طه حسين و«فن الإبيجراما» في «جنة الشوك»

طه حسين و«فن الإبيجراما» في «جنة الشوك»

«فأنا رجل أحب القراءة، وأحب القراءة المختلفة المتنوعة، أقرأ في الأدب العربي القديم والحديث، وأقرأ في الآداب الأوربية القديمة والحديثة، وأجد في هذه القراءة متعة تكسب الحياة قيمة خاصة» (ط. ح)

 

يمثل «طه حسين» ظاهرة ثقافية، يستعيدها الوعي العربي ويحتفي بها في هذه الآونة بعد نصف قرن من رحيله، كحالة ثقافية متعددة المشارب، ومبحرة في صميم موروثها العربي، وحاضرها المجدد، بتلك النظرة المتطلعة إلى فلسفة الحالة الثقافية/الإنسانية عبر أنساقها الطبيعية والنفسية، ومن خلال قراءة الواقع والموروث الفكري والثقافي عربيًا وعالميًا، وما تحتاج إليه الحركة الثقافية التي ترى المشهد الحياتي من خلال منظور بانورامي مكرس لهذا الوجود وهذا الفكر وهذا الإشعاع الممتد من نور اليقين مخترقًا غلالة الشك، قد يدفع إلى اجتراح حالة إبداعية نقدية مواكبة، وملازمة ومعارضة؛ ولازمة كي تسبر غور واقع اجتماعي وثقافي وسياسي وعقيدي معقد وشائع، وشاسع، ومليء بالمتناقضات، وجدير بالملاحظة والمراجعة... وربما كان هذا كله مجتمعًا في ظل مواكبة نوع من فن القول والكتابة معًا، ربما لم يكن مطروقًا بالصورة الكافية له، وهو فن (الإبيجراما) (أو ما يشبه معارضة الأدب للموقف الحياتي والفلسفي) الذي استطاع العميد أن يطوعه لينقله من أجواء الشعر (بحماسته وهجائه وذمه على حد السواء) من خلال كتابه «جنة الشوك»، إلى فضاء النثر في متن سردي يقدمه للقارئ العربي المتعطش لبديع القول، ومتلهف على حالة وجودية جديدة من حالات الكتابة والشغف بما يدور حولها، بتلك السمات من الاختزال والتكثيف والقصد غير المباشر النافذ في عمق الحالة الإنسانية والفلسفية بالغة التعقيد والتأثير، كسمات لهذا الفن الذي بدأ تلغرافيًا من خلال الشعر.
يقدم «طه حسين» للكتاب عبر لمحة تاريخية يلخص فيها صفوة القول ومراحله التي تمثل مرآة إبداعية صادقة للواقع، انتقالًا من الأشكال التقليدية للسرد والنثر ولوجًا في حقل القصة التي تنزع إلى الأدب الخالص، وإلى تصوير الحياة الإنسانية بما تقدمه من نقد مباشر وغير مباشر بإلماحات لكل أحوال الحياة، ذلك النقد الإبداعي في شمولية حضوره في مشهد لم يكن يعترف بوجود القصة أو بشكلها أو بمسماها، وإن تنوعت مصادرها وأشكالها الأولية من مقامة ومنامة وغيره، والرجوع إلى تراث شفاهي للنقل وتواتر الحكي الذي يمس قضايا الوجود بشكل ما أو بآخر، وذلك تمهيدًا لإبحار وتجديف في بحر فن جديد مختلف يقول عنه «العميد» في تقديمه:
«ويجب أن أعترف بأني لا أعرف لهذا الفن في لغتنا العربية اسمًا واضحًا متفقًا عليه، وإنما أعرف اسمه الأوربي، فقد سماه اليونانيون واللاتينيون «إبيجراما» أي نقشًا، واشتقوا هذا الاسم اشتقاقًا يسيرًا قريبًا من أن هذا الفن قد نشأ منقوشًا على الأحجار، فقد كان القدماء ينقشون على قبور الموتى، وفي معابد الآلهة، وعلى التماثيل والآنية والأداة، البيت أو الأبيات من الشعر»، ثم ينزع إلى وصفه وصفًا بليغًا مدركًا أهميته في تشريح الحالة الاجتماعية الموضوعة تحت مجهر الكاتب الأريب الذي لا يفوته شيء من دقائق الأمور وظواهر الحياة للتعبير عنها ببلاغة وحكمة تمس الواقع، وربما تجد بها مخرجًا من خلال الالتفاف حول الحالة والإسقاط عليها والجنوح والميل كي تتغيا مقاصدها من حيث الدقة والبراعة والكشف فيما يقول:
«ثم يمتاز هذا الفن بخصلة أخرى لا أدري كيف أصورها ولكني سأحاول ذلك كما أستطيع، وهي أن تكون المقطوعة أشبه شيء بالنصل المرهف الرقيق ذي الطرف الضئيل الحاد قد ركب في سهم رشيق خفيف لا يكاد ينزع عن القوس حتى يبلغ الرَّميَة ثم ينفذ منها في خفة وسرعة ورشاقة لا تكاد تُحس».
ومن خلال هذه التجربة المقتحمة - في وقتها - يمضي العميد مع منطق التجريب، ومنطق دخول الأدب والكتابة في دروب وعرة يمتحن فيها لغته - بحسب تعبيره الجزل - ويمتحن ذوق القارئ الذي ينشئ معه علاقة جديدة تتضارب بين التعاطف والاختلاف الشديدين، من خلال لون أدبي يُعدُّ جديدًا وهجينًا بين موروث عربي وموروث عالمي/أوربي، ومكتسبًا من خبرة الأيام ودربة المشاعر والبعد الثقافي الرؤيوي الذي يمثل مشروع «طه حسين» التنويري، وثورته على ظلام العقل، ما يساعده على هذه الحالات من سبر الغور، وربما بالاكتفاء بالإشارة إلى العديد من مواطن الضعف والسلوكيات المريضة الخاطئة في مستوييها العام والخاص على حد السواء ومحاولة معالجتها من خلال لعبة الكتابة والأدب:
«وإذا أردت أن تعرف الحق الصريح من أمر هذا الكتاب، فإني منبئك به في سذاجة يسيرة لا تكلفك مشقة ولا جهدًا، لأني أنا لم أتكلف في هذا الكلام مشقة ولا جهدًا، فأنا رجل أحب القراءة، وأحب القراءة المختلفة المتنوعة، أقرأ في الأدب العربي القديم والحديث، وأقرأ في الآداب الأوربية القديمة والحديثة، وأجد في هذه القراءة متعة تكسب الحياة قيمة خاصة».
بحثًا عن القيمة المضافة للحياة يتجه الأدب والكتابة نحو تأصيل ما يمثل قناعة وأبجدية للوجود الحي الذي يسير خلف كل موجود ويتتبع كل أثر، ممتصًا خلاصة التراث بشقيه القديم والحديث دخولًا في أجواء معاصرة لزمنه/ حالته، مستفيدًا من كل التراكمات والتداخلات التي تصنع هجينًا لمفهوم الفن وفلسفة التعامل مع حالة وليدة/مستوطنة في الوعي والإدراك، فتتنوع تلك الاتجاهات لتشمل صعودًا وهبوطًا، فكرًا فلسفيًا متوجهًا نحو الإنسان في كينونة وجوده، وذلك من خلال متن الكتاب الذي يعتمد في أغلبه على فلسفة الحوار بين الشيخ/ المعلم رمز الخبرة المعرفية والفلسفية العميقة، وتلميذه/الشباب رمز الفتوة والتفتح والسعي نحو الإدراك، والذي جبل على السؤال، ومستقبل الأمة الذي تراهن عليه من أجل تجديد وعيها ودمائها التي تتمدد في شرايينها.

فخ الخداع 
لكننا قد نلمِّح - بداية - إلى تلك القطعة النثرية المسنونة كسن الرمح أو النصل المرهف بحسب تعبير العميد في تقدمته، لنراه وهو يتعمق في تلك الحالة النصية التي يلتف حولها بحذق الأديب الأريب الماكر، كي يثبت واقعًا إنسانيًا يتعارض معه أشد المعارضة، وربما كان حجر أساس، ودافعًا مهمًّا من دوافع مضيه في تلك الحوارات التي نعرض لها فيما بعد، باعتماد فلسفته في تناول الأمر برمته، برؤية الناقد المستكشف والمستشرف في الآن ذاته، وهو يبدأ قطعته بهذه التقدمة الماكرة الآخذة باللب والانتباه كبلاغة من بلاغات النص الأدبي وبراعة جذب الالتفات، ومن خلال توصيف الضد وتزيين الحالة المرفوضة في وعي من يجترحون حالة مستمرة من التضليل والإفساد والإغواء، فيقول بمنطق الحكماء الذين يصبرون على حكاية المشهد النفسي حتى آخره، ثم يصدمك القرار الفاعل في نهاية ما يسردون، كمفارقة ضمنية تفرضها نتائج الأمور والاشتباك مع الواقع أو الصورة المزينة في كامل أبهتها، وهي تحتوي الضلال أو عكس حالة الحبور التي تنتاب من يقترف إثمًا أو جُرمًا وهو يدعي عكس ذلك:
«لم أر قط أجمل ولا أشد روعة مما رأيت اليوم... رأيت نفرًا عُرفوا بذكاء القلوب ورجاحة الأحلام وامتياز العقول، قد كذبوا على الناس فلم يصدقهم أحد، ولكنهم ألحّوا في الكذب حتى صدقوا أنفسهم، ثم خدعوها بالغرور والأوهام، ثم ابتهجوا بهذا الانخداع، فكانت وجوههم مشرقة وثغورهم باسمة، وألسنتهم منطلقة، بما يصور النصر المؤزر، والفوز المبين، وكأن الناس لم يؤمنوا لهم ولم يصدقوهم يضحكون من هؤلاء الأساتذة المحنكين الذين أرادوا أن يضلوا غيرهم فأضلوا أنفسهم».
بدايةً بالطريقة الساخرة المتأملة يقدم هنا هذا التشخيص الحاد للحالة الإنسانية المريضة والشاذة التي تنخر في المجتمع الإنساني، ويوجه لها الأديب سهامه المركزة للإشارة والتوجيه، يرسم لهم صورًا برَّاقة لكنها في داخلها شائهة تتراكم فيها كل السلبيات المقيمة بالنفس والتي تضر بالتالي الحالة العامة وتفسدها فتستحق سهام النقد والتشريح، مع تلك التراتبية في رسم الصورة ودقائقها، وكذلك التأثير الظاهر للحالة التي تعمل على سقوط ذاتها من خلال شعاع البصيرة الكاشف لكل تلك الممارسات لنماذج بشرية تدعي العلم والأستاذية، ويأخذون بناصية الأمر في محيطهم المؤثر، ولا يدخل هذا في روع الناس فيرفضون إضرارهم لهم كمفارقة لاذعة لا ينخدع بها العوام.

حواريات وامضة
في تلك الحواريات الوامضة التي تجترح السؤال البريء والمضمر على حد السواء، يقدم لنا العميد هذه الوجبات السريعة المكثفة القادرة على الإشارة إلى مواطن كثيرة ومتعددة الاتجاهات من إشكاليات الواقع المحيط، وصورة المجتمع الفاضل الذي تسعى إليه الأدبيات في تصورها لمعارضة المجتمع المعاصر بكل ما فيه، ومن خلال مقارنات مع صور الماضي ربما تتخفى في الأخلاقيات والمثل التي يتغياها الوعي الحكيم والفكر الرشيد الذي تجود به القريحة الإبداعية الواعية والمثقفة، ذلك الاجتراح الذي يجعل الجنة تقوم حول الشوك أو يكون الشوك على حوافها، تواؤمًا لما أتي به العنوان الصادم المثير للدهشة الذي عنون العميد به كتابه فتأتي فلسفة السؤال الباحث عن التبرير والتفسير وربما الإشارة إلى الاعتوار وآمال إصلاحه.
في نموذج «حرية»، كعنوان اندرجت تحته العديد من النصوص الوامضة، دلالة على اتساع وانتشار هذا المفهوم المعنوي الضمني الذي تتغياه الإبيجرامات في صيغتها النثرية الحوارية المقتضبة التي تشكل دلالات متعددة لنفس المفهوم/ الفكرة، وتأتي كالنصل الحاد، وتراهن على القيمة في كل المواقف التي تعيد صياغتها من أوجهها المتعددة في صالح علاقة مفاهيمية ربما اعتمدت الإلغاز والتورية كبلاغة، وكنوع من التحفيز الذهني الذي تقوم عليه الإبيجراما:
«الشاب: ما بال فلان يظهر سيرة الأحرار، ويخفي سيرة العبيد؟
الشيخ: ذلك أحرى أن يظهر على دخائل الأحرار لينقلها إلى سادته».
حيث تبدو فلسفة التوجه نحو باطن الأمور واستجلاء الحقائق من مظانها، ومن كبد الواقع المخفي/ الغائب عن وعي الشاب وجيله، فالحكمة هنا فيها توجيه للتريث والتبصر بما يدور أو ما يسبب تلك الحالة التي تتناول مبدأ الحرية، أو الواجب حدوثه كتصحيح للمسار، كمطلب أساسي في الوجود في مقابل منطق العبيد، أو العلاقات السرمدية بين الحر والعبد كثنائية ضدية، بحيث تلفت انتباه الشاب/ الجيل الجديد إلى المفهوم الصحيح للحرية بعيدًا عن تلك الأعراض أو الظواهر التي تحيِّر ذهن الشاب ويحتاج إلى تجليتها... كما يبدو أيضًا من خلال نص «مثل» كنموذج آخر من زاوية أخرى من زوايا الحرية، وإن اختلف المسمى، لتنظيم العلاقة بين الحاكم/الحر، والمحكوم/العبد، كاستمرار لتلك الثنائيات، وكإلماح إلى الجانب السياسي:
«الطالب الفتى: ألم يكن يُقال في قديم الزمان إن الناس على دين ملوكهم؟!
الأستاذ الشيخ: كان يقال ذلك قبل أن تتحرر الشعوب، فأما الآن فأحرى أن يقال إن الملوك على دين شعوبهم».

جسد الثقافة
كما يضع النص يديه على الداء المستشري في جسد الثقافة، والذي لا يزال سؤاله ممتدًا وحاضرًا في زمننا المعاصر، وقد تصاعدت القيمة السالبة لتلك الآفات التي لا يمكن التخلص منها إلا بمجرد النظر والتعجب والتأمل والتمنيات ألا تقع فيها النفس الناقدة أو المتسائلة، أو الباحثة عن إجابة عابرة أو مؤقتة للسؤال الذي تبدو فلسفته من خلال الحوار:
«الطالب: كيف تجتمع الصفوة الممتازة من المثقفين لتكريم كاتب يُحسن الخطأ أكثر مما يُحسن الصواب؟
الشيخ: لأن هذه الصفوة تكرم اسم شخص تعرفه، لا مؤلف كتاب لم تقرأه».
تبدو القيمة السالبة للتوجه من أساسه بالاعتماد على اسم شائع أو مروج له أو مشهور على حساب القيمة الإيجابية للمتن/الكتاب الذي لم يقرؤه أحد، سواء كان لذلك الكاتب الحائز على القيمة الزائفة، أو لآخر يملك كتابه قيمة إيجابية حقيقية، وهو مرض معاصر ومؤثر في سياق الحالة الثقافية برمتها، وبتوجهها نحو القشور والذيوع ومن يتمكن من البقاء تحت الأضواء بالرغم من عدم جدارته بذلك، وهو تشخيص بليغ يمضي أيضًا كالنصل الرهيف في جسد لا يتوقف عن إدرار أسوأ ما فيه على حساب القيمة، وهو النقد اللاذع الساخر الممتد الذي لا يتوقف عن إشهار الحق من خلال إبراز النقيض .
 فضلًا عمَّا قد نجده أيضًا في نموذج نص «هجاء»، كإشكالية من إشكاليات التكالب على جسد الثقافة والكتابة والإبداع، ويفحصها الكاتب الأريب بمبضعه الرهيف الأدرى بكل الأحوال والصراعات والتقلبات والتحولات التي تنال من المشهد الثقافي والأدبي بالأحرى:
«الطالب الفتى: قد كان أدب فلان عذبًا سائغًا، فأصبح مرًا لا يطاق.
الأستاذ الشيخ: ما زال يحلب لهم ضرع الأدب حتى استنفد لبنه، فهو لا يحلب الآن إلا دمًا».
وهو ما يعكس حالة الاستنزاف التي تواجه الكاتب حين يغيض ماؤه ولا يعترف بذلك، فيصير استمراره في ساحة الكتابة نوعًا من الاجترار وتجريف أرضه ونزفه لدمائه التي تتخثر وتعطي وجهًا شائهًا للأدب والكتابة، كمرض من أمراض العصر المستمرة، والتي تنخر في جسد الثقافة والإبداع وتتكالب عليها كشهوة لفنون القول والكتابة، وكإقرار لواقع متدن تعاني منه كل المجتمعات والأوساط، ولا تسلم منه الثقافة، في حين لا يعترف أحد بذلك، فالإقرار هنا هو إقرار واقع وكفى... فالكاتب لا يعرف متى يتوقف قبل أن يجدب!!
ختامًا: وهــو مــا تنطــوي عليــه محـاولات الإصلاح التي تصلح لأن تكون غرضًا نبيلًا لتلك الإبيجرامات المعارضة القوية في توجهها، وربما عبر عنها نص بليغ هو نص «إصلاح» الذي ربما لخص هذا الدور البليغ لها، من خلال هذا المتن النثري المجدد، والذي ربما كان بالفعل نقشا على أحجار الوعي:
«الطالب الفتى: ما أكثر ما يذكر قومنا الإصلاح، وما أقل ما يصلحون!
الأستاذ الشيخ: إنما يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، ولو قد آمنت قلوبهم بالإصلاح حقًا لعملوا أكثر مما يقولون» ■