رسائل عشق ين ديكارت والأميرة إليزابيث «أنا مدين لك بهذه التأملات الميتافيزيقية» (ديكارت)
خلسة سقط الفيلسوف في حب امرأة، ليست كالنساء، اسمها الأميرة إليزابيث مثلها مثل الحقيقة تختفي وراء حجاب الغموض، لكن عطرها الذي تحمله تلك الرسائل حين تصل إلى ديكارت وهو غارق في تأملات، تبدأ الكتابة بمعانقة الجمال وتتسلل إلى كينونة الروح. هكذا لا يستطيع الفيلسوف أن يحبس هذه اللحظات الجميلة أثناء قراءته لكل رسالة تصله.
يقول ديكارت مخاطبًا عشيقته: «أعترف لك بأن هذه التأملات التي أقطفها من حدائق الفلسفة يعود فيها الفضل إلى حبك». فبأي معنى يمكن للحب أن يكون هو المحرك الأول للفلسفة في الفيلسوف؟ بمعنى كيف استطاع أن يحرض ديكارت على كتابة تأملات ميتافيزيقية؟ ولماذا كان عطر الأميرة هو المؤنس في العزلة؟ بل كيف يمكن أن نفهم عبارة؛ تعلمت منك كيف أكتب هذه التأملات ولو أنك بعيدة؟
يسعدني أن أعترف لك بالجميل، بالرغم من عدم الإقامة بجوارك، لكن هذه الرسالة العاشقة والتي تحمل عطر سيدة جليلة خلصتني من مأساة العزلة، وأجد نفسي حرًا في تقويض آراء الفلاسفة، والتخلص من كل آرائي القديمة.
شيئًا فشيئًا يخترق الحب كينونة الفيلسوف ويطهرها من تراجيدية العالم إلى أن يقول: أنا أحب إذًا أنا موجود، فهذه الثمالة، والحلم، والميتافيزيقا، هي ما يميز زمن العزلة وزمن الحب، لأن الحب أنطولوجيًا عزلة لا يمكن القضاء عليها سوى بالحلم والثمالة والجمال.
ومهما يكن استنشاق عطر الأميرة إليزابيث يقود نحو الانزياح الصامت في المعنى ويجعله يهدم ما يعنيه، فإن الكتابة الفلسفية ترياقها الحب المؤجل والذي يتألق في الأفق البعيد، ولا نستطيع التخلي عنه، ولذلك تظل الرسائل الغرامية هي الوسيلة الوحيدة لاستمراره وخاصة إذا كانت تأتي من امرأة اسمها الأميرة إليزابيث وتحمل عطرها، وحين تفتح في الصباح تفتح معها تلك الورود التي تطل من النافذة.
لأن مَن لم يتذوق الحب وقرأ رسائله، لا قلب له، ومَن لا قلب له لا ينتمي إلى الإنسانية: أما آن لك أن ترحمي هذا الفيلسوف الممزق في عزلته...!
أين اختفى الفيلسوف في هذا الكتاب؟
ستنفصل الكلمات عن الأشياء، وتنصرف الروح نحو الإقامة المؤقتة في الكينونة. هكذا تكون مهمة الكتابة هي فضح هذه المؤامرة بين الفيلسوف والفلسفة ضد الكاتب الذي ضحى بنفسه من أجل الحقيقة، لكن بعد اختفاء الفيلسوف لم يعد أمامنا سوى الفلسفة، باعتبارها سؤالاً أبديًا، مما جعل سقراط يعترف لمحاوره بأنه مجرد سؤال لا ينبغي الانفعال منه.
وبعيد هو الطريق المؤدي من الفيلسوف إلى الفلسفة، ولذلك سننطلق من تلك الحقيقة التي تقول بأن الفيلسوف غارق في حب الفلسفة فكيف يكون ممكنًا أن يحب امرأة؟ وبعبارة سقراطية؛ مَن كان يحب الآخر المحب أو الحبيب؟ بل مَن كان يحب أكثر ديكارت أم الأميرة إليزابيث؟
ماهية الحب هي العبودية والفيلسوف عاشق للحرية، وإلا ستتخلى عنه الفلسفة، نحن إذن أمام استحالة المستحيل، ولا نستطيع سوى التشبث بالأمل ونهاجم الفلسفة بالأسئلة حتى يلين قلبها وتفضح نفسها بأنها فلين، أي حب فيلو صوفيا، محبة الحكمة التي عجلت بموت ابن سينا في عز شبابه، لأنه كان محبًا للنساء والفلسفة تغار منهن... ما أحسست أبدًا بالأمان الحلو أقرب إلي كلما نظرت إلى امرأة غاية في الجمال واستمرت الكتابة في هذا الكتاب.
فيلسوف هارب
كتب ديكارت إلى الأميرة إليزابيث، عاشقته في السر، رسالة يخبرها بأنه يفضل العزلة والهواء النقي في البادية، على ضجيج المدينة وشقاء الحياة فيها، وتلوثها، كما يخبرها أيضًا بأنه تعلم كيف يطبخ الأسماك وأشياء أخرى، بيد أنه لم يتكلم عن عواطفه وشدة اشتياقه إليها، وحرقة الابتعاد عنها، إلى درجة أن الرسالة تخلو من كلمة عشق، وعبارات الغزل المحمود عند النساء، (نتشه، هكذا تكلم زرادشت، ص89)، وكأننا أمام فيلسوف هارب من جمهورية النساء، بعدما شعر بالاضطهاد. ولم يكن يهمه أن تسأله: من أية عبودية تحررت؟ وما هي الغاية التي تحررت من أجلها؟، ولكن كان فيلسوفًا عميق الجراح، مثل نيتشه، يقصد العزلة لينهي عمله: «أتقصد العزلة يا أخي لتجد الطريق التي توصلك إلى مكمن ذاتك»، حسب نيتشه، لا تخاف قل كلمتك وتحطم؛ في أي أرض تجد جذور شجرة الفلسفة مقرها؟ ومن أي أساس تستمد الجذور القوة اللازمة لنموها؟ وما هو السر المحجوب في أرض العزلة الذي يدخل ويحيا في الجذور التي تدعم الشجرة وتنميها؟ أين تقوم الميتافيزيقا منظورًا إليها من أساسها؟ ما أساس الميتافيزيقا؟ على حد تعبير هايدجر.
لم يوجه ديكارت إجابته عن هذه الأسئلة الميتافيزيقية إلى الأميرة إليزابيث، لأنه كان يحدثها عن الحياة اليومية، وسعادته في البادية، وكأنه يريد أن يقول لها: لن يعود إلا ومعه شمس الحرية، بل نجده يكتب رسالة إلى بيكو الذي ترجم كتابه «مبادئ الفلسفة» إلى الفرنسية، يقول فيها: «وهكذا، الفلسفة كلها مثلها مثل شجرة جذورها الميتافيزيقا، وجذعها الفيزيقا، والفروع التي تتفرع من الجذع هي سائر العلوم الأخرى».
ومعنى ذلك أن الحوار الفلسفي لا يكون إلا بين رجلين في عمق نضجهما، لأنه يتطلب تحمل المعاناة، وخوض تراجيدية الأسئلة ومن عادة المرأة أن يرعبها هذا الحوار لأنها صفحة ماء عذبة متماوجة تداعبها الرياح، بعيدة عن عمق الكينونة، تخشى الحقيقة، ولذلك أن حكمة زارادشت تقول: «يجب ألا يتكلم الرجل عن النساء إلا للرجال»، فديكارت كان متطرفًا في تأملاته الميتافيزيقية، لا يريد أن يفتح حوارًا بصددها مع المرأة؛ إنها إليزابيث التي كان يرقص معها، تتحرك أمامه كفراشة منتشية بفصل الربيع، تداعب أوراقه، ولكنه كان يخفي عنها حقيقة أحلامه، تمتع رؤيته بثمالة الجمال.
إنها لعبة بين الميتافيزيقا والمرأة، إحداهما للعقل، والأخرى للأحلام، لأنه بقدر ما تقول الميتافيزيقا للفيلسوف: توغل في عزلتك فلا رفيق لك إلا حبك وإبداعك، تقول له المرأة «ارمِ هذا الكتاب واتبعني لأحطم عشقك». فما المانع من أن نعيد صياغة هذا الصراع الأنطولوجي بين الفيلسوف والمرأة في أفق أسئلة الميتافيزيقا؟ وأين تكمن حقيقة هذا الصراع؟ هل تعود إلى دور المرأة في تعليم الرجل المعرفة، من خلال إغراء حواء لآدم من أجل الأكل من شجرة المعرفة، وترك شجرة الحياة؟ وبعبارة أخرى هل هو انتقام؟ أم خوف وهروب من هذه اللاحقيقة؟ هل كان ديكارت يعشق الميتافيزيقا أكثر من الأميرة؟
عزلة مطمئنة
يقول ديكارت في كتابه تأملات ميتافيزيقية: «الآن وقد تخلصت من كل شاغل، وظفرت براحة مضمونة في عزلة مطمئنة، فإنني أجد نفسي حرًا في تقويض جميع آرائي القديمة» (ص71). لا نعرف على وجه التحديد طبيعة هذه المشاغل التي تخلص منها ديكارت، ولا السر الكامن وراء هذه الراحة التي يتمتع بها في عزلته المطمئنة، غير أننا نعرف بأنه يجد نفسه حرًا في تقويض جميع الآراء القديمة، وما يرفع الالتباس إلى مقام الغموض هو هذا الربط بين العزلة والحرية، وكأن الأمر يتعلق بشرط أنطولوجي لميلاد التأملات الميتافيزيقية، وإلا كيف يمكن تفسير هروب ديكارت من حياة باذخة في بلاط الأميرة إليزابيث، إلى حياة بسيطة في البادية مع الزراع، والانتشاء بنمو شجرة الفلسفة، وحرمان نفسه من اللذة الحسية، وتعويضها باللذة الروحية؟ فهل كانت هذه الروح الشجاعة التي أصبحت تشك في كل شيء مجردة من حريتها في جمهورية النساء؟ هل كان ديكارت بالفعل سيعلن بأنه أصبح فيلسوفًا لو ظل عبدًا في هذه الجمهورية؟ ولماذا كبر في نفسه احتقار العوام؟
إن أهم ضروب الخطأ الذي يقع في الأحكام، وأكثره شيوعًا، هو ألا يتعرف الإنسان على هوية أخطائه فيظل سجينًا لها مدى الحياة، ولعل الحكمة وحدها باستطاعتها أن توقظ الحكيم من سباته وتجعله ينتبه إلى طبيعة هذه الأخطاء، لكي يتحرر منها، ويتمرد على مصدرها: «الآن، وقد بينت آراء الناس، بما فيه الكفاية فسأعود إلى الفلسفة دون انتظار ثناء من العامة على عملي، ودون أمل أن يقرأ الكثيرون كتابي. بالعكس أنا لا أنصح بقراءته إلا الذين يريدون أن يتأملوا معي تأملاً جيدًا» ■