذنب تجاههم، فقد عانت تلك الدول من وحشية الاحتلال الياباني أثناء الحرب العالمية الثانية، وعملت كل من كوريا الجنوبية وسنغافورة وماليزيا وإندونيسيا وفيتنام وتايلاند وهونغ كونغ بخطى ثابتة على صنع نموذجها الاقتصادي المنفتح، والتقوا عند نقطة مصالح مشتركة جعلت منهم قوة اقتصادية مؤثرة على خريطة الاقتصاد العالمي.
نهضة التنين
التنين الصيني، تخلى عن الكثير من الكوابح الأيديولوجية التي أوصلته لحافة المجاعة، واستطاعت النهوض كقوة اقتصادية عملاقة، وفي سبيل تعزيز مكانتها تجاهلت كل تناقضاتها القديمة مع روسيا، وأصبحت تقف بجانبها ضد الحصار الذي يحاول الغرب فرضه عليها بسبب حرب أوكرانيا، فلم تكتفِ باستيراد البترول والغاز منها، ولكنها وافقت على التعامل معها بالروبل الروسي بعيدًا عن الدولار، ومضت في دعمها من خلال انضمامها لمجموعة «البريكس» وهو تجمع اقتصادي بعيدًا عن سلطة أمريكا.
وتحت وطأة المنافسة الاقتصادية ورغبتها في التمدد لمناطق تتعدى محيطها الإقليمي، تواصل الصين منذ زمن طويل التوسع وفتح أسواق جديدة ومن ضمنها العالم العربي، الذي نجحت في التعامل معه واستثمار قدراتها المتنوعة في تلبية جميع الاحتياجات بمختلف الأسعار وأنواع الجودة.
تركيا وروسيا
وفي منطقة أخرى بين آسيا وأوربا نجد قوة عظمى سابقة هي تركيا، لها ثقل عسكري ولغة منتشرة في أكثر من بلد وقواسم مشتركة مع شعوب ثلاث قارات، نجد العلاقة المعقدة بين تركيا وجارتها روسيا، فبعد صراع طويل بين الامبراطورية العثمانية وروسيا القيصرية، زالت الامبراطوريات وتفكك الاتحاد السوفييتي وتحسنت العلاقات بين تركيا وروسيا برغم بعض التشابك في بعض المحطات، وأصبحتا من أكبر الشركاء التجاريين، وباتت روسيا أكبر مزود للطاقة لتركيا، وبدأ العديد من الشركات التركية العمل في روسيا، وأصبحت تركيا الوجهة الأجنبية الأولى للسياح الروس.
الاقتصاد... كلمة سحرية
عبارة قديمة ومبتذلة قليلاً ولكنها تثبت صحتها، قائلها هو جيمس كارفيل الذي كان يقود حملة بيل كلينتون عندما كان مرشحًا للرئاسة عام 1992م، «إنه الاقتصاد يا غبي». لم يكن كلينتون يمتلك تاريخ وخبرات منافسه الرئيس جورج بوش، لكنه، أي بوش، افتقد في تلك المرحلة التاريخية الكلمة السحرية التي كان ينتظرها الشباب وهي الاقتصاد، هذه العبارة القصيرة مكنت كلينتون من الفوز.
ويبدو أنها عادت من جديد في الانتخابات الأمريكية الأخيرة، والتي أعادت انتخاب الرئيس ترامب مرة ثانية رغم كل تاريخه المعروف خاصة بالنسبة للناخب المتأرجح، إلا أن ترامب استخدم لغة الاقتصاد ليخاطبهم بوضوح: تخفيض الضرائب، زيادة الأجور، أتاحت المزيد من الوظائف عن طريق تحديد الهجرة وطرد المهاجرين غير الشرعيين، وعود سحرية تمس نفوس الناخبين ويفهمونها جيدًا.
إن لغة الاقتصاد تتردد في كل مكان وليس في الولايات المتحدة الأمريكية فقط، في هذه الظروف الصعبة التي يمر بها العالم بسبب غلاء الأسعار ونقص الإمدادات، إضافة إلى اشتعال الحروب الإقليمية، مثل أوكرانيا والتي كشفت للعالم مصدر قمحها ورغيفها.
الاستثمار العربي في التاريخ
ولكن ماذا عنا كعرب؟ هل حاولنا أن نستثمر في الروابط التاريخية التي تجمعنا مع الكثير من الشعوب والدول؟ روابط العرق والدين واللغة، أعلم أن التعليق الأول الذي سيطرأ على ذهن القارئ هو ليبدأ العرب مع أنفسهم قبل الآخرين، ولكن هذا الأمر من الشراكات وخاصة الإقليمية والقارية لا يمنع وجود أكثر من علاقة اقتصادية بوقت واحد.
يتحدث تاريخ الحضارة عن الازدهار الاقتصادي الذي كانت تعيش فيه البلاد العربية والإسلامية في القرون السابقة، عن توسع رقعة العالم الإسلامي بواسطة التجار المسلمين بصورة توازي ما تم بالفتوحات العسكرية، ولعل إندونيسيا خير مثال على ما نقول، فتلك الدولة التي تحتل المركز الأول في تعداد الدول الإسلامية، دخلت الإسلام بواسطة التجار المسلمين.
يقول المـؤرخ الأمريكي ويل ديــورانت في كتابه الموسوعي «قصة الحضارة»: «كانت الأسواق تغصّ بالمتاجر والتجار والبائعين والمشتــرين والشعراء، والقوافل تربط الصين والهند بفارس والشام ومصر...، وظلت التجارة الإسلامية هي المسيطرة على بلاد البحر المتوسط إلى أيام الحروب الصليبية، وانتزعت السيطرة على البحر الأحمر من بلاد الحبشة، وتجاوزت بحر الخَزَر إلى منغوليا، وصعدت في نهر الفولغا... إلى فنلندا وإسكندنافيا وألمانيا حيث تركت آلافًا من قطع النقود الإسلامية...، ووصل هذا النشاط التجاري - الذي بعث الحياة قوية في جميع أنحاء البلاد - إلى غايته في القرن العاشر، أي في الوقت الذي تدهورت فيه أحوال أوربا إلى الدرك الأسفل!».
ماذا نملك؟ وماذا سنقدم؟
وبنظرة سريعة على التاريخ سنجد أننا كعرب لدينا محيط إسلامي مع الكثير من الدول الإسلامية في آسيا وإفريقيا، ولدينا امتداد تاريخي وحضاري مع إسبانيا وشعوب قارة أمريكا اللاتينية، وأخيرًا لدينا لغة مصالح مشتركة مع قوى ناهضة كالصين وروسيا وتركيا، ودول كثيرة تريد الخروج من دائرة المصالح الأمريكية والغربية. والأسئلة المهمة التي يجب طرحها الآن: ماذا نملك؟ وماذا سنقدم؟ هل سنكون في علاقة من جانب واحد نشتري فقط أو علاقة ثنائية تبادلية؟ هل نملك بنى تحتية مناسبة للمواصلات الدولية برًا وبحرًا وجوًا مع بلدان بعيدة؟
دول الخليج العربي أحست بهذا الأمر منذ وقت مبكر، ربما لتشابه ظروفها البشرية والاقتصادية، لذلك تجمعت تحت مظلة مجلس التعاون الخليجي منذ عام 1981م، وهي لا تزال موجودة وقائمة ومستمرة بينما تعطلت العديد من التجمعات العربية الأخرى، وقد وُلد المجلس في ظروف صعبة إبان الحرب العراقية - الإيرانية، وواجه ظروفًا صعبة زادت من صلابته عندما تعرضت دولة الكويت للغزو العراقي الغاشم 1990م، وقد أثبت أنه يمكن أن يكون نواة لتجمع عربي قادر على البقاء.
لن ينجو أحد بمفرده
في الختام وبعد استعراض العديد من الأمثلة على الاقتصاد العربي، فلابد أن يجد طريقًا للتعاون وأن يخرج من عزلته الإقليمية، والظروف العالمية الجديدة تفرض عليه أن ينظر خارج الحدود، فعلى سبيل المثال توجد إسبانيا التي شهدت على أرضها حكمًا عربيًا وإسلاميًا استمر لعدة قرون، والآن بعد أن زالت مظاهر التعصب تعتبر إسبانيا الأثر العربي والإسلامي جزءًا مهمًا من تاريخها، وعلينا أن نتذكر أنها كانت آخر دولة اعترفت بقيام إسرائيل، ولم تكن لتفعل ذلك لولا الضغوط الأمريكية عليها.
وعلينا أن نعبر حدودنا التقليدية ونتطلع إلى قارة أمريكا اللاتينية، فهناك دول كثيرة منها تقف مع الحق العربي، وتشترك معنا في المعاناة من تحيّز الإدارات الأمريكية، كما أنها منذ أواخر القرن التاسع عشر قد استقبلت أفواجًا من المهاجرين العرب الطامحين لحياة جديدة في العالم الجديد، وهي إن كانت بعيدة جغرافيًا إلا أنها قريبة سياسيًا، وقد بدا هذا واضحًا في موقفها من العدوان الصهيوني ضد غزة، وسبقتها مواقف أخرى، من أجل هذا يمكن أن ترحب بتعاونها معنا كما رحبت بمهاجرينا في القرن الماضي.
علينا أن نفكر خارج الأطر القديمة وأن نؤمن أن التعاون هو سمة العصر، فمن الصعب أن ينجو أحد بمفرده، ولكن يمكن أن ننجو جميعًا معًا ■