الرحلة عند أحمد السقاف: وسيلة ممتعة لدعوة عظيمة.. د. سليمان الشطي

الرحلة عند أحمد السقاف: وسيلة ممتعة لدعوة عظيمة.. د. سليمان الشطي

لماذا الرحلة والكتابة عنها عند المرحوم أحمد السقاف؟
لا أدري. يا من تقرأ هذا المقال، هل لفتك وأنت تتصفح الكتاب الكبير للمقري التلمساني: «نفحُ الطِيْب في غصن أندلس الرطيب» البابان الكبيران اللذان استغرقا المجلدين الثاني والثالث، وفيهما عرض وتفصيل عن من رحل إلى الأندلس وعكسه من رحل منها إلى الشرق؟

أما أنا فنعم، فقد وقفت أمام هذا المدخل، فرأيت فيهما إشارة قوية إلى المعنى الكبير الرابط بين الأمة الواحدة، والحضارة المتصلة، ففي تلك الدولة الإسلامية الضخمة، حققت الجمال والخيول حينما راحت تقطع آلاف الأميال، تغوص الركب في الرمال، تعاني الأفئدة مشقة الصعود إلى القمم، والهبوط إلى الوديان، آنذاك استطاع الرجال المؤمنون أن يحققوا ترابطا عجزنا عن تحقيقه في عصر المواصلات الحديثة.

كانت الرحلة هي الكلمة السحرية، والحركة المباركة، الصلة الوثيقة لدور المعرفة والتعارف، فرحل طلبة العلم، توغلوا في الصحراء بحثا عن أصول اللغة وتوثيق الأخبار، قالوا: إن الكسائي خرج إلى بوادي الحجاز ونجد وتهامة وقد أنفذ خمس عشرة قنينة من الحبر في الكتابة.

وجاب طلاب الحديث النبوي الشريف الأقطار بحثا عن حديث متوغل في أقصى البلاد وأدناها، ويقول أحد رواة الحديث إنه كان بمصر: فما خرجت منها وفيها علم إلا حويت عليه فيما أرى، ثم أتيت الحجاز فما خرجت منها وبها علم إلا حويت عليه, ثم أتيت العراق فما خرجت منها وبها علم إلا حويت عليه فيما أرى، ثم أتيت الشام فغربلتها. وهكذا ساح الدعاة يحملون مزودة وفكرة، وتجول العلماء ليستقروا عند أعمدة المساجد، منبع العلم ومستقره، يسمعون وينشرون علمهم. رحل الغزالي فأنقذ نفسه من الضلال، وسجل ابن خلدون رحلته شرقا وغربا، وغيرهما كثير وتابعهم الرحالة العظام: ابن فضلان، ابن جبير وابن بطوطة، وناصر خسرو, كل واحد يشبك خيطه في النسيج الكبير للحضارة ليوحدها نسقا وينميها فكرا.

هكذا كانت الرحلة، عندنا، وعند غيرنا، أداة عزيزة لفكرة سامية، وعندما جف نبض الرحلة في النفوس خفتت نجوم المعرفة الحضاريـة. وتدنت معرفتنا، بعضنا بالبعض الآخر، فكانـت العزلـة القاتلة.

وكان لابد لترسيخ النهضة أن تبعث هذه الرحلات المباركة، كشفا وإضاءة، ولعل هذا الوعي الدقيق هو الساكن في نفس أستاذنا المرحوم أحمد السقاف، الشاعر والكاتب والمربي والرائد في مجالات كثيرة، والمتشبع بفكرة القومية العربية التي كانت هاجسا يسكن في خلاياه الدقيقة، وهو يعيد مرة أخرى للحياة هذا التقليد الكتابي، فكتب ما كتب وسجل ما سجل وخاصة كتابيه: أنا عائد من جنوب اليمن (1955) وحكايات من الوطن العربي ج1 (1980).

وقبل السياحة في هذين الكتابين، لابد من تعريجة صغيرة في حديثنا، نقطع بها هذا التسلسل لأتذكر معكم، وأنا أكتب لـ«العربي»، ذلك الدور الذي لا ينكر لأحمد السقاف، فقد كان له فضل كبير في التخطيط وإنشاء واختيار اسم مجلة العربي، فكان أهم المخططين لها، والمعدين لإصدارها، وبين يدي تقرير واف عن رحلته إلى عدد من العواصم العربية لاختيار عناصر التحرير والاتفاق مع المحررين والكتاب (يناير 1958) حتى صدرت في آخر العام، واللافت عندي فيها، منذ العدد الأول، تلك اللمسة التي لا أتردد في البحث فيها عن توجهات السقاف القومية، وأعني به ذلك الباب المتميز الخاص باستطلاعات «العربي» للبلدان والمدن العربية، والذي كان يقدم استطلاعات موثقة ودقيقة ومقدمة في حلة بهية. من حقنا التخمين أن ذلك الملمح البارز في أبوابها فيه نفحة من توجهات السقاف، الذي ينتمي إلى جيل صلب في موقفه، عاش مؤمنا مدافعا عن فكرته القومية، وهو دفاع يحمل حجته التاريخية والعقلية والعاطفية، ومن ثم تشعر معه أنه، وهو يدخل مضمار الرحلة، غارق في الوسط الذي يتحدث عنه، مستوعبا خفاياه، جامعا كل أطراف المعرفة فيه. وهكذا جاءت رحلاته.

أعود لأصل ما انقطع

عندما شحذ أحمد السقاف همته للدخول في بوابة الرحلات، ومن ثم تسجيلها بدقة، كانت الفكرة إذًا واضحة في ذهنه، فيشير إلى الحكايات في رحلاته قائلا: «كثيرة هي الحكايات، وكثيرة هي الذكريات، والناس عادة يرغبون في سماع اللذيذ منها ليخففوا عن أنفسهم متاعب الحياة، غير أني لا استطيع أن أقدم الحكايات والذكريات المسلية وحدها، فالحياة لا تجري على نمط واحد، ولن تكون على نمط واحد».

حين النظر فيما سطره قلمه في الكتابين السابقين، نلمس ابتداء توجهه القومي العام الذي يحرص على إثباته، فعند عرضه لرحلته الأولى التي سجلها في كتابه (أنا من جنوب الجزيرة العربية) جاء عنوان الكتاب فيه إيحاء أو اختيار واضح، فهو لا يرتاح للتقسيم الإقليمي، فهو عائد من جنوب الجزيرة العربية، ولم يقل من اليمن، وتتضح الفكرة أكثر حينما جعل عنوان كتابه الثاني (حكايات من الوطن العربي الكبير)، فهو يختار العنوان عن وعي، بل هو مرتكز لنقطة دفاع، فيتوقف عند حدود المصطلحات فيرفض وصف: العالم العربي، ويرى أنها كلمة مضللة، يستعملها من يحاربون عبارة «الوطن العربي» أو الأمة العربية ؛ فلفظة «العالم» تصلح لأن تطلق على مجموعة دول مختلفة في أجناسها وقومياتها، أما أبناء الوطن الواحد ممن يتكلمون لغة واحدة ويعتزون بتراث واحد ويتشاركون في السراء والضراء، فإن من الإجحاف أن نطلق على وطنهم مهما عانى التجزئة لفظة العالم (حكايات من الوطن ص 138).

مفتتح الإطلالة

اليمن 1955، أو جنوب الجزيرة العربية، كما يحب أن يسميها.

تبدأ رحلته الأولى وقد استقطبها حدث كبير دام انفجر في أعقاب ثورة سابقة دامية أيضا قادها الأحرار اليمانيون ضد حكم الإمام يحيى حميد الدين (1948) تحت قيادة عبد الله بن الوزير، وقبل أن يدخل في غمار الأحداث في أسبوعها الأول، تطوراتها، أسبابها، ظروفها، يتضح لنا أنه لم يكن مشاهدا ينظر إلى الحدث من الخارج، بل كان حريصا على الإحاطة بكل الظروف والمواقف، فيلتقي، قبل مباشرة الرحلة، بأحرار الثورة الأولى ليعرف موقفهم من التحرك الجديد، داخل بيت الحكم نفسه ومن الخصومة على ولاية العهد بين الأبناء الثلاثة، وكان الانحياز لأحدهم، سيف الاسلام البدر بن أحمد حميد الدين على أساس الاعتراف بحقوق الشعب ووضع دستور للبلاد وإطلاق الحريات وإخراج البلاد من عزلتها المخيفة، وقد قدم صورة واضحة للأحداث وخلفياتها وأسسها الفكرية، ثم تابع تطور الانقلاب منذ بدايته بعرض مركز واف ينقل للمتلقي الحدث بتركيز مشبع وعين فاحصة حتى نهايته الدموية، يعرض الوثائق والبيانات، والصور، محققا شروط الرحالة اليقظ، تلتقط عيناه كل ما هو جدير بالالتقاط.

ولا تنحصر الرحلة في تغطية تلك الأحداث الآنية الساخنة، ولكنه يواصل جولته، يطوف في البلدان، ويتنقل بين الربوع معرفا بها وواصفا لها؛ فيأتي حديث متسلسل عن المحميات التسع في اليمن الجنوبي، يذكرها واحدة بعد الأخرى بترتيب وتعريف ووصف دقيق، مع تعليقاته الخاصة، وهذا نموذج يعرف فيه بإحدى المحميات، سلطنة لحج، وهي أكبر محمية من هذه المحميات وأكثرها عمرانا ورقيا، وهي واقعة في شمال عدن تكثر فيها البساتين وأشجار النخيل وتسقى من وادي «تبن» بضم الأول وفتح الثاني ويتفرع هذا الوادي في شمال العاصمة إلى فرعين هما: الوادي الصغير والكبير، يخترقان سهولها الزراعية من الشمال ويصبان أخيرا في بحر عدن.

وفي هذه السلطنة بعض المدارس وعدد من المدرسين المصريين، وفيها مستشفى صغير، ولها بعثة تتعلم في مصر وفي العراق، ومجلس تشريعي يُنتخب أعضاؤه انتخابا حرا يشرف على الدوائر ويسن الأنظمة والقوانين الملائمة لحياة البلاد.

غير أن السلطان عبد الكريم عدَّل عن الانتخابات ولجأ إلى تعيين أعضاء هذا المجلس فشُلت فائدته شللا تاما، وأصبح هذا المجلس آلة تسخرها رغبة السلطان، وهذا أكبر خطأ يرتكبه السلطان علي عبد الكريم، فعسى أن يعيد للأهالي حقهم في انتخاب هذا المجلس.

ويختار لنا المشاهد البطولية، فهذا مناضل يتصدى للقائد للغازي، يحاول أن يثنيه عن فعله، رافضا دخوله أرضه، وعندما يرفض يمزقه بخنجره قبل أن يهب أعوانه من الجنود لإطلاق النار عليه. وقصة أخرى يرويها تقول: إنه عندما التقى فيها المناضل الشهيد محمد عبد الدايم بالمحتل الكولونيل الإنجليزي «سيجر» لم يتمالك نفسه من أن ينهال عليه بالطعن قبل أن يقتل بدوره.

وللبطولة صورها اللافتة للنظر، فيروي لنا مثلا قصة الآنسة دعرة، ويُعَرِف الاسم قائلا: الدعرة عند أبناء اليمن هي أنثى الضبع، هذه المرأة منذ أن كانت طفلة لبست ملابس رجال القبائل، وحملت السلاح وشاركت في المعارك مع أفراد قبيلتها، وحين ثارت قبائل ردفان على الإنجليز، كانت دعرة من أنشط الثوار، وفي إحدى الغارات البريطانية على قرى ردفان أصيبت دعرة بشظية قنبلة فنقلت إلى تعز ثم أرسلت إلى القاهرة بطائرة عسكرية للعلاج، وعندها قرر الأطباء إجراء جراحة للآنسة دعرة، مما اقتضى نزع ملابسها فأبت بشدة لأنها لا تريد أن يطلع أحد على حقيقتها، ولكن كل شيء تم بعد التخدير (حكايات من الوطن العربي 74) .

والسقاف في تسجيل رحلاته لا يترك شاردة ولا واردة إلا وقدمها شارحا موضحا، ويقدم الإحصاءات المتاحة، ففي تعريفه للمحميات، يقدم جدولا باسم المحمية، وسلطانها وعاصمتها وعدد سكانها، وينظر في نشاطها الثقافي والأدبي، ويقدم مادة أساسية تلقي الضوء شاملا على كل الجوانب ومنها السياسية، ذات الحساسية الخاصة، فنظرته الطليعية تلتفت إلى الأدباء والكتاب المناضلين الذين يقودون حركة التغيير، مثل الأديب علي محمد سعد الذي كان يكشف فيما ينشر مآسي ومخازي الاستبداد في سلطنة لحج فتَعرّض للاضطهاد، وعندما دافع عن نفسه وأطلق النار على نجل السلطان، قتل مع بعض أقاربه.

وكما تعاطف مع عناصر التقدم والثورة ـ وتجاوز النظر الخارجي العام إلى الدخول في مناطق المناقشة، إضافة إلى توقف عقله الناقد عند الإيجابيات، فإنه سلط الضوء على عناصر التخلف، مثل الزواج المبكر، والتمسح بالأولياء وتقبيل يد السادة. فهو ضد كل مظاهر التخلف والخنوع، فهدف الرحلة وتسجيلها إنما هو المشاركة الإيجابية، والدعوة إلى المستقبل، في سياق دعوته إلى العناية بالصحة والتربية والتعليم والمرافق.

ولا ندري هل كان السقاف يتصور يومها أن ما كتبه في سجل رحلته هذه، وما كان يقدمه من مقترحات التطوير التي يقترحها ويتمناها، سيتحول إلى حقائق قائمة وهو نفسه من سيخطط لها ويشرف على تنفيذها حينما تولى رئاسة الهيئة الكويتية العامة للجنوب والخليج العربي.

كان مدار تفكير السقاف في الرحلة هو النزوع فيها إلى الدعوة للمستقبل، والتمحور حول ذلك الحبل الأساسي الذي يراه منطلقا لكل وعي وإصلاح، مشيدا به ومؤكدا عليه، فالحس القومي، والانتماء العربي هو المرتكز، فيقول مؤكدا: «وأكثر من ذلك نستطيع أن نقول إن الإيمان بالعروبة كان أحد البواعث الكبرى لقيام حركة الأحرار من أساسها، ويوم لخص الأحرار دعوتهم في مبادئ ستة، جعلوا فكرة العروبة أحد هذه المبادئ الأساسية. ويوم قامت حكومتهم الدستورية كان أول عمل فكرت فيه فتح أبواب اليمن لقادة العرب وصحافة العرب والهيئات العربية على اختلافها، ويوم دخلت فكرة الشركات الأجنبية إلى اليمن جُعِل مبدأ وجود خبراء عرب ضرورة لا بد منها، ويوم تورط الأحرار، بعد فشل الانقلاب الأول وأصبح مصيرهم في كف القدر، لم يلجأوا إلا إلى وفد الجامعة العربية».

وتابع مشيدا بهذا التوجه القومي وجعل الفكرة العربية أساسية عند الأحرار في صحفهم ومقالاتهم ومذكراتهم.

وفي هذا الإطار يتصدى لكل منتقص لهذه الفكرة القومية، ففي سياق هذه الرحلات ونشاطه واتصالاته يتصدى بوضوح وقوة وبخاصة أولئك المعادين للقومية الذين يريدون أن يخلقوا الحواجز والسدود بين القومية والدين الإسلامي، ويقينه الذي لم يتردد في إعلانه أنه لا يمكننا أن نتصور القومية مجردة من أقوى ركائزها ألا وهو الدين.

لقد كانت الرحلة عنده وسيلة رائعة للدعوة ولتدعيم مبدأ كلي ملامحه ووسائله واضحة عنده، ويقوم على أسس راسخة ؛ فمفهوم الأمة وتطلعاتها لم تكن تغيب عند أية نقطة فوق أي حرف من حروفه.

الرحلة وجوه متعددة:

ومن بعد، فإن للرحلات وجوها متعددة وتأملاتها، تفتح العيون والأفئدة للتأمل فيما حولنا، هي كسر للعادة، وخروج عند قيد الألفة الذي يجعلنا لا نفحص ما حولنا بحكم العادة والألفة، لذا كانت الرحلة تفتح آفاق الرؤى، فمنها ما يشدنا للواقع، ويكشف حقائقه المرة، نقتنص بعضها، ونقف عند جزء من تفصيلاتها التي لم يقفز عليها قلمه، فيها لقاءاتها مع نماذج الحياة تمر بنا مصادفة لتترك أثرها فينا، مثل ذلك الشاب البائس، من أبناء الجزيرة العربية، في باريس يبحث عن عمل في نزل (بنسيون) نظير أكله وإقامته، يصور لنا الحالة وينقل تعليق الفرنسي صاحب النزل الذي قال: كلكم في منطقة واحدة وأنتم من أصل واحد، ثم نرى بعضكم يقطر شحما، وبعضكم تتكسر عظامهم من الجوع وأنت منهم، إنني لا أفهم هذا العالم الحقير. (حكايات من الوطن العربي. ص 85)، ويقف عند حالة طفل مشرد في الطرقات، يضعها في مقابل كلب مدلل تحتضنه سيدة مرفهة، وعندما اقترح أن يشارك هذا الطفل الكلب في النعيم أبت بشدة ! ولنا أن نقول معه:

«كم في القصور من الكلاب تعيش في رغدٍ ترامى»

ولم يتجاوز عن طرائف الرحلة ومفارقاتها، وقد روى العديد من طرائفه مع شاعر البحرين الكبير إبراهيم العريض في رحلتهما إلى باريس والمغرب.

نبض الحياة

ونختم مع رحلات السقاف بهذا المشهد:

مشهد يحرك في النفس منابع الإلهام، ويفتح العين على عطاء الطبيعة ودروسها، فكما تكشف لنا جوانب من طبائع الشعوب ومعاناتها، فهي أيضا تجعل المآقي، مركز الإشعاع في العيون ينفتح ليشمل أوسع مدى، ففي وسط متشابكات الحياة البشرية يسكن بجانبها عالم آخر، وفي لحظة استراحة في رحلة بين مدينة وأخرى، وامتطاء طرق جبال اليمن الشاهقة، وفي جلسة تعود بأصحابها إلى عالم الطبيعة وآفاقها وتفردها، يصف السقاف منظرا وموقفا، فيه من نبض الحياة الشيء الكثير يقول واصفا:

«وبعد مسيرة نصف ساعة، أقبلنا على شجرة ضخمة يصب قريبا منها شلال من أعلى الجبل مكونا بركة واسعة، وبدت لي الشجرة من بعد كأنها تحمل ثمارا تشبه البرتقال، وبعد الاقتراب منها رأيت العجب العجاب، فجميع أطراف أغصان الشجرة ثبتت فيها أعشاش محكمة الصنع لطيور صغيرة صفراء جميلة، فحططنا تحت الشجرة وأشعلنا الحطب ونزل الرفاق الثلاثة يسبحون في البركة تحت الشلال، بعد وضع الخروف على الجمر مرفوعا على صخرتين كبيرتين. وبقيت مشدوها بمنظر واحد من هذه العصافير النشطة الذكية، فقد شاهدته يجلب الطعام لصغاره الثلاثة بعزيمة لا تكل، كان يختفي بضع دقائق ثم يعود وفي منقاره الغذاء، فتمتد إليه أفواه الصغار الثلاثة فيعطي واحدا منها ثم يذهب ويعود ويعطي الثاني، ويذهب ويعود ويعطي الثالث، وكلها تصيح فاغرة أفواهها تطلب الأكل وهو لا يخطئ، وكان الجو جميلا والرذاذ ينعش النفس والجبال والسهول خضراء تأسر القلوب، وفكرت كثيرا في ذكاء هذا العصفور، وفي اختياره آخر الأغصان لربط عشه فيها، فهو لم يفعل كما تفعل الحمامة حين تبيض على عش مفكك مبعثر، سرعان ما تقذف به الرياح إلى الأرض، أو يكون عرضة لغزو الزواحف والطيور الكبيرة، وإنما اختار آخر الأغصان ليمنع وصول الأذى إلى بيضه وصغاره، فلا الطيور الكبيرة تستطيع الوقوف على آخر الأغصان، ولا الزواحف تستطيع أن تزحف إلى طرف الغصن، والرياح مهما اشتدت، فلن تستطيع أن تجلب الأذى إلى العش وما فيه. فقد أحكم صنعه على نحو يثير الإعجاب. وفي لحظة التأمل سمعت حمامة تنوح على جذع شجرة يابسة، فقلت لنفسي: قد تكون تندب صغارها، فهي ليست ذكية كهذا العصفور الذي احتاط لجميع الأخطار. وبصورة عفوية أخرجت القلم وبدأت أناجي العصفور الأصفر».

وكانت قصيدته:

يا طيرُ يا عصفورُ يا أصفرُ
مالي إلى غيركَ لا أنظرُ؟!
يَهنيكَ ما يُسْبي وما يَسْحرُ
ومنظرُ يُزرِي به منـــظرُ
يا طيرُ يا عصفورُ يا أصفرُ

وهكذا امتدت الرحلة، وتبدلت دروبها وتشكلت هياكلها. بدأت بالثورة والأحداث المثيرة، والدماء السائلة، لتعبر إلى ملامسة الواقع ووصفه، مستشرفة وداعية للمستقبل، ثم سائحة في ملكوت التأمل فاتحة شرفات الإبداع ..

رحم الله أستاذنا أحمد السقاف.

 

 

سليمان الشطي





أحمد السقاف أمين عام رابطة الأدباء في الكويت يصل إلى دمشق وإلى يمينه سفير دولة الكويت لدى سورية عبد الله أحمد الحسين وكبار أدباء سورية عام 1971





السقاف في بيروت وإلى يساره ابنته هيفاء وبجوارها السيدة فيروز في تأبين الشاعر بشارة الخوري 1969





أحمد السقاف ويوسف السباعي في مهرجان الشعر في تونس في بهو أحد الفنادق عام 1973