معضلات التنمية!
تراكمت أدبيات التنمية في العديد من الكتب والدراسات الأكاديمية والمهنية على مدى زمن طويل تجاوز السبعة عقود. لكن هذه الأدبيات تتفاوت في تقييم محددات التنمية وقد تتأثر نتائجها بالتوجهات الفلسفية أو الأيديولوجية لكتابها أو المؤسسات التي تصدرها. بيد أن الواقع العملي للتنمية لا يعتمد كثيرًا على الدراسات والفلسفات حيث تشكل في مختلف بلدان العالم بموجب أوضاع اقتصادية واجتماعية وديمغرافية وتتأثر بمنظومة القيم التي تسود في المجتمعات الإنسانية وأحيانًا بالقيم الدينية وطقوسها المتكرسة.
تنطلق أساسيات التنمية على ضرورة تحقيق معدلات نمو اقتصادية لا تقل عن ما يتم تحقيقه في البلدان المتطورة وبلوغ مقاييس جيدة من جودة التعليم والرعاية الصحية والتكوين الأسري الملائم. بطبيعة الحال هناك فروقات في تحديد عملية التنمية في البلدان النامية. لا بد من تحديد المصادر الطبيعية التي تنعم بها البلاد وكيفية استثمارها من أجل تعزيز فرص التنمية، فمثلًا البلدان الغنية بالنفط يمكن أن تستفيد من إيرادات الصادرات النفطية لتحسين الأوضاع المعيشية وتوفر الأموال للاستثمار في قطاعات أخرى ومن ثم تنويع القاعدة الاقتصادية. أهم من ذلك كيف يمكن الارتقاء بالثروة البشرية من خلال برامج التعليم وتحسين الأوضاع الصحية ومعايير جودة الحياة.
التأثير السياسي
يمكن الزعم بأن البلدان النامية اعتمدت فلسفات متنوعة لإنجاز برامج التنمية منذ مطلع خمسينيات القرن الماضي. العديد من البلدان اعتمدت أنظمة الاقتصاد الشمولي «Command Economy» تأثرًا بالفكر الاشتراكي الذي تعزز بعد ثورة أكتوبر البلشفية في روسيا ونجاح الحزب الشيوعي في الصين بالاستيلاء على السلطة في عام 1949م. يضاف إلى ذلك أن القيادات السياسية التي جاءت بعد الاستقلال في العديد من البلدان النامية كانت متأثرة بعدائها للغرب بعد تجارب الاستعمار ومن ثم العداء للنظام الرأسمالي.
هذه البلدان اعتمدت نظامًا اقتصاديًا يؤكد على دور الدولة في الحياة الاقتصادية بحيث أصبحت الملكية للمؤسسات الأساسية، والمرافق الحيوية عائدة للدولة، في حين ترك في بعض البلدان، مساحة محدودة للقطاع الخاص وغالبًا في أنشطة التوزيع السلعي والخدمات، وإلى حد ما في القطاع الزراعي. الصناعات الأساسية أنيطت للقطاع العام.
يمكن الزعم بأن هذه المؤسسات الرئيسة خضعت للإدارة البيروقراطية ولقيادات إدارية من كبار الموظفين الحكوميين.
لم تطبق في هذه المؤسسات معايير الربح والخسارة وضبط التكاليف ومقاييس الجودة الصناعية أو الإنتاجية.
نموذجان عربيان
يمكن الزعم بأن التنمية لابد أن تعتمد على إمكانيات إدارية متميزة لاستغلال الموارد الطبيعية وتوظيف التعليم لبناء قوة عمل متمكنة من إدارة المشروعات والمؤسسات بما يمكن من تحقيق النتائج المرجوة. لكن تجارب عديدة أكدت أن الأنظمة السياسية التي حكمت البلدان النامية بعد الاستقلال من الهيمنة الاستعمارية لم تتمكن من تثمير الموارد بما يحقق التنمية المستدامة. عطلت هذه الإدارات الإنتاج في القطاع الزراعي وعمدت إلى بناء صناعات لم تكن ذات جدوى اقتصادية وربما لا تتوافق مع الميزات النسبية لتلك البلدان. وهناك أمثلة يمكن ذكرها: مصر التي نجحت ثورة 23 يوليو 1952م في إسقاط النظام الملكي تعززت فيها مظاهر العداء للطبقة الرأسمالية الوليدة وللملكية الخاصة في الزراعة، فصدرت قوانين متلاحقة لتنظيم الملكية في الزراعة بما أدى إلى تفتيت الأراضي الزراعية وإفقاد إمكانيات الإنتاج وتعطل إدارة هذه الملكيات.
كان الهدف هو القضاء على النظام الإقطاعي وإنصاف الفلاحين وتمكنهم من ملكية الأرض واستغلالها لحسابهم، لكن الزراعة تتطلب أنظمة ملكية مختلفة تسمح بالملكية الكبيرة وتوفير القدرات الإدارية، خصوصًا في زراعة المحاصيل مثل القطن أو القمح. وأصبحت الأراضي الزراعية، أو أجزاء منها متاحة للتملك العقاري البعيد عن النشاط الزراعي، أما الصناعة والتي كانت تتمثل بشكل مهم بالصناعات النسيجية المعتمدة على القطن فقد تحولت ملكيتها للقطاع العام. ولا شك أن الاهتمام بالتصنيع، بشكل شامل، كان من استراتيجيات يوليو وإن لم يأخذ بنظر الاعتبار المحددات التي تحكم الاقتصاد المصري.
والنموذج الثاني هو الجزائر، فبعد الاستقلال في عام 1962 توجهت الحكومة الجزائرية بفعل تأثير عناصر في السلطة يميلون نحو الفكر الاشتراكي إلى اعتماد استراتيجية للتصنيع في البلاد. لكن هذه الاستراتيجية لم تفلح في تطوير الحياة الاقتصادية. اعتمدت الجزائر على الصناعات الثقيلة ذات الرأسمال الكثيف «Capital Intensive» ولم تأخذ بنظر الاعتبار الميزات النسبية للبلاد والتي لا تتوفر لمثل هذه الصناعات.
يمكن أن نعزو هذا الاهتمام بالصناعة الثقيلة للاهتمام بفلسفة التحرر من الاعتماد على الاستيراد وإمكانيات خلق طبقة عاملة ماهرة. والجزائر تعتبر بلدًا منتجًا للنفط ويساهم القطاع النفطي اليوم بنحو ثلث الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. ومرت البلاد بظروف اقتصادية صعبة منذ الاستقلال وبالرغم من الخطط الاقتصادية ظلت البلاد تعتمد على القطاع النفطي لتحصيل إيرادات ولم تتمكن من النجاح في تنويع القاعدة الاقتصادية. لم تفلح الجهود في رفع مساهمة القطاع الزراعي الذي خضع لإجراءات تحول ملكية ساهمت في تراجع الإنتاج. بعد الاستقلال أصبحت الأراضي الخصبة مهجورة من المزارعين الاستعماريين الفرنسيين «Colonial Farmers»، والذين حل محلهم مزارعون جزائريون بالأجر في ظل نظام التيسير الذاتي «Salf Managed».
أهمية المرونة
نماذج التنمية التي طبقت في بلدان عربية وغيرها من البلدان النامية اعتمدت على قيم سياسية واجتماعية قد لا تكون مقنعة اقتصاديًا. قد لا يكون ممكنًا اعتماد نموذج تنموي دون التعرف على الإمكانات الاقتصادية مثل المصادر الطبيعية والقوى العاملة المؤهلة والقدرات الاستهلاكية التي تعتمد على مستويات معيشية ملائمة، ثم هناك التعامل مع الأسواق الخارجية ومدى استيعابها للصادرات من المنتجات الصناعية التحويلية أو المنتجات الزراعية المتوفرة. التمترس وراء منطلقات فكرية نظرية مبنية على أيديولوجيات صارمة قد يعطل التنمية ويؤدي إلى خسارة إمكانيات اقتصادية ومن ثم هروب رؤوس الأموال الخاصة ورحيل أصحابها بحثًا عن بيئات اقتصادية جاذبة.
هناك تجربة لي كوان يو في سنغافورة والذي اعتمد على العلم والمعرفة والتنمية البشرية وتنمية الأخلاق الفردية والمجتمعية بما جعل البلاد نموذجًا يحتذى به بعد أن كانت مستنقعًا لم يفكر أحد بأنها قد تصبح ذات قدرات اقتصادية مهمة. هذه البلاد الصغيرة مازالت من أهم النماذج التنموية حتى بعد رحيل مؤسسها الذي توفاه الله عن عمر 91 عامًا في عام 2015م. لم يتشبث بفكر سياسي محدد أو أيديولوجية متزمتة ووازن بين الرأسمالية والانضباط المجتمعي والسياسي، وسمح بمساحة من الحرية لا تؤدي إلى الفوضى.
محنة الديمغرافيا
التنمية تعتمد، أيضًا، على التطورات الديمغرافية فلا يمكن بناء اقتصاد حيوي مهما كانت هناك إمكانيات مالية وموارد طبيعية إذا كان النمو السكاني يتجاوز معدلات النمو الاقتصادي. وظلت بلدان عديدة في العالم الثالث تعاني من ارتفاع معدلات النمو السكاني ومعدلات الخصوبة العالية والتي زادت من أعباء هذه البلدان التي تعاني من ندرة الموارد وانخفاض الدخل، وعندمـــــا يكـــــون العمـــــر الوسيط «Median Age» في بلد ما دون العشرين عامًا، أي أن نصف عدد السكان تقل أعمارهم عن العشرين فإن ذلك يعني أن أعباء التعليم والرعاية الصحية كبيرة، كما أن النساء لا يمكن الاعتماد عليهم في إنجاز الأعمال نظرًا لدورهن في رعاية الأطفال.
هناك أهمية بأن تكون التركيبة الديمغرافية متوازنة بمعنى أن توفر عددا كافيا من القوة البشرية لقوة العمل والتي يتعين أن يتراوح العمر بين 15 إلى 65 عامًا. البشر في أعدادهم لا يمثلون قوة اقتصادية مهمة دون تعليمهم التعليم الملائم والذي يمكنهم من أداء أدوارهم في سوق العمل وإدارة المؤسسات وإنجاز كل الأعمال التي تؤدي إلى الارتقاء بالحياة الاقتصادية، فلم تفلح برامج تنظيم النسل في بلدان عديدة وظلت البلدان الإفريقية وعدد من البلدان العربية تعاني من الاكتظاظ وارتفاع معدلات البطالة.
مقابل ذلك هناك بلدان تعاني من تراجع معدلات النمو السكاني وانخفاض الخصوبة وارتفاع نسبة كبار السن بما يعني مسؤوليات اجتماعية لتوفير الرعاية في الشيخوخة وتراجع إمكانيات توفير التأمين الاجتماعي نظرًا لانخفاض أعداد العاملين.
غني عن البيان أن التنمية لا يمكن أن تتحقق بموجب المعايير المثالية، كما حدث في سنغافورة أو تايوان أو كوريا الجنوبية. هناك المحددات الثقافية ومحددات الأنظمة السياسية وهيمنة القيم الدينية. لكن ما يتميز به القادة النموذجيون هو تلك القدرة على التعامل مع تلك الصعوبات والمحددات وتسخيرها لبناء الوحدة الوطنية وتحفيز العمل والاجتهاد وتعزز المسؤولية المجتمعية وتشجيع الابتكار والمبادرة لدى الأفراد الذين حظيوا بتعليم متميز واكتسبوا ثقافة مفيدة. هذه التحديات والتعامل معها بحذر ومسؤولية تؤدي إلى الوصول إلى النموذج التنموي الملائم. ويجب التأكيد على أهمية التلاقح مع تجارب الآخرين، خصوصًا البلدان التي نجحت في بناء نماذج تنموية يعتد بها، وكذلك الاستفادة من مبتكرات التكنولوجيا والعلوم الحديثة والتي مكنت بلدانًا عديدة من الوصول إلى اقتصاد المعرفة ■