ساعات بين الكتب الكُتَّاب والشعراء في رحاب مكتباتهم
الحديث عن علاقة الكتاب والأدباء بالكتب وعشقهم الشديد لها والانغماس في قراءتها مسألة لا تحتاج إلى البحث والتنقيب عنها، لأنها مسألة تبدو عادية جدًا، بل تكاد أن تكون من البديهيات المتداولة.
ذلك أن هؤلاء الكتاب والأدباء ما كان لهم أن يصبحوا كتابًا وأدباء لولا هذا الشغف اللانهائي بعوالم الكتب والعيش الدائم والمستمر في رحابها، ومن ثمة الرغبة في الكتابة عنها أو على الأقل الكتابة من خلالها. ذلك أن فعل الكتابة في حد ذاته لا يمكن أن يتحقق إلا انطلاقًا منها، كما يقول الكاتب الأرجنتيني الشهير لويس خورخي بورخيس. ولنا العديد من الأمثلة على ذلك، بدءًا من الكاتب العربي الكبير أبي عثمان عَمْرُو بْن بَحْر المعروف بلقب الجاحظ الذي كان عاشقًا كبيرًا للكتب ومرورًا بالشاعر العربي الكبير أبي الطيب المتنبي الذي فضل صحبة الكتب على الناس واعتبرها من خيرة الجلساء، وليس انتهاء بالكاتب العربي العملاق عباس محمود العقاد الذي ألّف كتابًا مهمًا فيها أطلق عليه اسم «ساعات بين الكتب»، دون أن ننسى باقي كتاب العالم الآخرين الذين عشقوا الكتب وكتبوا عن عشقهم الشديد لها وولعهم المنقطع النظير لعوالمها الساحرة والمدهشة، ومن بينهم الكاتب الأمريكي هنري ميللر الذي كتب كتابًا عنها أسماه «الكتب في حياتي» والكاتب الأرجنتيني - الكندي ألبرتو مانغويل الذي كتب مجموعة من الكتب المهمة التي تدور حول عوالم قراءة الكتب والشغف بها، مثل كتاب «فن القراءة» وكتاب «المكتبة في الليل» وغيرهما كثير. وهو أمر محمود ومشجع على الولوج إلى عوالم الكتب والاستفادة منها سواء بالنسبة للكتاب والأدباء أو حتى بالنسبة لباقي القّراء العاديين.
من هنا، فإننا سنسعى لتحليل قصيدتين لكل من الكاتب والشاعر المصري الكبير عباس محمود العقاد والشاعر المغربي الشهير عبدالكريم بن ثابت في مديح الكتب والاحتفاء بها.
عباس العقاد ومعاتبة الكتب
من المعروف في الأوساط الثقافية العربية أن الكاتب المصري الكبير عباس محمود العقاد كان شغوفًا بعوالم الكتب ومولعًا بها أشد الولع، بحيث كانت مكتبته تضم العديد منها وفي مختلف التخصصات الأدبية منها وحتى العلمية. وقد خصها بالعديد من كتاباته وأحاديثه بل إنه قد عنون بعضًا من كتبه بها، بحيث احتل اسمها واجهة الكتاب، ويمكن أن نذكر في هذا الصدد عنوان كتابه الشهير «ساعات بين الكتب» وعنوان كتابه الآخر «بين الكتب والناس». لكن الجميل في الأمر أنه أيضًا قد كتب قصيدة شعرية جميلة في الكتب أسماها «يا كتبي».
وهذه القصيدة الشعرية توجد في كتابه «في بيتي»، وهو كتاب حواري تمت عملية نشره بعد وفاة الكاتب الكبير عباس محمود العقاد، من لدن ورثة الكاتب وأصدقائه. وقد كتب مقدمته الكاتب حسين رشيد خريس الذي كان قد شغل منصب «المستشار بجامعة الدول العربية». يقول حسين رشيد خريس عن هذه القصيدة الشعرية التي كتبها عباس محمود العقاد حول كتبه ما يلي: «ولقد ظفر الشعر العربي من صحبة العقاد لهذه الكتب بقصيدة ما أظن أن لها نظيرًا في شعرنا المعاصر، على حد علمي، لخص فيها العقاد نظرته إلى هذه الكتب في مرحلتين من حياته. وأرجو أن يكون في إثبات هذه القصيدة، مع هذه المقدمة ما يساعد على فهم العقاد لا في كتابه هذا فحسب، وإنما في جميع ما ألف وما كتب».
منذ عنوان هذه القصيدة نجد أن العقاد قد وجه نداءه إلى كتبه، واستعمل كأداة نداء «يا»، وهي تدل على المنادى البعيد، لكنه كان يخاطبها باعتبارها أقرب الناس إليه، فإليها وحدها كان يشكو آلامه وإليها وحدها كان يشكو عذاباته، والأبعد من ذلك أنها كانت هي سبب ما حل به من آلام وعذابات. وبالرغم من كل ذلك كانت تصغي إليه لكن في عدم اهتمام أو حتى مجرد عتاب. بل كانت تصغي إليه وهو يحملها كل ما حل به وكل ما عاناه في حياته. هكذا يبدو لنا العقاد وقد ارتدى ثياب الشاعر، في هذه القصيدة، إنسانًا يعاني من شدة الوحدة وهو يعيش وسط كتبه، بل إنه يعتبرها أساس هذه الوحدة نفسها. إنه يقول بأن هذه الكتب قد ألبست جلده الضنى، وأنها كانت تتركه بلا نوم وهو يطالعها، بل إنها كانت تقوم بإدخاله إلى عوالم الموتى وتطلعه على أسرارهم وتحكي له عن سيرهم المختلفة. وهو حين كان يفعل ذلك، كان غيره من الناس العاديين يسهرون في الملاهي ويتذوّقون طعم الحياة، فمنهم اللاهي ومنهم العاشق ومنهم الحالم، ومنهم الراغب في النعم بعيدًا عن هموم القراءة والانهمام بعوالم ما تقوله الكتب وما تسعى إليه. وهو في غضبه من كتبه، يعلن لها أن باقي الناس تغتني بما تقتنيه من ملابس وأدوات الزينة وما تركبه من سيارات فاخرة وما تذهب إليه من مطاعم ودور اللهو، في حين يظل هو قابعًا في البيت مرافقًا لها، هي التي لا تقدم له شيئًا، بل إنها تساهم في إطفاء نور عينيه وتساهم في إعلال صحته وفي إتلاف وقته، بل إنها قد أفنت له شبابه في غير طائل، ولولا عشقه الشديد لها بالرغم من كل ما حل به بسببها، لكان قد رمى بها إلى النار كي تلتهمها بدون رحمة ولا شفقة.
إن الكاتب والشاعر عباس محمود العقاد يبدو شديد النقمة في هذه القصيدة الشعرية على الكتب، لكن من خلال هذه النقمة ذاتها، نشعر بالحب الكبير الذي يكنه لها، ولولا هذا الحب الكبير لما أنفق شبابه في الاهتمام بها اقتناء وقراءة وتمحيصًا وفحصًا. ولما قام بعتابها ولا كتب عنها، سواء أكان غاضبًا منها أو معجبًا بها. لقد عانى العقاد كثيرًا من حبه الشديد للكتب، هو الذي أفنى حياته بينها، وهو الذي جعلها رفيقة دربه، وصديقة دائمة له في حله وفي ترحاله، في شبابه وفي شيخوخته، في رضاه وفي سخطه.
يقول العقاد في هذه القصيدة الشعرية ما يلي:
شكوتها والعمر في فجره
فكيف بي لما دنا المغرب؟
لما دنا المغرب صالحتها
تلك التي تشكي ولا تغضب
تلك التي قلت لها مرة
والقلب دام والحشا ملهب
يا كتبي أورتني حسرة
هيهات لا تنسى ولا تذهب
هكذا عاش الكاتب والشاعر المصري الكبير عباس محمود العقاد حياته بين الكتب، يعاتبها ولا تغضب منه، ويخاصمها، لكي يعود إليها مصالحًا، وعاشقًا كبيرًا لعوالمها اللانهائية، وهو حتى في غضبه من كتبه، فإن غضبه هذا يشير إلى حبه الشديد لها وإلى قضاء معظم أوقاته بين أحضانها، كما يفعل العاشق الكبير. وهو حين خصها بهذه القصيدة الشعرية النادرة، فإنه كان يصف بصدق كبير هذه العلاقة الوطيدة التي جمعته بها وأبعدته عن كل ملذات الدنيا الأخرى، وجعلته وفيًا لها وحدها. وهو ما جعله كاتبًا وشاعرًا كبيرًا في دنيا الكلمات وفي ساحات معاركها وجنات لذائذها التي لا تنتهي.
عبدالكريم بن ثابت والشوق إلى الكتب
وفي مقابل الكاتب والشاعر المصري الكبير عباس محمود العقاد الذي وجدناه في قصيدته هاته عن الكتب يقوم بمعاتبتها والغضب منها لما سببته له من آلام ولما حرمته من قضاء أوقات متع وملذات الحياة على غرار باقي الناس العاديين، فإننا نجد الشاعر المغربي المعروف عبدالكريم بن ثابت، صاحب ديوان «الحرية»، يقوم بإعلان محبته لكتبه وشوقه الشديد لها، وذلك في قصيدته «أواه يا كتبي...!» التي نجدها حاضرة في نفس ديوانه السابق الذكر، أي ديوان «الحرية».
في هذه القصيدة الشعرية القوية ذات النفس الغنائي الجميل، يعلن الشاعر المغربي عبدالكريم بن ثابت، شوقه الشديد إلى ملاقاة كتبه، هذه الكتب التي غاب عنها منذ زمن، وهي كتب، كما يقول، تغنيه عن كل أصحابه، وعن كل ما كان يتوق إليه. إنها أكثر من ذلك، تحول حياته المليئة بالشجن والضنى وبالظمأ إلى حياة مليئة بالارتواء المعرفي الكبير. وهي إضافة إلى كونها تُنير له سبل الحياة وتهديه إلى الطريق الصحيح الذي عليه أن يسلكه في مساره الإنساني. وهو حين يلقى ويلتقي بهذه الكتب يظل مرتبطًا بها طيلة الوقت ولا يكاد يفارقها لا نهارًا ولا ليلاً، وهي تحوله بالتالي إلى مجنون هائم بها وبعوالمها الفاتنة المنقطعة النظير. ومن ثمة فهو حين يضطر إلى مفارقتها تحت ظروف العمل أو غيره، فهو يفارقها والألم يعتصر قلبه، ويطلب منها لو تأتي عنده حيث يوجد ليتسلى بها في وحدته ويأنس بها في غربته.
إن الشاعر المغربي عبدالكريم بن ثابت هنا، في هذه القصيدة يحول كتبه إلى معشوقة، فهو يخاطبها بضمير العشق، وكأنها من لحم ودم، وهو يخاطبها بلوعة العاشق الملتاع الشديد الشوق إليها، وكأنها قد تحولت في نظره إلى حبيبة فعلية لا غنى له عنها سواء في حله أو حتى في ترحاله. بل إنه يطلب منها أن تسأل عنه، لأنه بدونها يعيش في جحيم لا يطاق.
يقول الشاعرعبدالكريم بن ثابت في هذا الشأن ما يلي وقلبه مليء بالوجع الشديد:
لا تسألي عني وعن أخباري
فأنا بدونك ها هنا في النار
فلأنت أدرى ما أعاني من جوى
وسط الجمود وندرة الأبرار
والليل أحلك ما يكون فلا ترى
إلا الدجى وفظائع الأشرار
أواه يا كتبي ويا أنواري
إني أسير غرامك الجبار
هكذا تنتهي هذه القصيدة الشعرية الفريدة للشاعر المغربي عبدالكريم بن ثابت، وهي من بين أجمل القصائد الشعرية التي قيلت في عشق الكتب وفي الاهتمام الشديد بها وبالرغبة في العيش في عوالمها الساحرة التي لا تعد ولا تحصى.
على سبيل الختام
يتبين لنا من خلال ما سبق أن أشرنا إليه ووقفنا عنده بالقراءة والتمحيص أن الكُتاب، وفي مقدمتهم الشعراء، لا يمكن لهم إلا أن يعيشوا بين الكتب وأن تشكل عوالم هذه الكتب مدارات اهتمامهم التي لا تنتهي. والجميل في الأمر هو أن يلتقي كل شعراء العربية من المشرق والمغرب في محبة الكتب وفي الإشادة بها، كل على طريقته وحسب نظرته إلى الأمور ■