كيف تتفاعل الصورة الفوتوغرافية مع الذاكرة؟
مع ظهور التصوير الفوتوغرافي بات التاريخ ليس حدثًا يروى، لكنه صورة تقدم الكثير من المعاني والمعلومات التي تنقلها العين للمخ، فيعيش الإنسان مع ماض لم يكن موجودًا فيه، هذا ما يدفعنا للتساؤل: هل أثر التصوير الفوتوغرافي في الذاكرة الفردية أو الجماعية؟ وبأي طريقة أثر؟ وما هي تأثيراته على ذكرياتنا؟ كل ما سبق أسئلة تقودنا إلى: هل نحن بحاجة لإعادة دمج التاريخ مع الصورة التي تعبر عنه؟ وهل نجحنا في إعادة قراءة التاريخ عبر الصورة؟ إلى أن نصل هل لدينا أرشيفات للصور على صعيد الأفراد والأسر والمجتمع والمؤسسات والدولة؟
الصورة لها قدرة لا محدودة على استدعاء الزمن كما كان، فهي تغنينا عن آلاف الكلمات، وصدقيتها تغنينا عن الأدلة، هنا لابد من التفريق بين الذاكرة الطبيعية للإنسان وبين التقنيات التي تساعده على دعم الذاكرة، العلاقة بين الكتابة والصورة علاقة وظيفية، فالكتابة هي أداة لتجميع ما تم التفكير فيه أو قوله أو فعله وحفظه، مما يترك مساحة للتفكير في أشياء أخرى، فالكتابة والصورة كلاهما أداتان لدعم ذاكرة الإنسان، هذا ما دفع الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا في كتابه «حمى الأرشيف» للتساؤل ما هو التأثير الذي أحدثه التصوير الفوتوغرافي على ذاكرة الإنسان والثقافات وما تأثير الأجهزة التكنولوجية على النفس الإنسانية؟
تدور تساؤلات دريدا حول الوضع المتغير للعقل في ظل التطور التكنولوجي، فهل ستصبح لديه نفس القدرات؟ في حقيقة الأمر أن هذه التساؤلات تحتاج إلى بحث أعمق مما ذهب إليه، فالحقيقة أن التكنولوجيا بأدواتها خصمت من القدرة الذهنية للإنسان على التذكر، وعلينا أن نفحص كتب التاريخ في الحضارة الإسلامية لنجد قدرات مذهلة للعلماء في العصور الوسطى على استحضار المعلومة بل وكتابة موسوعات ضخمة (انظر تاج العروس وذيلة لمرتضى الزبيدي)، هذا القاموس الذي كتب قبل عصر التصوير الفوتوغرافي، بل في مجال العماراة الإسلامية كان المهندس المعماري حين يتولى بناء ما يتصوره في ذهنه، يقسم الأعمال المطلوبة على الحرفيين كل حسب تخصصه، ثم يصف لكل واحد منهم ما يريده بأبعاده ثم يبدأ في البناء دون رسم معماري ويواصل ذلك، لقد رأينا ذلك حتى عند افتتاح منشآت رسمية فقد كانت تفتح المساجد عند إتمام ظلها أو إيوان القبلة فقط، ثم يجلس المعماري في حفل الافتتاح يملي على القاضي وصف البناية من ذهنه كاملاً دون نقصان ليسجل ذلك في كتاب الوقف، واليوم حينما نرجع إلى هذه الكتب نجد الوصف مطابقًا لما تصوره المعماري وأملاه.
أدوات للتذكر
هنا نستحضر مشهدًا آخر وهو مؤسسات الذاكرة: المتاحف/المكتبات/ دور الأرشيفات، والتي شيدت لحفظ وعرض ما تستطيع الذاكرة أن تستدعيه منها، أو ما يمكن من خلاله بناء رؤية تاريخية وتراثية وفنية، فهل الذاكرة تقتصر على ذلك؟ إن العملات والطوابع البريدية والميداليات التذكارية كلها أدوات للتذكر، وزاد من قيمتها أن لها جمعيات وأفرادًا هواة يحفظونها ويقدرون قيمتها، فهل نستطيع بعد هذا أن نسقط حدثًا تاريخيًا من الذاكرة؟
في حقيقة الأمر، حدث، فأنا ولدت في مدينة مطوبس في مصر، وكان بها تصوير فوتوغرافي منذ فترة مبكرة واستديو أو أكثر من أوائل القرن العشرين، لكن عدم الإدراك أفقدنا صورًا كانت من الممكن أن تشكل ذاكرة فوتوغرافية للمكان والعائلات، هذا ما نرى تعبيرًا قويًا عنه وعن قيمته لدى أوهان باموق في روايته عن اسطنبول حين يغلف الأحداث مع الصور. إنني أستدعي كتاب بيير بوردو (التصوير الفوتوغرافي... فن الحاجب الأوسط) والذي يقدم لنا علم اجتماع التصوير الفوتوغرافي، فقد نما تدريجيًا في الأسر استخدام التصوير الفوتوغرافي والألبومات العائلية، لتتحول لأداة للتذكر، فكل أم بالذات وليس الأب تحرص على التقاط الصور الفوتوغرافية لأطفالها منذ الولادة ومراحل النمو المختلفة، لتتحول لمؤرخ لطفولتهم، ويخلق نوعًا من الميراث العائلي لصور تذكر الأطفال كيف كانوا وكيف أصبحوا وكيف هم وقت مشاهدتهم صورهم، في ترتيب زمني تحرص عليه الأسرة داخل ألبوم الصور، بل نجد العديد من العائلات في مصر تلتقط صورًا لها في مراحل زمنية مختلفة، لنرى فيها نمو الأسرة عمريًا وعدديًا، بل وتطور الأزياء والأثاث وعمارة البيوت، فالصورة هنا سجل للمجتمع، الذاكرة الاجتماعية المصورة تظهر وحدة العائلة التي نراها في المناسبات التي تشاهد فيها ألبوماتها، لنكتشف أن هذه الصور تجعل العائلة ممتدة عبر الزمن مترابطة بالصور، فالصور تثير وتنقل أحداثاً تستحق أن نحافظ عليها، فالماضي هنا يوحد العائلة، وتصبح له جاذبية، لتمتد الصور فتشمل الأصدقاء والأقارب، فتتحول لخزان متدفق للذكريات، فهي إذًا بنك للبيانات والمعلومات.
تشكّل الصور ذاكرة مرئية مشتركة، وهي توازي التاريخ الشفهي الذي انتقل لنا عبر العصور، وتنقل لنا الكثير من قصص المهمّشين، هنا التاريخ يروى من القاعدة الكبيرة للقمة، فقصص الحياة العادية التي غالبًا ما تكون مصحوبة بصور فوتوغرافية، صورة صادقة من الماضي، لينطبق ذلك على صور المدارس والجامعات ووسائل الإعلام كالصحف والمجلات، لنرى التذكر الجمعي أو تذكر الأحداث الجديرة بالتذكر حاضرة لدى الذاكرة الجمعية.
تدوين القدماء المصريين
إنه عبر التاريخ الإنساني كانت القدرة على التدوين ونقل المشاهد قوة للحضارة التي تجيد ذلك، وليس أدل على ذلك من مشاهد الحياة اليومية لقدماء المصريين في معابدهم ومقابرهم، فهم لم يتركوا شيئًا إلا ورسموه ودونوا عنه، فصارت حضارتهم بسبب ذلك مذهلة، بل وكانت لها قوة الحضور الطاغي في عصرنا، إن تاريخ تقنيات الذاكرة والكتابة والصور من أدوات الإعلام عبر العصور وصولاً إلى العصر الرقمي، هنا تجيء قيمة الصورة التي تصنع الذاكرة البصرية، تلك الذاكرة التي يجري توظيفها كأداة خادمة للبيروقراطية الحكومية، أو كأداة للبحث العلمي كما في مجال الآثار أو غيره من المجالات العلمية. هذا نابع من قدرة التصوير الفوتوغرافي على تخزين وإعادة إنتاج الأشياء كصورة مرئية.
الصورة المرئية تشكل في رأي عدد من الباحثين نوعين من الذاكرة: ذاكرة إرادية/ ذاكرة لاإرادية، الأولى تشبه استعادة التاريخ عبر الصورة، واللاإرادية تعبر عن المشاعر الشخصية أو المكبوتة، فالصورة يمكن من خلالها تمثيل التاريخ لذا فهي تتداخل مع الذاكرة الجمعية، وهي على الصعيد الفردي تثير العواطف والمشاعر حزنًا وفرحًا، فذكريات الطفولة تعكس البراءة، فالصور تستدعي التحليل وليس الخيال، فهي تمثل الواقعية التي لا يمكن نفيها ولا تكذيبها.
الانتباه، هذا ما تبعثه الصورة في أذهاننا، ويرى بعض المختصين أنه إذا وجهنا انتباهنا إلى الصورة بدلاً من الحدث، فلن يكون لدى عقولنا القدرة على تخزين الذكريات قصيرة المدى على المدى الطويل، بمعنى آخر فالتقاط الصور بصورة مستمرة يخرجنا من اللحظة التي نعيشها فنحن نركز في اللقطة ولا نركز في أجواء الحدث، وبالتالي قد نفقد درجة من درجات إدراكه والشعور به، وهناك مدرسة فكرية معارضة ترى أن الصورة تعمل على تعزيز ذاكرتنا وتجاربنا في الحياة، فهي تركز انتباهنا على شيء محدد، العالمة المختصة في ذلك أليكساندرا باراش قامت بتحليل التجارب البصرية للأشخاص الذين التقطوا صورًا في المتحف، مقارنة بأولئك الذين لم يفعلوا ذلك، كانت الفئة الأولى أكثر قدرة لتذكر تفاصيل القطع الأثرية، لكنهم لم يكونوا منتبهين للمحفزات الأخرى حولهم كالمواد السمعية والألوان وغيرها، لكنهم تذكروا بشكل أفضل من الآخرين تفاصيل القطع التي قاموا بتصويرها.
في تجربة أخرى أجريت عام 2011م طلبت عالمة النفس ليندا هينكل من المشاركين التقاط صور في متحف، في هذا اليسناريو، كانت ذاكرة المشاركين عن الشيء الذي التقطت صورته ضعيفة إلى حد ما، ولكن عندما استخدم المشاركون ميزة التكبير/ التصغير في الكاميرات، كانت ذاكرتهم عما رأوه أكثر عمقًا.
لهذا: في الوقت الذي تبدو فيه الذاكرة البصرية تشهد تعزيزًا بالصور، فإن الذاكرة السمعية أو الانتباه إلى المحفزات الأخرى قد تتأثر، وبين الاثنين: السمع/ الرؤية، فإن السمع هو الحاسة الأكثر أهمية عندما يتعلق الأمر بما نتعلمه، بمعنى أكثر وضوحًا: يشكل الصوت جزءًا كبيرًا من إدراكنا للعالم، أكثر من البصر.
الكاميرا تلتقط لحظة من الزمن تضيع على الفور بلا رجعة، لحظة تنتهي مع التقاط الصورة، فاللقطة تضفي على اللحظة الخلود، لتظل الصورة حية، ينطبق هذا على صور المباني والشوارع والأشخاص، فما تسجله الكاميرا لم يعد هو نفسه، لكن الصورة لديها إمكانية الحفظ للأجيال القادمة، هذا ما يجعلنا نربط الصور الفوتوغرافية بالذكريات: إنها بقايا عصرنا.
ملحمة الذاكرة والتوثيق، تبدو لعبة شائقة، لكن بقدر ما نكتسب قدرة على التذكر عبر الصورة، فإننا نفقد جزءًا من الذاكرة على الجانب الآخر، لذا فالتفاصيل في الصورة المرئية تعوضنا الكثير، هذا كله يقودنا لطموح متزايد عند الناس لتوثيق واقعنا المعاش، لتحكي الصور قصتنا لنتذكرها لاحقًا ولنحتفظ بها للأجيال القادمة.
الصورة وكتابة التاريخ
يقدم التاريخ رؤية المؤرخ للأحداث المبنية على ماضي الناس وتجاربهم بناءً على الآثار المتبقية بين يديه والتي تبقى بعضها من زمن سحيق، فالمؤرخ يستخدم لأجل هذه الغاية النصوص والروايات الشفهية والمصادر الإحصائية، كما يلعب التصوير الفوتوغرافي دورًا مهمًا في حياة الناس من خلال السماح لهم بفهم ماضيهم، وتذكر القصص والمشاعر، إنها تقدم لمحات عن الحياة الماضية والأحداث التاريخية والأماكن المنسية والمندثرة، لذا تعتمد الكتب المدرسية وكتب التاريخ الأكاديمية على الصور لتوضيح الماضي الذي ترويه، لكن القليل من القرّاء يمضون وقتًا محدودًا في استكشاف الصور لأنهم يعطون وقتهم للنصوص المكتوبة، فالصورة هنا مصدر مساعد وليست مصدرًا تاريخيًا، لكن الآن بات علينا الاعتماد على الصور لكتابة التاريخ، فهي توجه المؤرخ والقارئ لسياق التقاطها، وتقدم بيانات جديدة لتفاصيل الأحداث.
يمكن للمؤرخين كتابة التاريخ عبر الصور، لأنها توضح عناصر الحياة اليومية العارضة والعشوائية، دون فقدان أدق التفاصيل التي تبدو غير مهمة في وقت ما، لكنها تتحول لمصدر مهم في المستقبل لإثبات شيء ما، لذا فتاريخ تطور مدينة القاهرة من القرن الـ 19 إلى منتصف القرن العشرين يعتمد على التصوير الفوتوغرافي من تغير وظائف بعض الأماكن، فعمارة الإيموبيليا في وسط القاهرة، كان مكانها مدابغ القاهرة التي نقلت في مرحلة لاحقة في القرن الـ 19 إلى منطقة بين السيدة زينب وعين الصيرة، ليصير مكانها السفارة الفرنسية، ثم عمارة الإيموبيليا. الصور هنا لو جمعت سنرى تاريخ تطور المكان من... إلى، فالصور تقدم التاريخ السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي للمدينة، لذا فتجميع آلاف الصور لمنطقة وسط البلد في القاهرة (الإسماعيلية) يقدم لنا تاريخًا صادقًا ومختلفًا عن التاريخ المتداول، خاصة إذا بحثنا وراء كل صورة، هذا ما دفعني حين أنشأت مشروع ذاكرة مصر في مكتبة الإسكندرية إلى تجميع آلاف الصور من مصادر متعددة، بل وبناء أرشيف شخصي لي منها يضم آلاف الصور النادرة، فتكوين أرشيفات الصور يعطي لنا مفاهيم جديدة لكتابة التاريخ، فهي تساعدنا على استكشاف أحداث مختلفة في أوقات مختلفة ونشر معلومات واضحة وربط مجموعة متناثرة من الصور لحدث معين كثورة 1919م، يعطينا تصورات جديدة حول بنية هذه الثورة ودور العمل السري في تنظيم المظاهرات وتوجيهها عبر اكتشاف الأشخاص المتكررين وطريقة حركتهم وأماكنهم في كل صورة، حول موضع الأعلام والشعارات المرفوعة على لوحات مكتوبة، حول طريقة حركة المجاميع داخل المكان، ليبقى السؤال المهم: هل خرجت هذه المظاهرات بصورة عشوائية تلقائية، أم بصورة منظمة ذات أهداف واضحة، أم أنها كانت تخرج عفوية ثم يجري توجيهها؟ تكشف الصور كل هذا، فقد خرجت عفوية تلقائية حين نراها تفتقد التنظيم المعتاد في بعض الصور، وخرج بعضها منظمًا في بعض الأحيان، وبعضها خرج عفويًا ثم جرى توجيهه، لنرى أن هذا ارتبط بتطور الثورة وأحداثها، هذا التحليل إذا ربطناه مع الأحداث التاريخية ويوميات الثورة سنرى رؤية مختلفة لها، لكن إلى الآن لم تلعب الصور الملتقطة في ثورة 1919م في مصر أي دور في كتابة أحداث الثورة.
معانٍ خفية
يعزز التصوير الفوتوغرافي التساؤلات لدى المؤرخين المعاصرين، تساؤلات تقود لفهم أعمق للماضي، وتقود لاستكشاف الظروف المحيطة بكل لقطة، فهي تحتوي على معانٍ خفية لا معنى لها عند النظر للقطة لأول مرة، لكن التدقيق والإمعان في النظر يقود إلى تفاصيل لو جرى ربطها لقرأنا التاريخ بصورة مختلفة، حيث يستخدم المؤرخون الصور لاستكشاف الماضي من خلال التشكيك في المناسبات المحيطة بالتقاط الصورة وتحليل دوافع ونوايا المصور، فالصورة تسلط الضوء على التفاصيل غير المكتوبة ■