أفق التخييل في رواية «حرب الآخرين»

أفق التخييل في رواية «حرب الآخرين»

صدرت رواية «حرب الآخرين» للكاتب المغربي عبدالحميد الهوتة عن دار النشر «أبعاد متوسطية» بطنجة، وجدير بالذكر أن هذا النص الروائي طرح أسئلة تعنى بمناحي المعرفة وإشكالاتها النظرية والمنهجية، ومن نافلة القول إن «حرب الآخرين» تجربة، استلهمت بواطن الأحداث التاريخية لجدل تفاصيلها وحبك فصول قصتها.

 

ولعل هذا الاستلهام المبني للمعلوم يمضي وفق جدولة زمنية غير مرهونة، كما يستجيب لذلك النداء الباطني، الذي يعكسه النفس السردي للوقائع المفترضة التي صيغت بأسلوب أقرب ما يكون إلى المرويات التاريخية المستعادة حكائيًا، منه إلى الأحداث وتواترها في النص المرشح للقراءة (حوالي 368 ص من الحجم المتوسط)، المؤشر عليه من قبل الخطاب الروائي ذاته، بحيث نجد أنفسنا وجهًا لوجه مع عامل موضوعي، يحكم في نظرنا سير عملية الكتابة والتأليف، نعني به إعمال وتسخير الجهد في البحث والتقصي والاستقصاء، سعيًا وراء الحصول على إفادات من وحي التاريخ، إذ من خلالها ينهض مشروع الكتابة السردية، الذي يرسم لنفسه خطة عمل أو برنامجًا يستجيب في جزء كبير من خطاطته إلى رؤيا الكاتب ونظرته إلى العالم، وفق سردية يلعب فيها عنصر التخييل دورًا طليعيًا، تتماشى ومستوى الوعيين الثقافي والاجتماعي، اللذين تنتظم بمقتضاهما قراءة العمل وإخضاعه لأنماط من التأويل وإعادة بناء معماريته معنى ومبنى.
إلى جانب هذا يطالعنا العامل الذاتي، وهو بالمناسبة أكثر تعقيدًا وإبهامًا في الآن الواحد، آية ذلك أنه (العامل الذاتي) يعكس تلك الروح الداخلية للكاتب، وكذلك تلك الرؤية الماورائية التي تحجب وتعمل في الوقت نفسه على محاولة إضفاء عنصرالواقعية على مجمل تفاصيل القصة التي يعكسها الخطاب الروائي عينه. هذه العناصر وسواها تعتمل داخل ذات الكاتب المفترض، من غير أن تنكشف بوضوح لدى من يقبل على ملاحقة وتتبع صداها العميق في الذات، ومحاولة سبر أغوارها النفسية، وصلتها باللاشعور وبالصور الرمزية الموغلة في الذاكرة والسجل الاجتماعي للأفراد والجماعات، أنى كانوا وأينما كانوا. من هنا تتبدى صعوبة الفرز ما بين الموضوعي والذاتي في حياة نص مبدع، روائيًا كان أم قصصيًا أم شعريًا، فالعناصر البنائية للنص المبدع تخضع لقوانين اللغة باعتبارها مؤسسة رمزية وحتى اجتماعية بتعبير «فيرديناند دي سوسور»، صاحب مؤلف «دروس في اللسانيات العامة».

عتبة العنوان «حرب الآخرين» 
يشكل عنوان «حرب الآخرين»، الذي وسم به هذا العمل السردي عتبة ذات أولوية مركزية بالنسبة لبقية العتبات النصية الأخرى التي يحبل بها النص الروائي داخليًا وخارجيًا بالنسبة للوظائف الاجتماعية والثقافية والأيديولوجية وغيرها من الوظائف الأخرى. 
«حرب الآخرين»، بصفته عنوانًا أو بالأحرى علامة كبرى تتخذ لنفسها موقعًا متقدمًا قياسًا مع ما يعرضه النص الروائي من سرود وهي بذلك (العلامة) تؤشر على كثافة المعنى وقوة الجذب اللتين تثيران القارئ، خاصة وأن العنوان ورد في صيغة، تشي بإسناد الحرب للآخر دون تحديد أو تعيين لهذا الآخر الذي يظل مبهمًا، بل يرتسم دلالة أيديولوجية، ذات ألوان وظلال، تستدعي الاستبيان وتتبع حركته داخل النص. في هذا الإطار يجمل بنا القول بأن العنوان يؤطر إلى حد ما العمل موضوع الدراسة والبحث مهما كانت طبيعة جنسه الأدبي، كما أنه يتيح للقارئ إمكانات التأويل والذهاب بعيدًا فيما يخص تحصيل المعنى. قد يكون في بعض الأحيان إن لم نقل في غالبها اختيار العنوان مأزق بالنسبة للكاتب لما يطرحه من أسئلة مربكة، تعني باختيار الصوغ المناسب، الذي يعكس محتوى الكتاب وجوهر القصة التي يعرض لها. 
من هنا فإن «حرب الآخرين» بصفتها عنوانًا، يستميل القارئ، ويمارس عليه نوعًا من الغواية، تشرع في رسم رحلة التلقي التي يمليها خطاب النص السردي بتمظهراته التعبيرية والأسلوبية واللغوية، فضلاً عن هذا فإن دلالة العنوان تعكس إلى حد ما «براءة» الأسئلة السيكولوجية التي يحملها الكاتب في جرابه، تحسبًا للحظة المناسبة التي تتيح له إمكانية مواجهة صورة الآخر، باعتبارها زمنًا ماديًا، ينتصر للقوة الغالبة بتعبير ابن خلدون، وحاضرًا معنويًا بالتحديد السيكولوجي الذي تعكسه مستويات التعبير في النص الروائي. وفق هذه المعادلة يجد القارئ نفسه «قاب قوسين أو أدنى» من الوقوع في أفخاخ القراءة الأفقية والتأويل القائم على دعامات معرفية وثقافية، تستأثر باهتمام القارئ، وتحملته على الانخراط في عملية تأويل النصوص الأدبية.
لعل استهلال «حرب الآخرين» بتقديم يلخص مجمل الأحداث التي نسجت خيوطها الأيام، تحمل على التفكير في الإطار الذي يحكم سير عملية القراءة للنص ويعمل على توجيه المتلقي نحو غايات تعبيرية وأيديولوجية واجتماعية ونفسية، تقوم مقام المعادل الموضوعي لدى المتلقي، وذلك بهدف ضبط مستوى الانفعالات التي تخلفها الأحداث التاريخية وكذا الوقائع التي علقت بمخيلة السارد. «إبراهيم ابن أحمد، بطل هذه الرواية التاريخية، الجندي المنخرط تحت اسم محمد بن أحمد رقم 10853 بتاريخ 26 ديسمبر 1936م في الجيش النظامي الأهلي (الريكولاريس) التابع للجيش الفرنكاوي... دأب الجندي المتقاعد على أن يحكي لأبنائه منذ نعومة أظافرهم الأحداث الغريبة والمهولة التي عاشها هناك بإسبانيا إبان الحرب، في تلك الفترة التي كانت البلاد ترزح تحت وطأة الاستعمار الإسباني والفرنسي. كبر الأبناء وكبرت معهم حكايات الحرب، بل أصبحت جزءًا لا يتجزأ من وعيهم بذواتهم وبالآخر الغربي». (حرب الآخرين (ص 7/8).
تستعرض «حرب الآخرين» فصول قصتها، وفق تيبولوجية الشخوص التي تشغل الفضاء الروائي وتملأ أحيازه الزمنية بتسخيرها تعيينات معجمية وأسلوبية يؤشر عليها الخطاب الروائي الذي يجدد طاقاته التعبيرية واللسانية والبلاغية لنمذجة الأحداث حسب مواقيت معلومة، تمثل الإطار الأنسب لتصريفها، في أفق تنضيدها وعرضها على المتلقي ومحاولة توهيمه بتاريخية وقوعها في مرجع مادي محتمل، تتصادى عنده المكونات الروائية، ونعني بها الشخوص والزمن والمكان وتفاصيل القصة.
يقول السارد: «كنا أنا وإبراهيم نسكن في الحي نفسه، خارج المدينة على الطريق الرئيسية بين مدينتي العرائش والرباط. حي شعبي تحيط به من كل جانب حقول الحبوب والشمندر وعباد الشمس وبساتين الليمون والبرتقال والبرقوق والسفرجل...» (حرب الآخرين (ص16). للوهلة الأولى، يتبادر إلى الذهن أن هذا المقطع يرد في سياق بناء متوالية سردية كبرى بطلها أحمد، الشخصية المحورية في «حرب الآخرين»، وما إتيان الرواية على ذكر أسماء مدن وقرى بعينها إلا دليل آخر على محاولة إقناعنا بواقعية أحداثها، علما بأن النص الروائي واقع متخيل، يكتسب واقعيته من مرجعها القصصي، أي المعنى لا غير. 
يمضي البناء الحكائي الذي يؤثث استطالاته الأفقية والعمودية وفق تراكب الأحداث، سواء تلك التي وقعت هنا أو هناك (المغرب أو إسبانيا)، مؤطرة بمرجعية، تاريخية/ أيديولوجية مزعومة، تجد صداها في المتن الروائي، الذي يعكس بشخوصه وأحداثه أنماطًا عليا من القيم الفنية والجمالية، التي تتخطى الواقع بأخيلتها وبرموزها وصورها التي يسعى الخطاب الروائي إلى الإحالة عليها بالتلميح والترميز وليس بالتعيين. غني عن البيان أن مجمل العلائق التي تحكم الشخوص الرئيسة والثانوية علائق موزعة على المساحة التي يستغرقها المتن الحكائي، استجابة لمستوى الوعي وطبيعته الاجتماعية والفكرية والسياسية لدى هاته الشخصية أو تلك. 
ترسم «حرب الآخرين» لنفسها منحنى تصاعديًا، تقطع من خلاله الأحداث والوقائع تلك المسافة التعبيرية اللازمة لتسويغ وبناء متخيلها وأزمنتها، المتصلة بعوالمها التخييلية والرمزية، آية ذلك أن المتن الروائي يسعى منذ البداية إلى التمهيد للأحداث الرئيسة التي شهدت وقائعها مناطق كثيرة بالضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط. يقول السارد: «رجع أحمد إلى مدينة القصر الكبير. قضى الليلة كعادته عند خالته فاطنة بحي سيدي بلعباس. استيقظ باكرًا. ارتدى ثيابه الجديدة وتوجه إلى الثكنة العسكرية في الجهة الأخرى للمدينة» (حرب الآخرين (ص 74-75). يحضر المكان في النص الروائي باعتباره مكونًا بنائيًا إلى جانب مكونات أخرى مثل الشخصية والحدث والزمن، من هنا فالأمكنة في «حرب الآخرين» (القصر الكبير – حي سيدي بلعباس – الثكنة العسكرية، إلخ) تأخذ دلالتها في الخطاب الروائي من خلال المؤشرات والتحديدات التي يحفل بها الفضاء الروائي. مما يفسر أن وجود هذه الأمكنة وجود مفترض، تعكسه أجواء الرواية بتجلياتها الأسلوبية واللغوية والتعبيرية. 
يقول السارد في «حرب الآخرين»: «غادر أحمد وزوجته عالية القرية في اتجاه مدينة القصر الكبير... رافقتهما منانة إلى مخرج القرية، وهي تنثرهما بوابل من الدعوات الصالحات. تكفل خاله بوشتى بجمع متاع الزوجين على ظهر بغل، بينما امتطت عالية بغلاً آخر. سمح جنود النقطة الحدودية عرباوة لبوشتى بمرافقة العريسين إلى مدينة القصر الكبير» (الرواية، ص90). 
تخضع الأمكنة في «حرب الآخرين» للعبة السرد الروائي، الذي ينهض على قواعد الاسترجاع (استرجاع الأحداث) والتعيين بالعودة إلى الذاكرة الجماعية باعتبارها خزانًا لحفظ الذكريات، ورسم الخطوط العريضة للأحداث التي وقعت في الزمن الماضي، واستحالت مع مرور الأيام صورًا وإيحاءات مكثفة، لذلك فإن التعبير عن الأمكنة في النص الروائي، حتى لو كانت هناك مؤشرات دالة على مرجعيتها لا يتم إلا من خلال اللغة ومن خلال الصور التي تزخر بها الذاكرة كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
نقرأ في «ص99» من «حرب الآخرين»: «... في مدينة ماربيا بعيدًا عن نقطة الحراسة، كان أحمد يقضي أوقات راحته إما بالمقهى العسكري أو في التجول داخل المدينة. كان يلتقي بالمقهى بثلة من الأصدقاء، يلعبون الورق ويتجاذبون أطراف الحديث عن الحياة عموما وأخبار الحرب...». 

أفق التخييل في «حرب الآخرين» 
تمضي «حرب الآخرين» في سرديتها، معتمدة الخطاب التاريخي/السيري لحل مشكلاتها السردية والتخييلية في أفق بناء وعيها بالزمان التاريخي حتى تستقل بخصوصيتها ورسم معالم هويتها. ديدنها في ذلك ديدن جل الروايات العربية التي لا تزيغ في نصيتها عن هذا المنحى الإشكالي، المتصل بالخصوصية الثقافية والأدبية. 
لعل انتقال السارد في واقعيته المزعومة من القصر الكبير في المغرب إلى «ماربيا» في إسبانيا انتقال تنسج خيوطه لعبة السرد حسب التشكيلات اللغوية والأسلوبية واللسانية، الأمر الذي يمنح الصوغ القصصي في الرواية ذلك الدثار الفريد، المتمثل في منطق الترابط العلائقي بين مختلف مكونات السرد الروائي، المتصادية مع المسارات الحكائية. من هنا فإننا نجد «حرب الآخرين» تجنح إلى تشييد معمارها التخييلي الذي ينهض معادلاً غير موضوعي لما هو واقعي، آية ذلك أن جاذبية الانزياح عما هو متصل بتجليات الحياة اليومية وراءها بالطبع منزع الإنسان نحو تجاوز الواقعي وعدم الاكتفاء به. لذلك فإن الرواية بشكل عام منتوج متخيل، دعامته الأساس التعبير بوساطة اللغة وباللغة عن استيهامات الشخصية وتوليد لحظات قوية، ترقى في أفقها التعبيري إلى المستوى الدرامي، الذي يأسر المتلقي فيحمله على إعادة ترتيب وتشكيل واقع الرواية، مستحضرًا بكيفية أو أخرى ثنائيتي الواقعي/التخييلي والحاضر/الغائب، اللتين تنتصبان علامتين على المعلن والمسكوت عنه في النصوص السردية. أليست الرواية تنظيرًا لواقع اجتماعي ملموس؟ نعم إنها كذلك، بل هي آلية للتأثير في الواقع المادي وتعديل مستوياته إن قليلاً أو كثيرًا، باعتباره جنسًا أدبيًا يوجد قيد التشكل، وفي طريقه إلى البحث عن نصيته.
يطالعنا السارد في «حرب الآخرين» بمقطع سردي، يعرض فيه للأمكنة وسطوتها في المحكي الروائي «استقل جنود الطابور الثالث القطار للانتقال إلى قرية تجاور «مالقة» حيث قضوا ليلتهم. وفي الصباح امتطوا قطارًا آخر حملهم إلى موقع أبعد. في الطريق توقف القطار بغتة في مكان مقفر على أرض رملية» (الرواية، ص121).
يبدو جليًا أن الأمكنة تحضر في النص الروائي، لتسير في اتجاه تنظيم الرؤيا السردية اجتماعيًا وأيديولوجيًا وأخلاقيًا. هكذا فإن مبدأ تنظيم العمل الروائي يستند إلى خصائص الجنس الروائي نفسه، بحيث يرد عنصر التشخيص ضمن متوالية العبور من الضفة الجنوبية إلى الضفة الشمالية، استعدادًا للحرب ضد «عدو» محتمل، يسكن خيال الكاتب وخيال الشخوص الروائية على حد سواء. إنما السبيل إلى المواجهة الميدانية وربح الحرب أو خسرانها تتحكم فيهما - حتمًا - طبيعة الجغرافية والتعبئة البشرية والتنظيم المحكم والعقيدة القتالية وسوى ذلك من العوامل الداخلية والخارجية. إن سبر أغوار الأمكنة والفضاءات تجد صداها في الذكريات الخاصة والارتباطات الاجتماعية والنفسية لدى الشخوص التي تتناوب سردية الأحداث على نقل الأجواء المحيطة بها، واستجلاء ما استغلق من سيمات دلالية، مؤشرة على وجودها الرمزي في مجمل البنية الحكائية.
نقرأ في (ص 229) من «حرب الآخرين»: «وصلا إلى قرطبة وقضيا الليلة في بيت «ماريا كارمن». استيقظ أحمد باكرًا وتوجه إلى الثكنة العسكرية. حالة استنفار قصوى بين الجنود. استفسر عن الأمر. أخبره أصدقاؤه أن لذلك علاقة بتطور الحرب على جبهات القتال...».
السارد الرئيسي (أحمد) يحكم قبضته على مجمل الأحداث التي تنتظم فيما بينها بموجب عاملية سردية، إذ نجد المحكي الروائي في «حرب الآخرين» يعمل جاهدًا لتشكيل وحدة عضوية موضوعاتية، ترمي إلى صوغ الأحداث وبناء الشخوص بشكل يسمح بالاستنتاج بأن الرواية ترتب وقائع برنامجها السردي وفق منطقها اللغوي، الذي يشتغل على التاريخ والذاكرة المفترضين ■