خطاب الهوية في الفكر الفلسفي المعاصر

خطاب الهوية في الفكر الفلسفي المعاصر

يبدو الحديث اليوم عن الهوية أمرًا عاديًا للغاية، وذلك نظرًا لاستخدامه بشكل واسع في الخطاب اليومي، ولكن مع ذلك، فإنَّ محاولة تحديد معناه بدقة تُعدّ أمرًا صعبًا، لأسباب كثيرة، أبرزها أنَّ الفهم الشائع يرى الهوية معطى قائمًا بذاته، وأنَّها ذات طبيعة جوهرية، في حين أنَّ ثمة معطيات كثيرة، تخالف هذا الفهم، ومنها ما يطرأ عليها من تغير، وما تخضع له من سياسات في عملية بنائها، وبخاصة في المجالين التربوي والقانوني، فضلا عن المحيط الاجتماعي بالنسبة للهوية الفردية، والمحيط العالمي بالنسبة للهوية الفردية والجماعية على حد سواء. 

 

تشير المعاجم على اختلاف أنواعها إلى عدة معانٍ أو عناصر للهوية، أهمها: التطابق والتشابه في مقابل الاختلاف أو المغايرة، والوحدة في مقابل التعدُّد، والثبات في مقابل التغير، وتؤكد قبل هذا كله على المعنى المنطقي القديم المتمثل في مبدأ الهوية (أ=أ)، ضمن ما يعرف بقوانين الفكر الأساسية التي تتكون من مبدأ الهوية، وعدم التناقض، والثالث المرفوع. ويعني مبدأ الهوية أن الشيء هو هو، أي يتطابق مع نفسه، وصيغته السلبية هو أنه لا يمكن أن يكون الشيء هو نفسه وغيره في الوقت نفسه. وأن لفظ الهوية في اللغة العربية مشتق من الضمير المفرد الغائب (هو). وقد وُضع كاسم معرّف بالألف ومعناه «الاتّحاد بالذّات». و«هو» اسم إشارة يحيل إلى «الآخر» وليس إلى «الأنا». وفي هذا دلالة على أهمية العلاقة مع الآخر في كل تحديد أو تعريف أو تعيين للهوية، لأنَّه يثبت الآخر قبل أن يثبت الأنا، ولأنَّه يُطلق على الغير في مقابل الأنا، ولأنَّ الإنسان لا يعرف نفسه إلا إذا عرف غيره.
إذا كان هذا المعنى قديمًا قدم الفلسفة، فإنَّه لا يزال موضوع استعمال في مختلف العلوم بوصفه مبدأ منطقيًا صالحًا للحُكم على الأشياء، ولكن، وبحسب المؤرخين لمفهوم الهوية، فإنَّ هذا المعنى، أقصد معنى التطابق، قد عرف تغيُّرًا في العصر الحديث، وتحديدًا في القرن التاسع عشر، عندما استعملته الدولة القومية الحديثة في شكل شهادات إثبات المواطنة، ومنها على وجه التحديد البطاقة الوطنية أو المدنية، كما يصطلح عليها في الكويت، بحيث أصبحت البطاقة المدنية دليلاً مطابقًا للمواطن الكويتي، تتضمن عناصر تسمح بالتعرف على المواطن والاعتراف به في الوقت نفسه.

استعمال فلسفي
إنَّ هذا المعطى الذي يمكن أن نصطلح عليه بالمعطى القانوني، قد احتفظ بالمعنى المنطقي، ولكنه وظفه في مجال جديد لم تعرفه المجتمعات القديمة. ولكن ما تجدر الإشارة إليه هو أنَّ هذا المعنى القانوني قد سبقه استعمال فلسفي لا يلتفت إليه كثير من الدارسين لتاريخ الهوية، وأعني بذلك إسهامات الفلسفة الحديثة في صورتها العقلانية  عند ديكارت والتجريبية عند لوك والمثالية عند هيغل. وإذا كان المجال لا يسمح بتحليل هذا الجانب بشكل مفصل، فإنَّ ما يجب التأكيد عليه، هو أنَّ الهوية لا يمكن فصلها عن مفهوم الذات أو الأنا، ومعلوم أنَّ ديكارت قد أسس فلسفته على نوع من الذاتية الواعية والمقررة والإرادية، وذلك في عبارته المشهورة: «أنا أفكر إذن أنا موجود». ولم يتردد جون لوك في استعمال الهوية الشخصية، وبخاصة في مسألة استمرارية الهوية الشخصية عبر الزمن وما تعرفه من ضروب التغير والتبدل والاستمرارية والتواصل أو الانقطاع، وقدّم حلا لا يزال موضوع تقدير ونظر، ويتمثل في افتراض أنَّ الشخص هو وعي ذاتي متجسّد قادر على الاحتفاظ بذاكرة المراحل المتعاقبة من وجوده، وهو ما يعني أن العنصر الأساسي في الهوية الذاتية أو الشخصية وفي الهوية الجماعية أو الاجتماعية هو عنصر الذاكرة بنوعيها الذاتي والجماعي. ولكن إذا كان ديكارت قد ركز على عنصر الوعي أو الفكر، ولوك على عنصر الذاكرة أي علاقة الذات بذاتها، أو الهوية بهويتها، فإنَّ الفيلسوف الألماني هيغل في القرن التاسع عشر، قد نقل مسألة الهوية إلى مجال العلاقات الاجتماعية. ووفقًا له، تنبع الهوية من الاعتراف المتبادل بين الذات والآخر، حيث تنشأ من عملية صراعية تُبنى خلالها التفاعلات الفردية والممارسات الاجتماعية الموضوعية والذاتية.
تعد هذه الاستعمالات لمفهوم الهوية بداية للتحول الكبير الذي سيعرفه في القرن العشرين، وبخاصة بعد الحرب العالمية الثانية. ولقد تجلى ذلك في مظاهر عدة، يمكن رصدها في العلوم الإنسانية والاجتماعية، وبخاصة في علمي النفس والاجتماع، وذلك في خمسينيات القرن العشرين في الولايات المتحدة الأمريكية تحديدًا، حيث اكتسب شهرة بفضل هذين الفرعين العلميين اللذين كان يُعتقد آنذاك أنهما قادران على تفسير الحالة الإنسانية أو الوضعية الإنسانية. ولقد أسهمت المشكلات الاجتماعية والسياسية التي شهدها هذا البلد خلال الستينيات في انتشار المفهوم، لأنَّه كان ولا يزال يعانى مما أصبح يسمى «أزمة الهوية الفردية والاجتماعية»، وهذا مظهر جديد، وتسمية حديثة لم يعرفها تاريخ المفهوم منذ أن نحته أرسطو في اليونان في القرن الرابع قبل الميلاد.

مفهوم الهوية
كما شهدت مرحلة ستينيات القرن العشرين في أمريكا ما يعرف بتأكيد حقوق الأقليات الأفرو-أمريكية، وإعادة تقييم العلاقة بين الفرد والمجتمع، ومنذ ذلك الحين، أصبح مفهوم الهوية مفهومًا لا غنى عنه في النقاش الاجتماعي والنفسي والأخلاقي والسياسي، وفي الخطاب الفلسفي المعاصر تحديدًا، وبخاصة في الفلسفة الاجتماعية وعند فلاسفة مشهورين، أمثال: الفيلسوفة الأمريكية نانسي فيزر، والفيلسوف الكندي تشارلز تايلور، والفرنسي بول ريكور، والألماني أكسيل هونيث وغيرهم كثير، مما يتطلب تخصيص كل واحد منهم بمقال خاص، وذلك بالنظر لأهمية النظريات التي قدموها، ولما أثارته من نقاشات فلسفية مهمة. 
ولقد انعكس هذا التطور في استخدام مفهوم الهوية  في إنشاء أقسام أكاديمية مخصصة لدراسة هويات الأقليات داخل الجامعات الأمريكية، إلى جانب التوسع في استخدامه في مجالات بحثية كثيرة، بحيث يتعذر علينا اليوم إحصاؤها أو تصنيفها، ومع ذلك يجب الإشارة، ولو باقتضاب، إلى الدور المحوري الذي قام به عالم النفس الأمريكي إريك إريكسون في انتشار مصطلح الهوية وفي الاهتمام الذي حظي به داخل العلوم الاجتماعية. لقد كان إريكسون محلِّلاً نفسانيًا، ينتمي إلى مدرسة التحليل النفسي التي أسسها فرويد، ولكنه عندما هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية اهتم بحالات الجنود العائدين من الحرب العالمية الثانية، وكذلك بحالات السكان الأصليين من الهنود الحمر الذين كانوا يقطنون في مستوطنات خاصة، مستفيدًا من جهود الأنثروبولوجيا الثقافية، وبخاصة جهود مارغريت ميد التي ركزت على الروابط والعلاقات بين الخصائص النفسية للأفراد والتعبيرات الثقافية الفريدة للبيئات التي يعيشون فيها، بحيث مكنته هذه الدراسات من تجاوز نظرية التحليل النفسي المتمحورة حول الفرد، والتركيز على دور التفاعلات الاجتماعية في بناء الشخصية، وفي محاولة منه لتشخيص هذه الحالات التي كان يستعمل في وصفها مفهوم الشخصية في مجال علم النفس، استعمل مفهوم الهوية متبوعًا بوصف «أزمة الهوية» التي لا ترادف الكارثة، وإنَّما تشير إلى انعطاف وتحول يصيب الأفراد والجماعات.

الهوية الاجتماعية
ولقد تواصلت هذه الجهود النفسية والاجتماعية مع العالم إرفينغ غوفمان، وبخاصة في كتابه الوصمة (Stigma)، بحيث ذهب إلى القول أنَّ الوصمة ليست مجرد علامة أو صفة محددة، بل هي بالأحرى علاقة تتشكل من خلالها أدوار الأفراد في التفاعل الاجتماعي، وأنَّه من خلال هذه التفاعلات، تتكون عدة مكونات للهوية وتدخل حيز التطبيق، فمثلاً، تنشأ الهوية الاجتماعية، من مطابقة أو عدم مطابقة الانطباع الأول الذي يتركه الآخر مع العلامات التي يعبر عنها. وفي تقديره فإنَّ الهوية التي تتشكل من خلال التفاعلات الاجتماعية تنبع من التناقض بين هوية يُحددها الآخرون (الهوية للآخرين) وبين هوية الفرد تجاه نفسه (الهوية من أجل الذات). ومن هنا نشأت طريقتان رئيستان في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا في فهم الهوية، فمن جهة، تظهر الهوية بوصفها معطى ثابتًا وطبيعيًا، ويُطبق على الكيانات الجماعية، وهو ما تقول به البنيوية، وبخاصة عند مؤسسها كلود ليفي ستروس الذي أشرف على كتاب جماعي مشهور، عنوانه: الهوية (1983)، وذلك على الرغم من تأكيد هذه المدرسة على مفهوم الاختلاف، وهنالك من جهة أخرى، النظريات التفاعلية للهوية التي تركز على الجانب النسبي وتهتم أكثر بالفرد.
والحق، فإنَّه على الرغم مما يشهده استعمال مفهوم الهوية من تعدُّد وتكاثر، الذي لم يتردد بعض نقاده بوصفه بـ «التضخم»، إلَّا أنَّه مع ذلك، لا يمكننا إلا الإقرار بأنَّه أداة أساسية للتفكير في مكانة الفرد داخل مجموعة اجتماعية أو داخل المجتمع ككل، وأنَّه لا يُظهر أي علامة من علامات التراجع سواء من الناحية الكمية أو الكيفية، بحيث ذهب بعضهم إلى القول إنَّ الهوية «فكرة لم نعد نستطيع التفكير بها بالطريقة القديمة، ولكن من دونها لا يمكن التفكير في بعض القضايا الأساسية على الإطلاق». يؤكد هذا القول حضوره المكثف في دراسات «الجندر أو الجنوسة»، والأبحاث حول الجنس، والعرق، والدين، والانتماء العرقي، والقومية، والهجرة، والحركات الاجتماعية الجديدة، وسياسات الهوية. وعليه، فإن الناظر في  هذه الحالة التي يعرفها استعمال المتزايد للمفهوم، لا يمكنه إلا أن يستخلص جملة من العناصر، منها:
1ـ يستخدم مفهوم الهوية من قِبل الأفراد (العاديين) في مواقف يومية معينة للتعريف بأنفسهم وأنشطتهم، وما يشتركون فيه مع الآخرين، وما يميزهم عنهم في الوقت نفسه. كما يُستخدم من قِبل القادة السياسيين لإقناع الناس بفهم أنفسهم، ومصالحهم، وتحدياتهم بطريقة معينة، والتأكيد  في الوقت ذاته على أنَّهم مختلفون عن الآخرين. كما يُستخدم لتوجيه العمل الجماعي وتسويغه نحو اتجاه معين، وبهذه الطريقة، ينخرط المفهوم في الحياة اليومية وسياسة الدولة بأشكالها المختلفة، وهو ما يعني أن خطاب الهوية اليومي للأفراد وسياسة الدولة في الهوية مظهران واقعيان ويعبران عن توجهات أيديولوجية وسياسية. 
2ـ لا يمثل استخدام مفهوم الهوية مشكلة في ذاته، ولكن المشكلة تتمثل في الطريقة التي يُستخدم بها، وأنه على الرغم من تعدُّد هذه الكيفيات، إلَّا أنَّه يمكن حصرها في طريقتين أو نظريتين: النظرية الجوهرية (essentialiste) التي ترى أن الهوية تتشكل من عناصر ثابتة وطبيعية لا تقبل التغير، وأن التغير ليس إلَّا مظهرًا خارجيًا لا يؤثر في جوهر الهوية. والنظرية البنائية (constructiviste) التي ترى أنَّ الهوية عملية بناء تتكون من عناصر ثابتة نسبيًا وأخرى متغيرة، وتعمل على تعزيز هذا التصور بدراسات تجريبية واجتماعية تاريخية، وبخاصة عندما تُفهم الهوية بوصفها نتاج العمل الاجتماعي أو السياسي، وتوظف بغرض تسليط الضوء على التطور التدريجي والتفاعلي لنوع معين من الفهم الذاتي الجماعي، أو التضامني، أو ما يوصف بـ»الشعور بالمجموعة» الذي يجعل العمل الجماعي ممكنًا.
3 - لا يعني ما سبق حصر النقاش الفلسفي المعاصر حول الهوية في اتجاهين لا ثالث لهما، وإنَّما الإشارة إلى التوجه العام، وذلك لأنَّ التعدُّد والتنوع يطبع المفهوم سواء من الناحية التاريخية أو التحليلية، ولكن مع ذلك، فإنَّ الأبحاث التي أنجزت في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية، وبخاصة في الفلسفة الاجتماعية، تبين أن الهوية عنصر يمتلكه الجميع، أو يجب أن يمتلكه، أو يسعى إلى امتلاكه، وأنها تميز الجماعات الاجتماعية، أو على الأقل الجماعات من نوع معين، مثل الجماعات العرقية أو القومية، وأنَّ الهوية الجماعية تتضمن تصورًا قويًا للروابط التي تجمع بين أعضاء الجماعة وتجانس الجماعة، وأنَّها تفترض وجود درجة عالية من (الجماعية)، أو التشابه بين أعضاء الجماعة، بالإضافة إلى وجود تمييز واضح تجاه غير الأعضاء، وحدود واضحة بين الداخل والخارج.
4ـ إذا كان المعنى الشائع لـلهوية يشير بشكل قوي إلى فكرة (التشابه) عبر الزمن، أو الاستمرارية، أو إلى العنصر الذي يبقى ثابتًا أو مشابهًا، بينما تتغير عناصر أخرى، وهو ما يعني أنَّها قابلة للتشكيل، أو (سائلة)، إذا استعملنا وصف زيغمونت باومان، فإنَّ ما يجب التأكيد عليه هو أن الهوية الفردية أو الشخصية والهوية الجماعية أو الاجتماعية لا يمكن فصلها عن علاقاتها الداخلية والخارجية، وعن أشكال الاعتراف القانوني التي تحظى بها، وعن تفاعلاتها الإرادية، وبخاصة في حوارها مع الآخر، ومحاولات تنمية إمكاناتها التي تسمح لها بتكيف أفضل، وقادر على العطاء والإسهام الإيجابي في عالم لا يكف عن التغير والتطور ■