حاجة الصغار إلى تقدير الذات

حاجة الصغار  إلى تقدير الذات

  يعد تقدير الذات هدفًا تربويًا تحرص التربية الحديثة على تحقيقه في النشء، وتقدير الذات هو الحكم الإيجابي الذي تصدره الذات على نفسها، وهو دعامة أساسية للشخصية على مستوى رصيدها المعرفي وكيانها الوجداني ونشاطها السلوكي، بل أكثر من ذلك، فنوع التقدير إيجابيًا أو سلبيًا للذات يؤثر على حاضرها ومستقبلها، واختياراتها وقراراتها، ونجاحها أو فشلها. فحين يكون التقدير إيجابيًا، يتيح للفرد إمكانية القيام بردود أفعال مناسبة والشعور بالتوافق والسعادة، وهذا ما يمنح الذات القدرة على مواجهة صعوبات الحياة والأزمات، والأحداث غير المتوقعة، عاملاً فاعلاً ومحفزًا على تحسين أدائه، ونجاحه المدرسي، وعلاقاته بالآخرين وتوافقه النفسي ودرجة طموحه. أما إذا كان سلبيًا فسيؤدي ذلك إلى الإحساس بالدونية وفقدان الثقة بالنفس والشعور بالمعاناة، ما يعيق تواصلها مع الأشخاص وتكيفها مع الوقائع والأحداث، ويؤثر سلبًا على صحتها النفسية. فإن أي خلل أو سوء في تقدير الذات وكفاءاتها من شأنه التأثير سلبًا على أداء الطفل في المدرسة أو غيرها، وعلى صحته النفسية.

 

تتوزع مجالات تقدير الذات إلى العلاقة مع الجسد والعلاقة مع الآخرين والعلاقة مع الإنجاز أو العمل. فالطفل يحس بتقديره لذاته منذ الوعي بجسده كائنًا مستقلاً، ويأخذ هذا الوعي عدة مظاهر سلوكية بدنية، ومعرفية ووجدانية، فهو يحاول دائمًا إرضاء والديه وانتظار ردود أفعالهما الإيجابية، كما يسعى لانتزاع مكانة خاصة داخل أسرته، بين إخوته، ومن جهة أخرى يحرص على البحث عن مظاهر التميز أمام أقرانه. أما في فترة المراهقة فيصبح تقدير الذات ضرورة ملحة، خصوصًا مع التغيرات الجسدية المؤثرة التي يعيشها المراهق.
يتساءل الناشئ: مَن أنا وكيف ينظر إلي الآخرون؟ هل شكلي جميل؟ هل هيئة بدني مقبولة؟ هل يقدرني الآخرون؟ هل إنجازي يضاهي إنجاز غيري؟ وكيف أستطيع أن أكون أفضل؟ وغير ذلك من الأسئلة التي تكون بمثل هذه الصيغة، أو لا تكون واضحة للعيان، وعمومًا هذه الأسئلة أو غيرها أو مثيلاتها تتبادر إلى ذهن الناشئ بشكل أو بآخر. 
بهذه الأسئلة يحاول الناشئ البحث عن السبيل الذي يوصله إلى تحقيق توازن نفسي وتكيف اجتماعي ونجاح، حتى يحظى بتقدير غيره، ويحتل في جماعته المكانة التي يطمح لها. وهذا بطبيعة الحال مرتبط بالصورة التي ينشئها الفرد عن ذاته في شموليتها، فيسعى جاهدًا إلى البحث عما يمنحه القوة وما يعزز لديه تقديره لذاته. وهذه الرغبة تبدأ في الاشتغال منذ الطفولة وتزيد حدتها في المراهقة وتتواصل في سن الرشد. فالتقدير الإيجابي يدفع الفرد، ذكرًا كان أو أنثى، إلى السلوك الإيجابي والاستقلالية والمبادرة، مدفوعًا دومًا بالرغبة في تطوير إنجازه وإنضاج تجربته والسعي الحثيث لتحقيق النجاح ومواجهة التحديات. في حين أن التقدير السلبي يكبل الناشئ الذي يحكم على نفسه مسبقًا بالفشل والعجز والاتكالية، ما يحول دون قدرته على حل مشكلاته والتغلب على تحدياته واتخاذ قرارات مستقلة، فيستسلم بسرعة معتقدًا أن الفشل قدره المحتوم. وحتى السلوك الأخلاقي يكون متدنيًا لديه، ويتجلى ذلك في سعيه للغش والتملق والإرشاء وغيره.

كيف نحقق تقدير الذات؟
إن تقدير الذات مهم جدًا، لأنه هو المفتاح للكثير من أبواب النجاح الأخرى في الحياة، فطرق النجاح مهما كانت سهلة وقريبة، لا يمكن أن يسلكها الفرد إذا كان لا يولي اعتبارًا لذاته، أو كان تقييمه وتقديره لها ضعيفًا، فلن ينجح في حياته لأنه يرى نفسه غير قادر، أو غير مستحق لذلك النجاح.
وتقدير الذات يكتسبه الناشئ من التنشئة في أحضان الأسرة، ومن التربية المدرسية أيضًا، وكذا من تجاربه وفعالياته ضمن الحياة المدرسية والاجتماعية، وعلاقاته بغيره من الراشدين والأقران. هذه الحياة التي تعرضه لمواقف وتستدعي استجابته وردود فعله، فمرحلة الطفولة مهمة جدًا في تكوين نظرته إلى ذاته وتقديره أو تبخيسه لها، بحسب نوع المعاملة التي لقيها والتنشئة والتربية التي خضع لها. فالطفل الذي يلقى المحبة والتقدير والتشجيع على مواجهة المواقف والدعم للتغلب على الصعوبات، هو غير الطفل الذي يتعرض للإهمال ولا يلقى دعمًا للتغلب على الصعوبات والمشكلات التي تواجهه. فالأول ينشأ لديه تقدير إيجابي لذاته بخلاف الثاني.
فالعمودان اللذان يتأسس عليهما تقدير الفرد لذاته هما:  
1 - النظرة إلى الجسد: ففي مرحلتي الطفولة والمراهقة بالخصوص يجب أن يستشعر الفرد ذكرًا وأنثى أنه مخلوق في أجمل صورة وأحسن تقويم، فتحسين صورة الجسد أساس الرضا الذاتي، وشرط قبول الفرد لذاته واعتزازه بها. تحقيق التوازن النفسي والوجداني، خاصة إذا كانت نظرة الطفل إلى جسده سلبية أو غير واضحة، فالجسد يستحق التقدير والاعتزاز به، لأن الله عز وجل خلقه بيديه. وفي ذلك قمة العطف والرحمة والحنان الإلهي.
2ـ  النظرة إلى المهارات والإنجاز: يجب أن يستشعر الناشئ أن كل الخيارات متاحة له ليرتقي بإنجازه ويحقق أحلامه، ويدرك أنه يتوافر على المهارات الضرورية، بحيث يمكن تنمية مهاراته البارزة، والبحث في ذاته عن مهاراته الكامنة. فذاته تحتوي على كنوز من المهارات والقدرات يكفي أن يتعرفها ويطورها. كما ينبغي في جميع الحالات تقدير إنجازه وعدم تبخيسه، فالإنجاز الجيد يستحق التنويه والشكر والتشجيع، والإنجاز الرديء أو الضعيف ينبغي مساعدة الناشئ على تطويره وتحسينه، والفرص قائمة دومًا لأجل ذلك. والمبادرة بيد الأسرة والمربين لتحقيق ذلك ومساعدته على بلوغ النجاح.
فالعلاقة مع الناشئ، وعلاقات الناشئ بأقرانه، يجب أن تراعي ما سبق، حتى يشعر بأنه مقبول، وأن حياته مقدسة، وعرضه مصون، وأمنه ثمين، وأنه قادر على تحقيق الإنجاز الجيد، والمساهمة بدوره في إغناء الحياة وتطوير واقعه والتحكم فيه. فيؤسس لعلاقاته مع أقرانه على الندية والتعاون والتكامل والاحترام المتبادل، وليس على الخنوع والرضوخ واستجداء العطف والشفقة، ويكون انتماؤه لجماعته موضع تقدير. فسلوكات كثيرة يظهرها أبناؤنا وبناتنا في تفاعلهم الاجتماعي كالانزواء، والعنف، والتلعثم خلال الحديث، أو الكذب، وغياب روح المبادرة ورفض تحمل المسؤوليات، والإحساس بالعجز عن تحقيق الإنجاز الجيد، واسترخاص الحياة والعرض وغير ذلك إنما تعد علامات لتقدير سيئ للذات وتبخيسها.
إن تقوية تقدير الذات للنشء أمر مهم لحمايتهم من الاضطرابات العقلية واليأس، لأنه يجعل الفرد إيجابيًا، مقتنعًا بأنه يستحق الخير والسعادة، فيعامل الآخرين باحترام وإحسان وألفة، ما يؤدي إلى تفاعل اجتماعي جيد بين الأفراد، وتجنب العلاقات التدميرية، فاحترام الآخرين ما هو إلا انعكاس لاحترام الذات وتقديرها.
إن التقدير الإيجابي للذات شرط أساسي لتحقيق التوازن النفسي والشعور بالرضا، ويدل على القيمة التي نمنحها لناشئتنا والمحبة التي نسبغها عليهم. وبذلك نفسح لهم السبل ونبين لهم المسالك التي يمكن أن تقودهم لكل خير ونجاح، وكل ما ينتظره مجتمعهم منهم، كأفراد يتمتعون بكرامتهم، ومهيئين لبناء مجتمع الكفاءة والأمن والسلم والتعاون.
إن النشء في حاجة إلى التقدير، ليترسخ فيهم تقديرهم لذاتهم، ويكونوا عن أنفسهم صورة إيجابية، وعلى المربين أن يقروا بقيمة الأطفال، واحترام مظهرهم، وفكرهم، وتقدير مشاعرهم، ومعاملتهم بالاحترام والتسامح. حتى تترسخ في أنفسهم صورة إيجابية عن ذواتهم، بتنمية التصريحات الإيجابية الذاتية، فالطفل يتصرف بناء على طبيعة الصورة التي يكونها على نفسه، وبكل ما يقوله عن نفسه. والتقبل شرط العلاقة التربوية الإيجابية التي تساعد النشء على بناء شخصية سوية متقبلة لذاتها متكيفة مع مجتمعها ■