الفنان التشكيلي عصمت داوستاشي: الاعتماد على الخيال أسلوب صعب لكنه الأبقى

الفنان التشكيلي  عصمت داوستاشي: الاعتماد على الخيال أسلوب صعب لكنه الأبقى

 يعدّ التشكيلي عصمت داوستاشي (مواليد 1943م) أحد أعمدة الفنون الجميلة في مصر والعالم العربي، وواحد من أقطاب الثقافة، تميزت تجربته الإبداعية التي انطلقت منذ ستينيات القرن الماضي بثرائها اللامحدود وتنوعها الفني، فهو فنان شامل يجمع بين الرسم، والنحت، والتصوير الزيتي والضوئي، ومن أوائل من أنجزوا أعمالاً تركيبية تعتمد على التشكيل في الفراغ بخامات مختلفة. فضلاً عن قيامه، منذ نحو 60 عامًا، بالنقد والبحث والتأريخ للحركة التشكيلية.

 

 برغم بلوغه 81 عامًا، فإنه مازال معطاء، يشعر بآلام أمته، ويواجه بريشته ألوان القهر الإنساني والظلم الذي يتعرض له أبناء الشعب الفلسطيني، فأقام معرضًا فنيًا بعنوان «شهداء غزة»، عبرت لوحاته عن أحوال الفلسطينيين وما يذوقونه من جبروت الاحتلال الإسرائيلي. 
 أقام داوستاشي نحو 150 معرضًا خاصًا، وشارك في كثير من المهرجانات والملتقيات الدولية، وأصدر حوالي 55 مطبوعة وكتابًا في النقد التشكيلي. كما كتبت عنه كثير من الدراسات النقدية، لكنه لم يعد الآن يهتم بسبب تغير الحياة من حوله. وحصلت أعماله على العديد من الجوائز وشهادات التقدير ونال عشرات التكريمات، وقام عديد من المؤسسات والمتاحف باقتناء أعماله... في هذا الحوار يفتح داوستاشي قلبه لـ «العربي» فيروي عن ذكرياته وارتباطه بالفن منذ طفولته وعالمه الفني المتشعب، وفي ما يلي تفاصيل الحوار: 
● كيف كانت نشأتك الأولى؟ وإلى أي مدى تأثرت تجربتك الفنية بظروف النشأة، خاصة أن الإسكندرية لها خصوصية فريدة قد لا تتوافر عليها كثير من المدن؟ 
- هاجرت أسرة أبي (جدي إبراهيم داوستاشي وجدتي خديجه شبرا هانم) من جزيرة كريت بعد الحرب العالمية الأولى وانهزام الإمبراطورية العثمانية، ومع عودة كريت إلى اليونان قاموا بطرد الكريتلية الأتراك من الجزيرة، فاستقرت الأسرة في الإسكندرية، حيث تزوج أبي عبدالحليم إبراهيم من أمي الرشيدية نعمة عبده الجميل وجئت للدنيا عام 1943م في حي بحري، بجوار مسجد المرسي أبي العباس وقد كتبت عن هذا في كتابي «الرملة البيضاء - مذكرات سكندري» 2004م. لقد حالفني الحظ أن أنشأ داخل هذه التركيبة، حيث بيئة البحر الأبيض المتوسط، مع امتداد جذوري وأصولي إلى كريت ومصر، فالاثنان من أقدم وأعرق الحضارات الإنسانية، وأن يكون ميلادي وحياتي ومماتي في الإسكندرية.
كانت مصريّتي أساسًا لملامح شخصيتي كفنان، فقد تلونت بيئة حي بحري الذي نشأت فيه بالموالد والاحتفالات الدينية والزخارف الشعبية والتواشيح والذكر وروائح البخور والعطور وتزاحم البشر، وانعزال المتصوفة والمشايخ والمجاذيب والأراجوزات والحكماء... ألوان صاخبة وتناقضات عجيبة وألوان لا متناهية أصبح كل هذا هو عالمي الفني. 

انعكاس البيئة على الفن
● إلى أي مدى أثرت هذه المكونات الشعبية على إبداعاتك، وفي أي مرحلة من مراحل مسيرتك الفنية يمكن أن نلحظ ذلك؟
- تأثرت بالطابع الشعبي والديني والكوزموبليتي لسكان حي بحري، وبه الميناء العالمي (الغربي) والميناء القديم (الشرقي) وانعكس ذلك على لوحاتي، فقد رسمت الميناء وسراي الملك وأنجزت أعمالاً مركبة بخامات مختلفة من وحي تراكيب الموالد وأضرحة الأولياء، وبرز ذلك منذ معرضي التشكيلي الأول واستمر في العديد من المعارض التي أقمتها مثل «الكف»، «المستنير دادا»، «المعلقات»، «صندوق الدنيا»، وغيرها.
● كيف كانت بداياتك الأولى مع الفن التشكيلي؟ وبمن تأثرت من الفنانين؟
- الفن له طريقان، طريق السلامة، ويعتمد على خيال الفنان وهو أسلوب صعب لكنه الأبقى والممتد في الزمن، والثاني طريق الندامة ويعتمد على استلهام الواقع كما هو بحرفية وبراعة وتقليدية وهو الأسلوب السهل، لكنه بلا قيمة وإلى زوال. لقد بدأت واقعيًا مثل أي هاو للفن، ولكني اكتشفت الخيال وعالمه اللانهائي، الثري، والذي يشمل كل شيء وتركت نفسي للخيال بعد أن أدركت كيف أحقق خيالاتي وأحلامي. أما تقنيات تحقيقها فقد وجهني (عمي كمال) وأنا طفل كيف أرسم ما أمامي، وما هي أدوات الرسم. وفي العاشرة من عمري توجهت إلى دكان الحاج الوحش في شارع «وكالة الليمون»، حيث شاهدت الفن الذي أحبه، خاصة أنه خطاط ورسام، يرسم وجوه زبائنه بالألوان الزيتية نقلاً عن صور ضوئية أبيض وأسود. كان الوحش هو الصورة المثالية للفنان بالنسبة لي، ولذلك طلبت من جدي إبراهيم وأنا مازلت في المرحلة الابتدائية أن يسمح لي بالتواجد في دكان الوحش بعد انتهاء اليوم الدراسي لأتعلم منه الرسم والتلوين وكتابة الخطوط، ومع مرور الوقت أصبح دكان الحاج وحش مدرستي الأولى في حياتي الفنية المبكرة، وبقيت معه حتى التحاقي بالمدرسة الثانوية الزخرفية عام 1959م.
 تعلمت عنده معظم التقنيات واكتسبت المهارات الفنية الأولى مثل النقش والزخرفة والنجارة والنحت على الخشب والرسم الهندسي وتكنولوجيا الفن وغيرها من المواد التأسيسية المهمة. بعدها انتقلنا من حي بحري إلى حي الرمل ووجدت أن طموحي من الفن أبعد من أن أحققه في دكان يعمل حسب طلب الزبائن، طموحي هو أن أعبّر بواسطة الفن عما يجيش في نفسي من أفكار وخيالات تستحوذ على عقلي الواعي وغير الواعي.

التأثر بفنان الإسكندرية 
● بعد انتهاء مرحلة الوحش ومرحلة الدراسة الجامعية ودخولك إلى عالم الفن الحقيقي، بمن تأثرت من الفنانين في بداية نضجك كفنان؟    
- في بدايات دخول عالم الفن الحقيقي تأثرت بفنان الإسكندرية الكبير سيف وانلي وكان من أوائل من استعان بهم أحمد عثمان الذي أنشأ كلية الفنون الجميلة. إذ إنني في نهاية الخمسينيات عرفت مرسم الفنان الشهير سيف وانلي في الجامعة الشعبية والتحقت به بخمسة قروش في الشهر وكان هذا أول احتكاك مباشر مع فنان مشهور وتلامذته، ولكني لم أصبح واحدًا منهم رغم حبي لسيف وتأثري بأعماله في بداياتي، ورسمت لوحات بأسلوبه ولكني تركت المرسم بعد ثلاث حصص، فقد كان يجلس أمام لوحتي التي رسمتها بالفحم لرأس من الجبس أمامي، ويمسح الرسم بأطراف أصابعه ليرسم التمثال كاملاً بأسلوبه السهل الممتنع في لحظة واحدة سريعة ثم يقوم كما جلس صامتًا لا يقول كلمة واحدة وعليّ أن أفهم ما يريد إبلاغة لي: (إرسم كده زي ما أنا عملت) فأعود أمام اللوحة صامتًا، فأجدني متأكدًا من أنى أريد أن أرسم بطريقتى الخاصة.
 لم أستطع استيعاب دروس سيف وانلي مثل تلامذته المحيطين به، وكان أهمهم في ذلك الوقت محمد القباني، ونور اليوسف، وسمير المسيري وغيرهم. وقد أصبحوا، فيما بعد، نسخة منه. لم أستوعب تلك الأكاديمية التقليدية، تمثال وورق وفحم وطبيعة صامتة، حتى بعد دخولي كلية الفنون الجميلة، وإن ظلت معرفتي بسيف وانلي مستمرة ومتواصلة حتى وفاته، وأعتبره إلى الآن أستاذًا من أساتذتي. 
 مع دخولي كلية الفنون الجميلة عام 1962م بدأت مرحلة جديدة مع الفن، عرفت عن قرب عددًا من كبار فناني مصر، وقد واكب التحاقي بالكلية تخريج دفعتها الأولى التي تم تعيين معظم خريجيها الأوائل معيدين بالكلية وهم ومن سيتخرجون لاحقًا أبناؤها الذين سيصبحون فيما بعد من دعائمها وعلامات بارزة في بانوراما الحركة الفنية بالإسكندرية.
 لقد بدأت كلية «الفنون الجميلة» رسميًا في مصر عام 1908م بافتتاح مدرسة الفنون الجميلة بدرب الجماميز بالقاهرة والتي أنشأها الأمير يوسف كمال واستدعى لها أساتذة فرنسيين وإيطاليين من الذين يعملون في مصر ومنهم الفنان بييسي الذي كان عميدًا لمدرسة الفنون الجميلة بباريس «البوزار» وفي مجموعتي الفنية إحدى لوحاته الزيتية، وقد تخرج من مدرسة الفنون المصرية رواد الفن المصري الحديث وفي مقدمتهم محمود مختار وراغب عياد وغيرهما.

ناجي... وتمصير وظائف الفنون
● من يلفت نظرك بأعماله من الفنانين الكبار؟ ومن الأجيال اللاحقة من تراه متميزًا في أعماله؟ 
- معظم أعمال فناني مصر من جيل الرواد إلى الجيل المعاصر تعجبني، يملكون قوة إبداع رائعة، فضلاً عن المغامرة والتجديد في أعمالهم. لقد وقفت طويلاً عند الرائد الكبير محمود سعيد ودرسته وأصدرت أول مجلد شامل عن حياته ولوحاته بمناسبة مائة عام على ميلاده، وفعلت ذلك مع رائد الفن المصري الحديث محمد ناجي وتوقفت عند تجربته عن الحبشة في كتاب «ناجي في الحبشة». وناجي هو الذي قام بتمصير كل وظائف الفنون التي كان يحتكرها الأجانب في مصر حتى منتصف القرن الماضي، لكني لم ألتقِ بأي منهما، سعيد وناجي، لكني التقيت بالرائدة الفنانة عفت ناجي التي رحلت عام 1994م، فقد كانت أستاذتي وصديقتي وكنت مساعدًا لها وتعلمت منها ومن زوجها الرائد سعد الخادم الكثير، ووضعت عنهما أكثر من كتاب، وتعلمت من مرجريت نخلة ومحمود موسى وسيف وانلي وأصدرت عنهم دراسات شاملة، كما توقفت عند كل عظماء جيل الرواد الأول والثاني والثالث، منهم عبدالهادي الجزار، وحسن سليمان، وكنعان، وحسين بيكار، ومن جيلي عبدالمنعم مطاوع، وسعيد العدوي، وأحمد نوار، وفرغلي والرزاز وكثيرين من شباب الفنانين الذين يتألقون في ساحة التشكيل المصري والعربي.
 أما بالنسبة لفناني الغرب (مدارس الفن الحديث) فقد أذهلني بيكاسو المنفلت بالإبداع، وماتيس ورسومه الرائعة، وفان جوخ وألوانه الجياشة، وجوجان ومساحته اللونية الساحرة، وهنري روسو وفطريته المدهشة، ولمعظم الفنانين في العالم ما يسحرك في إبداعهم.
● تنوعت تجربتك الإبداعية بين الرسم، والنحت، والتصوير الزيتي والضوئي، في أي من هذه الأشكال الفنية تجد نفسك أكثر؟ وهل الدافع إلى خوض هذه التجارب يعود إلى فقر الساحة الفنية ومن ثم تحاول تعويض غياب الفنانين عن بعض الأشكال الفنية، أم ماذا؟
- عالمي الفني ينطلق من مفهوم الفنان الشامل، وبجانب ما ذكرت مارست الفن المفاهيمي والتشكيل في الفراغ (أعمال مركبة بخامات مختلفة) كنت رائدًا في كثير من هذه الأعمال. صعب أن أقول ذلك عن نفسي ولكنها الحقيقة ويمكن الرجوع إلى كتابات نقاد الفن الذين رصدوا تجربتي وخاصة الفنان الناقد السفير يسري القويضي في كتابه «داوستاشي من خلال أعماله» 2022م.
 لقد مارست بجانب التشكيل: النقد التشكيلي، والتأريخ للحركة التشكيلية في مصر خلال القرن العشرين وأخرجت أفلامًا سينمائية بتقنية الدجيتال أهمها فيلم «الريشة والقلم»، وقد عرض في افتتاح مكتبة الإسكندرية عام 2000م، فأنا مؤمن بأن المبدع هو أيضًا مهندس وعالم وملم بكل نواحي الحياة، وكان كبار الفنانين في العالم يشتغلون في الرسم والعمارة والنحت والكتابة والموسيقى والاختراعات وغير ذلك مما يطلق عليه الفنان الشامل. وطبعًا لم أكن الوحيد في هذا المجال الذي مارسه بعد ذلك كثير من الفنانين الشباب الذين أصبحوا الآن على قمة الساحة التشكيلية.

معرض شهداء غزة
● تحت عنوان «شهداء غزة» أقمت معرضًا فنيًا في مارس الماضي، تأثرًا بصور القتل والدم والهدم والقهر الذي مارسته قوات الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، هل على الفنان أن يقوم بدور تجاه قضايا أمته؟
- الفنان غير ملزم بالقيام بأي شيء، الفن أولاً وأخيرًا حرية مطلقة. يحدث ذلك فقط إن كان الفنان يشتغل في جهة تلزمه بإنتاج أعمال معينة كما كان يحدث للفنانين حتى عصر النهضة منذ 500 عام وعملهم لصالح القصور الملكية والكنيسة أو عند كبار الأثرياء وبعدها مع الثورة الفرنسية والثورة الصناعية تحرر الفنانون من أي التزامات، وانطلق الفن الحديث يعبر عن ذات الفنان وحريته ورؤيته للحياة، ولم يمنع هذا من أن يعبر بعض الفنانين عن قضايا أمته أو العالم الذي يعيش فيه، ومن أشهر هذه الأعمال اللوحة الجدارية الشهيرة «جورنيكا» التي رسمها بيكاسو عندما ضربت طائرات ألمانية وإيطالية المدينة ودمرتها للترويع خلال الحرب الأهلية في اسبانيا عام 1937م بتكليف من الحكومة الإسبانية لتوضع في الجناح الإسباني في المعرض العالمي بباريس. وقد تردد بيكاسو في رسمها إلا أنه أنجزها أخيرًا لتصبح أهم عمل فني في القرن العشرين يعبر عن بشاعة الحرب.
جاء معرضي «شهداء غزة» يدون تكليف من أحد، بل جاء معبرًا عن ضميري الإنساني الذي رفض مجازر إسرائيل في غزة، فرسمت الشهداء في أكفانهم بهالة الشهادة وأجنحة الملائكة. ورسمت المذابح البشعة لأطفال غزة، واخترت خمسة وخمسين لوحة لعرضها تحية لشهداء المدينة الفلسطينية الباسلة وتخصيص مبيعات المعرض لصالحها وافتتح المعرض الملحق الثقافي لسفارة فلسطين بالقاهرة ناجي الناجي بجاليري آرت كورنر بالزمالك في أواخر فبراير الماضي. 

المقهى يتحول إلى مركز ثقافي
● على مدى رحلتك الفنية التي انطلقت منذ الستينيات، أقمت أكثر من 150 معرضًا خاصًا في عديد من الدول، فضلاً عن مشاركات في مناسبات ومهرجانات دولية، ما أكثر البلاد التي لاحظت فيها إقبالاً من الجمهور، وإلى متى يظل الفن التشكيلي فنًا نخبويًا في الوطن العربي؟
- الإقبال على الفن التشكيلي في العالم كله قليل للغاية وسيظل فنًا نخبويًا طالما ظلت الثقافة في كل المجتمعات نخبوية... وأرجع سبب ذلك إلى أن عروض الفن التشكيلي تقام عادة في أماكن خاصة يتجنبها عامة الناس في مصر مثل المتاحف والقصور والجاليريهات التي تقام في الأحياء الراقية، بينما فنون التعبير الدرامي تخصص لها أماكن جماهيرية معروفة كدور السينما، والمسارح، ولذلك فإن الأعمال الفنية التي تعرض في أماكن عامة تجد قبولاً من الناس.
 منذ صغري وأنا حريص على أن يشاهد الناس أعمالي الفنية، فما جدوى أن أرسم لنفسي فقط؟ لذلك عرضت لوحاتي في الشارع وعلى شاطئ البحر وأخيرًا في مقهى خفاجة بحي الورديان بالإسكندرية، وكانت تجربة جميلة وثرية حين حولت مقهى إلى مركز ثقافي، أهديتها مكتبة ونظمت بجانب المعارض ندوات أدبية وشعرية ومحاضرات وعروض حية للفرق الشعبية. كان المقهى ملك لصديقي علي خفاجة الذي أتاح لي تنفيذ مشروعي وهو التواجد بالفن والثقافة وسط الجماهير وكان المقهى مشهورًا بكثافة رواده خاصة في المساء.
 الجمهور في الغرب أكثر اهتمامًا بالأعمال الفنية، فالفنون هي ملهم تاريخهم، واللوحات الجدارية والتماثيل تملأ الشوارع والميادين ومؤسسات الدولة، فالفن والثقافة في نسيج مجتمعهم. لقد كانت آخر معارضي بالخارج في مدينة أمستردام بهولندا مع صديقي الفنان شوقي عزت، وكانت فكرة المعرض أن أرسم أمثالاً شعبية من مصر ويرسم هو أمثالاً شعبية من هولندا، ونطبع منها نسخًا بالشاشة الحريرية تعرض في قاعة جمعية الفنون بالمدينة وتعرض في الوقت نفسه بمدرسة في الحي وتعرض نسخ منها على واجهات المحلات المطلة على الشارع. توجهات واسعة ومتعددة تجاه الجماهير في تنوع يشمل الفنانين والمثقفين والأطفال وعامة الناس. أمستردام المزدحمة بالمتاحف وأهمها متحف فان جوخ، ومتحف رامبرانت، المزدحمان بالرواد هي مدينة تهتم بالفن والفنانين مثل كل عواصم أوربا.
● دائمًا ما تحمل معارضك الفنية عناوين لافتة مثل «التحول والنكسة» عام 1969م، و«تحية لفناني الكويت» عام 1987م، و«وجوه العولمة الحزينة» 2004م، ومؤخرِا «شهداء غزة» 2024م، وغيرها... هل تسعى أن يكون الفن معبرًا عن الأحداث الراهنة، وكيف تحتشد وتستعد لإنجاز لوحات عن حدث معين؟ أم أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد عنوان للمعرض؟
- عناوين معارضي ليست مجرد عناوين، لقد جاء عنوان معرض (الكف 1970م) بعد أن انتهيت من رسومه واكتشفت أن الثيمة الأساسية في الرسوم هي كف اليد، كذلك معرض (السهم 1974م) أنجزت اللوحات كلها بموتيف السهم في تنويعات لا نهائية، وتمت معظم لوحات معرض (خروج المستنير دادا 1975م) وأنا في مكة المكرمة بعد أداء الحج والعمل والإقامة هناك... هكذا كان لكل معرض لأعمالي عنوان وبيان توضيحي وكتالوج وافي البيانات التوثيقية للحفاظ على تواجد المعرض في الذاكرة، مثل تواجد الكتب عبر الزمن. لقد كان تنظيمي في إخراج وتوثيق المعارض أسلوبًا استفاد منه العديد من الفنانين في توثيق معارضهم في مناخ لا يهتم بالتوثيق والحفظ، بداية الرسم دائمًا غامضة. أظل أخطط على السطح الأبيض للوحة الرسم لأيام حتى أكتشف خطًا يأخذني إلى جماليات اللوحة التي تجذبني إلى كشف أسرارها وإظهارها للنور وتكون هذه اللوحة بداية لمجموعة لوحات يستغرق إنجازها شهورًا أو سنوات، ثم يأتي الاسم في النهاية. مثلاً لوحات «خيالات القهوة 1995م» استغرقت مني خمس سنوات وكنت استلهمتها من رواسب القهوة على سطح الفنجان في أشكالها التي لا تتكرر أبدا، وكان الاسم قبل أن أرسم هو «الخيالات»، وبعد أن انتهيت أصبح «ديوان خيالات القهوة».
● ساهمت بالكتابة والرسم للأطفال، وأصدرت في ذلك العديد من الكتب... كيف ترى الإصدارات الموجهة للطفل العربي الآن، كتابة ورسمًا، خاصة مع هذا التدفق الغزير من الكتابات والإصدارات في هذا المجال؟
- مع الكمبيوتر والميديا الحديثة والموبايلات التي اكتفى بها الأطفال ويجدون فيها تسليتهم ومصادر ثقافتهم وتواصلهم الاجتماعي؛ تراجعت المطبوعات الورقية بشكل عام في مصر والوطن العربي، وبالتالي تراجعت مطبوعات الأطفال. أما في الغرب فالوضع مختلف لأن المطبوعات الورقية الموجهة للأطفال في المتحف والمكتبات والمدارس ضرورية خاصة في النظم الدراسية، فالمطبوعات تدخل في نسيج الثقافة العامة للمجتمع.
 أختلف معك، لم يعد هناك الآن تدفق غزير في إصدارات كتب ومجلات الأطفال التي كان عصرها الذهبي في الستينيات مع مجلات «علي بابا»، و«السندباد» وغيرهما، وإن ظلت مجلة «العربى الصغير» الكويتية صامدة ورائدة حتى الآن، وكنت يومًا أحد كتابها ورساميها هي ومجلة «العربي» التي قدمت كثيرًا من الفنانين العرب.

الفن الحقيقي وغياب الجدوى 
● مشروع «كتالوج 77» الذي أصدرته على نفقتك الخاصة وقمت بتوزيعه مجانًا، لماذا توقف؟ وما هي أهداف هذا المشروع؟
- طبعت معظم كتبي على نفقتي الخاصة، فالناشرون يرفضون طباعة كتب الفنون الجميلة لعدم جدواها الاقتصادية، ويبررون ذلك بأن توزيع كتب الفن بطيئة وتستغرق سنوات، فلا يشتريها سوى المتخصصين والمهتمين، وبالتالي على الكاتب أن يدفع التكلفة إذا أراد أن يطبع كتابه. فإذا دفعت ضاع كتابك للأبد، لذلك لم أحاول فعل هذا أبدًا. 
اعتدت منذ صغري أن أكتب وأرسم الكتاب أو المجلة بيدي وأصنع منها عدد نسخ وأوزعها على الأصدقاء مجانًا، وأول كراسة شعرية طبعتها عام 1966م بعنوان «إلى العدم»، كلفتني مائة نسخة ستة جنيهات. وقد لازمني هذا العنوان حتى الآن لإيماني بأن كل شيء في النهاية إلى العدم، حتى تأتي البداية من جديد. 
 كنت أتعامل مع المطابع طول الوقت لطبع كتالوجات المعارض والبوسترات وبرامج الفاعليات الفنية والثقافية للأماكن التي أتعاون معها وأدعمها، كنت مغرم بالتصميمات والإخراج الفني للمطبوعات ومعظم الأدباء والشعراء والكتاب في الإسكندرية صممت وأخرجت لهم أول كتبهم. أيضًا كنت أطبع كتبي على نفقتي الخاصة وعندما وجدت أنها لا تباع مع موزعي الكتب وتعود إليّ ممزقة ومتسخة قررت أن أوزعها مجانًا على من يهتم بها من نقاد وفنانين وصحفيين وأصدقاء.
 لم أكن ثريًا ومنذ صغري أعمل أكثر من عمل، لأوفر دخلاً أنفقه على أسرتي وعلى هواياتي. لوحاتي أولاً ثم اقتناء الكتب والمجلات وطوابع البريد والأشياء القديمة من سوق الجمعة، وطبع كتبي وتوزيعها مجانًا. كنت أحمل كتبي وأسافر بها إلى القاهرة وأهديها للنقاد والفنانين، وعندما كبرت وأصبحت ثريًا كانت الدنيا قد تغيرت وأصبحت الطباعة باهظة التكاليف وبتقنيات جديدة، وقد أصبحت عجوزًا غير قادر على الحركة والسفر لإهداء كتبي، ومات كل مَن أعرفهم من كبار النقاد والصحفيين وقد حلت الميديا الحديثة مكان الكتب وهمشني الأكاديميون، ووصل الأمر بمنع كتبي كمراجع وهي من أهم المراجع الموثقة، ورغم ذلك كان لكتبي التي طبعتها على نفقتي أثر وأهمية كبيرين في عالم الفنون الجميلة في مصر ومنها تم إعداد كثير من رسائل الماجستير والدكتوراه، وأذكر من كتبي ذات المنهج التوثيقي، كتاب «تاريخ بينالي الإسكندرية في خمسين عامًا: 1955-2005م»، وكتاب «تاريخ أتيليه الإسكندرية في سبعين عامًا: 1935-2005م»، وقد انتهى الآن البينالي وانتهى الأتيليه، فضلاً عن عشرات الكتب الأخرى التي طبعتها أيضًا على نفقتي الخاصة مثل «عالم داوستاشي - ببليوجرافيا كاملة» 1992م، و«الصمت» نصوص مسرحية تجريبية 1982م، و«الأشياء» قصص قصيرة 1978م، وغيرها من الكتب التي أطلقت عليها اسم «كتالوج 77»، وهو العام الذي قررت فيه بداية مشروعي هذا الذي طبعت من خلاله العديد من الكتب لفنانين وكتاب ونقاد.
 مع نهاية القرن العشرين بدأت وزارة الثقافة المصرية تطبع كتبي مثل «عالم المتاحف» في سلسلة تراثنا المتحفي، و«حكايات فنية» للأطفال، وعشرات الكتب الأخرى، أهمها مجلد شامل في طباعة فاخرة عن محمود سعيد بمناسبة مئوية ميلاده، والذي أصبح مرجعًا عالميًا عن الفنان، ومجلد توثيقي للفنون الجميلة في مصر في مائة عام بمناسبة الذكرى المئوية لافتتاح مدرسة الفنون الجميلة عام 1908م بالقاهرة أول مدرسة للفن في الوطن العربى وإفريقيا، وكتابي عن الفنان سعيد العدوي. 

غياب الشغف وفقدان العالم
● بعد هذه الرحلة من التفاعل والتأليف والبحث والتأريخ للحركة التشكيلية، هل ما زال لديك شغف التأليف وإصدار الكتب؟
- لدي عشر كتب جاهزة للطبع، ولكني لم أعد أهتم. لقد فقدت العالم الذي عشته بزخم وحيوية سبعين عامًا، ولم يعد أحد يهتم بكتبي ولا لوحاتي، وكأني إلى العدم توجهت في نهاية عمري بعد أن تجاوزت الثمانين، فأجد من السخف أن أكتب كل هذا عن نفسي ■