اتخاذ القرار بين الموضوعية والتحيز
أكدت دراسة أجراها فريق بحثي من المتخصصين في الرياضيات التطبيقية بجامعة يوتاه الأمريكية، أن القرارات السريعة كثيرًا ما تكون غير سليمة، ومبنية على استنتاجات خاطئة، بسبب غياب المعلومات أو تدني جودتها، وتأثير التحيزات الشخصية؛ بينما تكون القرارات المتأنية أكثر دقة، نتيجة للجهود والأوقات المبذولة في سبيل البحث عن أكبر قدر من التفاصيل الشارحة للوضع من جميع الجوانب. وللوصول إلى استراتيجيات صنع قرار فعالة ومستنيرة، يسعى الباحثون في مجال سيكولوجية اتخاذ القرار إلى فهم السلوك البشري، واستكشاف العمليات الإدراكية والتحيزات والتأثيرات العاطفية والعوامل الاجتماعية التي تشكل خياراتنا، بل ووضع مقاييس لتحيزاتنا.
يرى دانييل كانيمان - في كتابه «التفكير بسرعة وببطء» - أننا نعمل، عند اتخاذ القرار، بنظامين: الأول، سريع -آلي- عندما تكون قراراتنا فورية ومحسومة مسبقًا، ومنطلقة من مشاعرنا الباطنية، وحدسنا، ومعتقداتنا الراسخة؛ والثاني بطيء، ويتضمن رحلة من جمع المعلومات المتعلقة بالبدائل المتاحة، والتفكير في تفاصيلها، ووزنها من حيث السلبيات والإيجابيات للوقوف على أفضلها، اعتمادًا على التفكير والمنطق.
لكن هذا النظام الأخير يحتاج إلى وقت وجهد، وربما دافع قوي لتحمل متاعب الرحلة، وهو ما يصعب تطبيقه على جميع قراراتنا اليومية. ولهذا يساعدنا النظام السريع أو الآلي على إنجاز مهمة التقرير بلا جهد وفي وقت لا يذكر، غير أن ثمة أثمان علينا دفعها نظير هذه المساعدة الفورية، من بينها تبني التعميم، وإهمال تفاصيل ومعلومات قد تكون مهمة. فعبر الطرق المختصرة واستراتيجيات التسهيل كاستخدام الاستدلالات، أو خبراتنا السابقة، نقع في عشرات التحيزات. وربما هذا ما شجع ظهور نظام ثالث - انطلق من الدعوات للتفكير الكلي - يجمع بين النظامين المذكورين كأن يضع المرء في اعتباره سلبيات الخيارات المتاحة وإيجابياتها دون إغفال ما يقوله صوته الباطني. ثم يهيئ نفسه لتقبل تبعات القرار، على أمل التعلم من الدروس المستفادة لتحسين قرارات المستقبل.
مغالطة التكلفة الغارقة
من التحيزات الشائعة والمؤثرة، ما يعرف بمغالطة التكلفة الغارقة التي تعني ميلنا للاستمرار في أمر سبق لنا أن استثمرنا فيه بشكل قليل أو كثير، ماديًا أو معنويًا - بإنفاق الأموال والأوقات والجهود والمشاعر- حتى لو اتضحت لنا فكرة استثمار أفضل. وهذا التحيز ليس سوى ثقل يحمل عبء قراراتنا الماضية، ويشدنا إلى الوراء، ويحول دون تقدمنا وازدهارنا.
وفي علم الاقتصاد تعرف التكلفة الغارقة بالتكلفة التي تم إنفاقها في الماضي ولا مجال لاستردادها.
ويجد الخبراء أنه من الحكمة ألا تؤثر على القرارات الحالية، ويؤكدون على أهمية التركيز على المنفعة المستقبلية. ومثلما تنتشر مغالطة التكلفة الغارقة في عالم الاستثمارات، حيث نجدها في أسواق المال، والعقارات، والمشروعات التجارية، حين يقع بعض المستثمرين في فخ التمسك بالأصول ذات الأداء الضعيف، لمجرد أنهم استثمروا فيها الكثير من الأموال والسنوات، فيستمر الشخص في ضخ أموال في أسهم تأخذ طريقها نحو الهبوط، على أمل أن ترتفع مرة أخرى، بدلاً من تحجيم الخسائر والبحث عن فرص أخرى واعدة. أو قد تستمر شركة في تمويل مشروع فاشل بسبب ضخامة الموارد المستخدمة فيه، حتى عندما تلوح علامات بعده عن النجاح؛ يحدث ذلك في كل شيء بدءًا من تطوير المنتجات وحتى الحملات التسويقية. بل وقد يشعر الموظفون والمديرون بالضغط من أجل «إنجاح المشروع» لأن التخلي عنه يعني الاعتراف بارتكاب أخطاء، وربما مواجهة خطر تداعي تقدير الذات، وتقدير الآخرين. وكذلك الحال بالنسبة للحكومات التي تستمر في تمويل مشروعات لم تعد فعالة، بل وتعتبر هدرًا لأموال دافعي الضرائب وتضييع فرص استثمارية أخرى ذات جدوى.
وفي مجال التعليم، قد نرى طالبًا يسجل في مقرر في الجامعة، وبعد أسبوع من الدراسة يكتشف عدم ملاءمته بالنسبة له، ورغم وجود فرصة الانسحاب والالتحاق بمقرر آخر، يفضل الاستمرار فيه، لأنه نجح في تقديم أول تكليف ونال عليه درجات لا يريد أن يخسرها. وقد تتسبب هذه المغالطة بالكثير من الخسائر الفعلية المؤثرة عندما تستثمر مؤسسات تعليمية موارد كبيرة في البرامج والمناهج الدراسية التي يتضح فيما بعد أنها لا تحقق النتائج المرجوة. ومع ذلك، وبسبب الوقت والمال المستثمرين، تتردد في وقف هذه المبادرات أو تعديلها، حتى لو كان ذلك يعوق اعتماد استراتيجيات أو ابتكارات تعليمية أكثر فاعلية وأقدر على خدمة الطلاب. وفي الحياة المهنية نجد أشخاصًا عالقين في وظائف لم تعد تناسبهم ولا تنميهم ولا تتماشى مع أهدافهم واهتماماتهم الحالية. وبسبب الوقت أو الجهد أو التخصص، يترددون في إجراء أي تغيير. فمثلًا، يقاوم المهندس التحول إلى مهنة أحلامه بأن يكون رسامًا، حتى لا يخسر سنوات خبرته، واستثماره في الدراسة لنيل الدرجة العلمية.
ويمكن أن يمتد هذا التحيز إلى علاقاتنا الشخصية، عندما نقرر التمسك بأشخاص نعلم جيدًا أنهم باتوا مصدرًا من مصادر معاناتنا وتعاستنا، حفاظًا على سنوات من الجهد والصبر، وخوفًا من «الخسارة». ونجده في قراراتنا البسيطة كأن لا نتوقف عن تناول الطعام لأننا شبعنا، بل نستمر حتى لا نخسر الباقي في الطبق. ولا سبيل لتجنب هذا النوع من التحيز، دون تحديد أهدافنا بوضوح منذ البداية، وصياغة رؤية واضحة تسهل علينا اختيار المسار المناسب لبلوغ الهدف.
تحيزات أخرى
أشار كتاب كاوشيك «العدسة المنحازة» إلى مئة من التحيزات التي قد تتأثر بها قراراتنا - ولا يزال البحث مستمرًا عن تحيزات جديدة - منها:
- تحيز السلبية، حيث يميل المرء إلى إعطاء وزن أكبر للمعلومات أو الخبرات السلبية، فيتذكر النقد المؤلم ولا يلتفت إلى الإطراء، ويركز على الملاحظة السلبية وسط بحر من التعليقات الإيجابية. ولاستعادة التوازن - وفقًا للكتاب - ينصح بممارسة الامتنان، والتركيز على الجوانب الإيجابية.
- تحيز الثقة المفرطة، وهو الميل على تضخيم القدرات الشخصية أو المعارف، عندما يعتقد الشخص بأنه أمهر من الآخرين، فيضخم دقة توقعاته وسلامة قراراته، بينما يتطلب منه الأمر أن يسعى لاستطلاع آراء الآخرين فيما يتعلق بمستواه الحقيقي.
- تحيز التخطيط المزيف، الذي يميل إلى تقليل حجم الوقت والجهد والمخاطر والتكاليف في التصرفات والأنشطة المستقبلية وتعظيم المنافع. كتوقع انتهاء مهام أو مشروعات - كالواجبات المنزلية، أو مشروعات البناء، أو البرامج الحكومية واسعة النطاق - في وقت قياسي والتقليل من التحديات المتوقعة، بينما يقتضي الأمر جمع معلومات من مشروعات سابقة مماثلة، ووضع تقديرات واقعية للمعوقات والتحديات المحتملة وطلب الاستشارة.
- تحيز الخوف من فوات شيء، يقود إلى قرار البقاء على تواصل بشكل متطرف، فيتابع الشخص حساباته على شبكات التواصل بلا انقطاع ودون وضع حدود.
- تحيز المتأخر الذي يجعلنا نميل إلى تقدير الخبرات والمستويات الأخيرة ونفضلها على السابقة، في الوقت الذي يتطلب فيه الأمر مراجعة أوسع للبيانات في فترات ماضية، والوعي بأثر اقتصار التقديرات المتأخرة على القرار.
- تحيز أثر الإجماع الخاطئ، حيث الميل إلى الاعتقاد بأن الآخرين مجمعون على آرائنا ومعتقداتنا وتفضيلاتنا أكثر مما يفعلون في الحقيقة. وعلاج ذلك في الاهتمام بتنوع الآراء وتقبل الرأي الآخر.
- تحيز مناصرة الجديد الذي يشجع الجديد في مجالات مثل التكنولوجيا أو الجديد من الأفكار أو الأدوات، دون الالتفات إلى سلبياتها، أو عدم ملاءمتها من حيث المضامين الأخلاقية.
صفات نفسية
لنكون أقدر على اتخاذ القرار، ربما علينا التحلي ببعض الصفات النفسية كالتفاؤل، الذي ينطوي على توقع مخرجات طيبة، فيقلل من اتباع استراتيجيات تجنب اتخاذ قرار التغيير. والفضول الذي نلاحق من خلاله الحقائق والتحديات، فننمي شخصياتنا ونعزز قوانا النفسية.
ونستكشف في محاولة لمواجهة الغموض، والمخاطر، والتعامل مع القلق والضغط النفسي، وتقبل التبعات الاجتماعية والمادية، والقانونية لقراراتنا من أجل اكتساب خبرات جديدة. والشجاعة - المادية والمعنوية - التي تعد فضيلة ضمن سلسلة العدل، والإنسانية، والحكمة، والسمو، والصبر، والاستقامة. وتتضمن الاستعداد لمواجهة المخاطر والعمل بجد نحو تحقيق الأهداف والتمسك بالقيم والمبادئ في مواجهة انحرافات وأمراض مجتمعية ■