فخ الأرقام

فخ الأرقام

الأرقام من أعظم مُنغصات الحياة، وأكثرها إثارة للقلق والهم والغم، وتسببًا للمشكلات بين الناس، وربما تُقوّضُ العلاقات الإنسانية، بما فيها الأخوة والرحم والقرابة والجيرة والصداقة والزمالة وغيرها؛ فنحن نعيش ضمن دوامة عملاقة من الأرقام والأعداد مثل: الوزن والطول والعمر، والدخل، وثمن المنزل، وعدد الأسهم، والرصيد البنكي، وعدد أصدقاء مواقع التواصل والمتابعين والمشاهدين والردود والإعجابات، والعلامات المدرسية، والمهور، وغيرها كثير. والمشكلة ليست في الأرقام نفسها، بل في المقارنات التي نجريها بحسن نيّة أو سوئها. يقول مات هيغ في كتابه «كتاب الراحة»: «الأرقام تسبب الإدمان... وعند وجود الأرقام تبدأ المقارنات. نقارن هذه الأرقام بالآخرين، ونقارنها بأنفسنا. وقد نحمل أفضل النوايا للآخرين عند بدئنا بهذه المقارنات لأصدقائنا وأفراد عائلتنا، ولكن الأرقام تجعل قيمتنا محدودة وقابلة للقياس، ونخسر إحساسنا بالأبدية وبالحياة، وحيث توجد الأرقام، توجد القياسات. والقياسات تجعلنا كائنات محدودة، لأنها تسرق منا منظورنا الأبدي للأشياء».
الأرقام وحدها، لا معنى لها، فهي أشياء مجردة، ونحن لا نعيش في عالم رقمي تجريدي، بل عالم غني بتنوعه وتداخله وتشابكه، والأرقام المتساوية عند اثنين لا يمكن أن تكون متساوية في الحقيقة؛ فإذا تساوى دخل اثنين مثلًا، هذا لا يعني أنهما يعيشان في المستوى نفسه، فثمة عوامل كثيرة مؤثرة، قد تجعل صاحب الدخل الأقل أفضل عيشًا من صاحب الدخل الأعلى، فالمرض مؤثر وكذلك عدد الأفراد، والمستوى الاجتماعي، والمسؤوليات، وغيرها، مما لا يمكن حصره والتحكم به.
الأرقام مخادعة، ولذا ينبغي ألا تعمي أبصارنا عن الحقائق، فهي لا معنى لها دون أن ترتبط بشبكة من الأرقام والعوامل فتتحول من بيانات إلى معلومات يمكن الركون إليها. ويجب أن ندرك أن جمال الكون في الاختلاف، والاختلاف شرط للعلاقات والارتباطات الإنسانية وغيرها، والإنسان المتميز لا ينجذب إلى الشبيه بل إلى المختلف؛ لأن فيه جديدًا تتوق نفسه إليه، وقد وضع الخالق سبحانه فينا خاصية الاختلاف، لندرك حقيقة أننا نختلف عن بعضنا، ولذا؛ من الحكمة أن نتقبل برضا اختلاف أرزاقنا وأموالنا وذرياتنا وكل ما يتعلق بنا عن غيرنا، فالاختلاف سنة كونية، ومحرك قوي للعمل والإنجاز وتحدي الصعاب، كما أن النفس البشرية تسعى للاختلاف والتميز، ولا تقبل أن تكون كغيرها مهما كان مستوى الآخر من حيث الرقي والغنى والجاه والقوة.
الأرقام فخ، وقد تكون حجابًا - إذا ارتبطت بالمقارنات والنظر إلى ما عند الآخرين - يعمينا أن نرى جمال ما نملك، ويحرمنا من الشعور بقيمته والتمتع به، بل ويحولنا إلى أدوات للتحاسد والتباغض والتنافس غير الشريف، والوقاية من كل ذلك؛ الرضا والقناعة والإيمان والتسليم، مع عدم ترك الأخذ بالأسباب، والسعي نحو الأفضل والأجمل بقلب سليم ويد نظيفة ونفس عفيفة ■