قراءة صينية في عبدالحكيم قاسم وروايته «أيام الإنسان السبعة»
قال الأديب العربي خيري شلبي، إن قاسم كان صاحب أول تجربة حداثية رائدة في رواية الستينيات المصرية، وذكر أن «أيام الإنسان السبعة» التي أصدرها صادفت حظًا عاثرًا، حيث تزامن صدورها مع رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح وما رافقها من دوي شديد، غطى على «أيام الإنسان السبعة» التي أسست لأدب جيل احتفى باللغة وحاول الخروج من أسر الواقعية التي كان يتزعمها نجيب محفوظ.
كان تاريخ معرفة الشعب الصيني بالأدب العربي تمتدّ عمومًا لأكثر من مائة عام، ابتداءً من ظهور ترجمات جزئية لكتاب «ألف ليلة وليلة» وتقريبًا بعد عام 1900م، وصولاً إلى تنفيذ مشروع تبادل الترجمة والنشر بين الصين والدول العربية الذي ساهم في تعريف «أهم 100 رواية عربية في القرن العشرين» للقراء الصينيين، حيث أخذ الباحثون الصينيون إعادة قراءة وفهم ما قد حدث وما يحدث حاليًا في العالم العربي البعيد جغرافيًا والقريب عاطفيًا من زاوية الأدب.
والجدير ذكره أنه تم اكتشاف ضمن هذه المسيرة المطولة، تدريجيًا على الأقل، الكثير من الكتّاب العرب وأعمالهم غير المعروفة في الصين سابقًا، ومن بينها الكاتب المصري المرحوم عبدالحكيم قاسم وروايته «أيام الإنسان السبعة».
الروائي الغائب والرواية المجهولة في الصين
يعتبر عبدالحكيم قاسم أحد أبرز الكتّاب من جيل الستينيات في تاريخ الأدب العربي الحديث، والذي قليلاً ما يذكره النقاد في الصين بالمقارنة مع أسماء أخرى كنجيب محفوظ وطه حسين وتوفيق الحكيم والطيب صالح وما إلى ذلك من الأسماء المتألقة في سماء الأدب العربي. بدأ عبدالحكيم قاسم الكتابة الأدبية خلال فترة سجنه، حيث كتب روايته الأولى «أيام الإنسان السبعة»، التي صدرت في عام 1969م عن دار الكتاب العربي وقد ترجمت إلى الإنجليزية في عام 1989م، ثم ترجمت إلى اللغة الصينية لأول مرة في عام 2017م، أي بعد صدورها بنصف قرن تقريبًا. فيمكن القول إن هذا الكاتب كان غائبًا وإن روايته كانت غير معروفة من قبل النقاد والقراء الصينيين، وربما في العالم العربي أيضًا حيث تبدو أنها لم تحظ رغم أهميتها بالانتشار الذي حظيت بها روايات الكتّاب المشهورين في ذلك الوقت.
تدور الرواية «أيام الإنسان السبعة» حول مسيرة تكوين الطفل عبدالعزيز، من فترة المراهقة الصعبة إلى الإدراك والوعي التدريجي تجاه العالمين: عالمه القديم الثابت الذي تسوده تأثيرات أبيه الحاج كريم وأصدقائه الدراويش، وعالمه الجديد المتحول الذي تسوده تأثيرات الحداثة والتمدن، وقد وقع الطفل في صعوبات وحيرة مؤلمة إذ إن التناقضات بين هذين العالمين تشغل قلبه وعقله، مما أدى إلى بحثه الطويل والمستعصي عن هويته داخل القرية وخارجها. ومن هذا الجانب، يقول الأديب العربي المعروف خيري شلبي، «إن قاسم كان صاحب أول تجربة حداثية رائدة في رواية الستينيات المصرية» وأضاف أن «أيام الإنسان السبعة» التي أصدرها صادفت حظًا عاثرًا، حيث تزامن صدورها مع رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح وما رافقها من دوي شديد، غطى على «أيام الإنسان السبعة» التي أسست لأدب جيل احتفى باللغة وحاول الخروج من أسر الواقعية التي كان يتزعمها نجيب محفوظ. فلعل هذه الملاحظة الدقيقة تسلط الضوء على مصدر من مصادر تعرض الرواية لعدم الانتشار والنسيان من قبل القرّاء والنقاد والباحثين والمترجمين العرب والصينيين، إذ إن عدم حظ الرواية من الانتشار قد يعود إلى سيطرة المدرسة الواقعية على الفضاء الأدبي في مصر الستينيات والسبعينيات، وربما أيضًا إلى مصادفة الزمن المؤسفة.
ومن زاوية أخرى، فترجع مصادر تعرض الرواية للتجاهل والنسيان، إلى لغتها السردية الفريدة، وخصوصًا في أسلوبها للحوار باللغة التي لا يفهمها إلا الذين عاشوا في منطقة السرد، بقدر ما يفهمها الروائي نفسه. فكان عبدالحكيم قاسم، عندما عاش في برلين لفترة طويلة، يبحث عن ثقافة غربية تصقل موهبته. وعندما قرر إنهاء منفاه الاختياري، عاد مدافعًا عن الثقافة القومية، أي الثقافة العربية بشكل عام والمصرية بشكل خاص. وقد ضاق عبدالحكيم قاسم بالبذلة الإفرنجية التي كان يرتديها في برلين، وخلعها على باب داره في مصر مرتديًا جلبابه وطاقية الرأس، ثم أعلن قائلًا: «إنّني غير مستعد للتصالح مع النموذج الأوربي على أي مستوى من المستويات».
باختصار، بدأ عبدالحكيم قاسم يبحث عن «نظرية جمالية عربية»، في الوقت الذي كان الصينيون يعملون فيه على «اللحاق وتجاوز» أوربا وأمريكا نظريةً وممارسةً، وحيث كان العالم العربي عامة لا يزال معتمدًا على «النظرية الأوربية». على أساس ذلك، قد خلق عبدالحكيم قاسم لغة سردية تميز بها دون غيره من كتاب جيله، حيث استخدم ضمائر ومفردات كان يقصد بها أن يصنع لنفسه أسلوبًا خاصًا، مثل استخدامه لألفاظ وتعابير ريفية خالصة حيث كان من الصعب فهمها بالنسبة للمستعربين الصينيين. مثال ذلك حوارات النساء في الرواية كما يلي:
- أنا قلت مايفوتنيش خبيز السيد البدوي... أخبز رغيفًا ولا اتنين... إن طلعوا وحشين أبقى آكلهم آني (ص77).
- يحبّوا زي ما هم عاوزين، مشوار لحد طنطا ومسيرهم راجعين لنا تاني... وراهم لحد ما يرقدوا... يجيبوها من قصيرها بقى، والبصّه البرّانية مالهاش لزمة (ص72).
وفي الوقت نفسه، فلا يكمن أن ننكر أن مثل هذا الأسلوب في التعبير والسرد والحوار، له طبيعة الوجهتين. فإنه أولاً يأتي للقراء ولدارسي اللغة العربية في الصين خاصة، بصعوبات بالغة في الفهم إذ إن لغته تتمتع بخصائص محلية شديدة، الأمر الذي أدى إلى العوائق البارزة في الفهم والترجمة في آن واحد. ومن ناحية أخرى فإن هذه الطبيعة لا ينبغي أن تصبح سببًا لتجاهل الرواية على الإطلاق لأن الأسلوب المتبين يميز الرواية بالروايات المتزامنة الأخرى ويترك للقرّاء انطباعات التقرّب إلى سياق القصة، والتي تتجسد بشكل واضح في الحياة الريفية بقرب مدينة طنطا المصرية داخل الرواية. إن الدراسات النقدية لرواية «أيام الإنسان السبعة»، وفقًا لمقال الدكتور سامي سليمان، تجاوزت الثلاثين منذ صدورها حتى الوقت الحالي. إلا أن هذا العدد بكل صراحة قليل للغاية، مقارنةً مع الدراسات التي تتعلق بأعمال الكتّاب الآخرين داخل مصر وخارجها. وكما ذكر الدكتور سامي سليمان أيضًا، أن كل هذه الدراسات باختلاف العناوين قد أجمعت على نقطة واحدة أي أنها من العلامات الفارقة في الرواية العربية والمصرية بوصفها إيذانًا بمولد جيل جديد يبدأ طريقًا جديدًا من طرائق التفكير الجمالي.
هذا بالإضافة إلى التقديرات والتفسيرات النادرة القيّمة التي تؤكد على رفعة الرواية من بين الأعمال المتزامنة، كما شدد الناقد والأديب المصري الشهير جابر عصفور، على أن بطل «أيام الإنسان السبعة» عبدالعزيز هو نفسه عبدالحكيم قاسم، وقد حاول الحكيم باختصار وصف عالم القرية من منظوره الحميم. وذكر أنه بعدما قرأها توجه بها إلى الدكتور عبدالمحسن طه بدر، وأخبره بأنها تتضمن حساسية جديدة للنظر إلى الأرض والقرية، حيث تكتمل في روايته الأخيرة «المهدي» التي كتبها في منفاه الإجباري بألمانيا، وكلتاهما تتحدث عن تغيرين متناقضين عميقين حدثا في الأرياف المصرية.
ومع ذلك كله، فإن غياب شهرة والتجاهل الذي تعرضت له والرواية والكاتب نفسه في ذلك الوقت، إن دل على شيء، فإنما يدل على التميز والروعة والبراعة في السرد والحكاية.
دراويش القرية حضور الإدراك وطريقة التوازن
هناك عدة زوايا موجودة تتعلق بتفسير موضوع الرواية «أيام الإنسان السبعة»، وتجمع معظمها في أنها ترسم رسمًا حيويًا ومتقنًا عن الأوضاع في الريف المصري في ستينيات القرن الماضي وكانت القرية والريف موضوعًا رئيسيًا للرواية. هذا كما ساهمت الرواية والكاتب في حقيقة الأمر في التقريب الروحي بين القرّاء الصينيين والقرّاء والكتاب العرب، على أساس كثرة الكتاّب الصينيين والروايات الصينية الممتازة المتمحورة حول الحياة الريفية، التي ظلت الموضوع الساخن والمثير للإبداع والقراءة طوال تاريخ الأدب الصيني الحديث، مثال ذلك الكاتب تشن تشونغشي وروايته «باي لو يوان»، والكاتب يو خوا وروايته «على قيد الحياة» وما إلى ذلك.
إن ما يميز «أيام الإنسان السبعة» من بين الروايات العربية المتزامنة التي تخص الحياة الريفية وسكانها الفقراء بشكل عام في وجهة نظري كقارئ صيني، هو أنها قدمت الصورة من منظور محدد أي حياة متصوفي القرية المصرية. وبالنسبة لهذا النوع من الحياة، هناك ثلاثة رموز داخل الرواية على الأقل والتي تعكس جوانبها المعيشية اليومية البسيطة والجوانب الروحية العميقة، ألا وهي الحضرة، والمولد، والموت.
أولاً، إن «الحضرة» مصطلح إسلامي صوفي للتجمع والذكر الذي يقام غالبًا بعد صلاة العشاء ويتم دائمًا مع حضور الحاج كريم والإخوان الدراويش (الصوفيين)، وبغض النظر عن مكان الممارسة، لذلك فقد لاحظنا في الرواية أن حضرة هؤلاء الدراويش تتمحور حول الإنسان ذاته ولا الظروف الخارجية، في حين أن الحضرة في «الليلة الكبيرة» عند المولد تعتبر طبيعيًا الأكثر تقديسًا، إذ إن المتصوفين قد أنجزوا فضيلتهم تجاه مولاهم بعد «الخدمة»، وإن البطل عبدالعزيز قد تجاوز المعاناة الفكرية والروحية التي ظلت تأتي من شهوته الشديدة والنزاع الداخلي بين حياته الريفية وتوقه لحياة المدن (ص 26).
ثانيًا، إن «المولد» عبارة عن أيام زيارة مقام الأولياء الصالحين في تلك المناطق الريفية بمصر، وعلى وجه التحديد، مسجد السيد البدوي في طنطا أو كما جاء في الرواية مولد السلطان. يسرد البطل عبدالعزيز الذي كان يحب أباه جدًا ويحب أصدقاءه من جماعة الدراويش منذ الصغر، ولكنه، مع التجارب والتفكير المستمر أثناء زيارة المولد، بدأ ينقم عليهم وعلى تصرفاتهم وأحيانًا على كونهم كفلاحين أصلاً، كما على ماهية وغرض التردد لمناسبات وطقوس المولد السنوي، والأمر الذي يعلنه في إحدى لحظات غضبه ويصفهم بالبهائم وبعباد الأصنام فيصب أبوه عليه اللعنات وينعته بالكفر، ومن هنا اندلع الصراع المؤلم بين العالمين القديم والجديد. لقد دلت تساؤلات عبدالعزيز وانتقاده لبعض مظاهر العالم القديم عند الكثير من النقاد على استقلال الولد الثوري عن عالمه القديم. فلأول مرة طرح الولد أسئلته الحادة ولكن المنيرة اللازمة، بقدر ما خطا خطوته الأولى للوصول إلى الإدراك دون تردد.
ثالثًا، إن الموت طريقة محزنة للوصول إلى التوازن، بقدر ما أن المقبرة «أول الدرب في النزهة الأبدية»، كما حكى الشاعر السعودي المعاصر صالح زمانان، وأنه موضوع دؤوب لمفهوم الحياة. كان الموت بين قصص عبدالحكيم قاسم يصحبه حضور العظيم أو القادر مثل «الحاج كريم». وأمثلة أخرى لذلك في رواياته وقصصه مثل: «جدل الحياة والموت»، «الجنازة»، «السرى بالليل»، «طريق الموتى»، «عمتي الحبيبة»، «طارق ببابي»... فإن مفهوم الموت يمثل مفهوم «الفناء» من بين مفاهيم التصوف وهو دائمًا يأتي مع الجو المحزن ولكن القريب إلى التوازن الداخلي. تتضمن «أيام الإنسان السبعة» سبعة فصول، حيث يمثل كل منها لحظة في تاريخ جماعة الدراويش وفي وعي الروائي أي الولد عبدالعزيز، بحيث نراه طفلًا مبهورًا بأبيه وجماعته، وغلامًا يلج في عالم المراهقة، ونضج حسه بأشواق مبهمة نحو المرأة، ويبدأ في السير وحده وفي التحديق في كل شيء حوله، وطرح الأسئلة عن العالم والله والأب والأم، حتى الوصول إلى لحظة ينشق فيها وعيه بين العالمين، حيث بدأت تظهر علامات الموت لعالم الدراويش القديم، وأخيرًا تنتهي الرواية بمرض الحاج كريم وموته ومحاولة الروائي للتكيف مع العالم المتغير السريع والذي يشير إلى موته النفسي تجاه معارفه الموجودة نحو عالمه المتشظّي. وقد حقق عبدالعزيز مع الكاتب نفسه هنا التوازن الداخلي، على المستوى الغامض على الأقل، بينما تم انتقال موضوع الرواية من «الموت» إلى «التغير» بمعنى أنه قد تجاوز النزاع بين الريف والمدينة وبين التدين والحياة الحديثة عن طريق الدخول إلى الجوهر الإنساني ألا وهو التغير والتوازن، فاستطاع الكاتب عبر أحداث الرواية أن يستخلص تاريخ الريف المصري، ويعلي من قيمة الجانب الروحي إلى الجانب الإنساني.
خصوصية بارزة
ختامًا، إن كتابات عبدالحكيم قاسم عن القرية المصرية والملامح الروحية والإنسانية هناك، والتي تتجسد أكثر وضوحًا في «أيام الإنسان السبعة»، تتمتع بخصوصية بارزة تجعلها قادرة على لمس قلب القارئ الصيني بغض النظر إلى لغتها السردية الفريدة. وكانت الرواية بمنزلة الإعلان الأول عن عبقرية هذا الروائي الحاضر ولكن الغائب طوال السنوات المتتالية في حياته الواقعية، بينما تشير إلى مراحل اكتمال الإنسان من الغياب إلى الحضور كما حدث لعبدالعزيز تحقيقًا للإدراك النهائي والتوازن الداخلي في حياة الكاتب الروائية. وأفتخر كل الافتخار بمساهمتي البسيطة في جعل هذا الروائي مع روايته المتميزة أن يكون حاضرًا لدى الباحثين والقرّاء الصينيين عن طريق إعادة القراءة والفهم والترجمة، استهدافًا لتعزيز التفاهم والتقارب بين الشعبين والأمتين عامة ولتقديم تفسير عميق جديد حول المجتمع العربي المتغير بشكل خاص، فالأدب العربي الحديث، شأنه شأن الأدب الصيني وبقية الآداب العالمية، حاضر دومًا ■