عندما تكون الكتابة تكريمًا قراءة في مذكرات «تسعة أشهر»
لطالما كانت آلام المرض دافعًا للكتابة والإبداع، حيث وجد عدد من المبدعين في الكتابة متنفسًا للخروج من هذه المحنة وتوثيق ما عانوه من لحظات عصيبة؛ ذلك أن المعاناة طاقة محركة للإبداع على حد تعبير نيتشه Nietzsche. لا يقتصر الأمر هنا على سرد معاناة الذات الساردة فحسب، بل قد تكون هذه المعاناة ناتجة كذلك عن مشاركة آلام المقربين، فتكون الكتابة بذلك توثيقًا وتكريمًا ووفاءً كما هي الحال في مذكرات (تسعة أشهر) Neuf mois لفيليب غارنييه Philippe Garnier الصادرة سنة 2024م، والتي تكشف عن صورة رصينة بقدر ما هي مفجعة لزوجة أخذها المرض بعيدًا... تسعة أشهر ليس كتابًا عن الحداد بقدر ما هو تكريم المؤلف للمرأة التي كانت امرأة حياته.
ولد الكاتب والمترجم فيليب غارنييه سنة 1949م في لوهافر الفرنسية، وانتقل للعيش في الولايات المتحدة الأمريكية منذ سنة 1981م، حيث عمل مراسلاً في صحيفة ليبراسيون Libération. اشتهر بترجماته لكتابات جون فانتي John Fante، وتشارلز بوكوفسكي Charles Bukowski، وجيمس سالتر James Salter، وجون بيكر John Baker... كما ألف العديد من الأعمال عن الموسيقى والسينما، ومن أبرزها: «ديفيد جوديس David Goodis: الحياة بالأبيض والأسود» (1998م)، و«طبائع: أضواء أقل في هوليوود» (2006م).
قد يتبادر للوهلة الأولى أن عنوان الكتاب (تسعة أشهر) يحيل على فترة الحمل، وعلى انتظار حدث سعيد متمثل في الولادة، غير أن المؤلف اختار هذا العنوان ليؤطر زمنيًا حدثًا مفجعًا، إنها الفترة الزمنية الفاصلة بين تشخيص إصابة إليزابيث ستروم Elizabeth Stromme زوجة المؤلف بالسرطان وتاريخ وفاتها في كاليفورنيا في خريف 2006م عن عمر 59 عامًا. لقد انقضت أكثر من 15 عامًا على هذا الحدث المفجع، وحان الوقت ليوثق زوجها فيليب غارنييه لحظات الوداع في شكل مذكرات... للعودة إلى هذه الصدمة، ولتقبل هذا الاختفاء، وإعادة تشييد قبر رائع للمرأة التي أحبها والتي كانت موضع إعجاب كبير.
يروي فيليب غارنييه في تسعة أشهر أحداث الأسابيع الأخيرة التي قضتها زوجته إليزابيث، بعد إصابتها بورم خبيث في المعدة، لقد انتظر المؤلف كل هذه المدة الطويلة حتى يجرؤ على الحفر في هذه الندبة العميقة واتخاذ قرار بشأن هذا الكتاب، الذي يعده تكريمًا وتخليدًا لروح زوجته. يقول غارنييه في مقدمة كتابه: «أنا لا أكتب هذا الكتاب لأعوضها، ولا لإعادتها إلى الحياة، بل تكريمًا للمرأة التي اعتقدت دائمًا أنني أعرف كل شيء عنها، والتي فاجأتني حتى النهاية».
يتكون الكتاب من جزأين، عُنون الأول بـ«الموت المضحك»، والثاني بـ«الحياة المضحكة».
الموت المضحك
يعد المنزل المعار من أحد الأصدقاء مسرح الجزء الأول من الكتاب؛ منزل يقع وسط غابة من الأشجار الحمراء في بلدة غيرنفيل Guerneville في مكان ما بين البحيرات والغابات في مقاطعة سونوما شمال كاليفورنيا بالقرب من مدينة سان فرانسيسكو؛ هذا هو المكان الذي تعيش فيه ليز (كما يحبذ المؤلف أن يسمي المؤلف زوجته) لحظاتها الأخيرة، تحت أعين فيليب الساهرة التي توثق بدقة وقائع الأيام الأخيرة. يصف المؤلف المنزل بأنه مبني من الخشب حيث يعود بناؤه إلى سبعينيات القرن الماضي، «إنه بيت لقضاء العطلات، كل شيء فيه باللون الرمادي. يعد التلفاز جهازًا مستعملاً، مثل الأثاث غير المتناسق. نستقبل فقط القناة العامة، التي تعرض نتائج الانتخابات الرئاسية بشكل متكرر... وحتى لو كانت بيئة الغابة تساعد على الهدوء، فإن هذا المنزل ليس أقل شرًا وكآبة».
لقد غادر الزوجان لوس أنجلوس، حيث كانا يعيشان حياتهما العادية، ليحطا الرحال أخيرًا في هذا المنزل «للحفاظ على الوضع والسيطرة، وعلى سلامة إليزابيث الجسدية... هذا ما جئنا للقيام به في هذه الغابة، حيث لا مجال للزيارات والاحتفالات». لقد تم التخطيط لكل هذه الأمور بدقة، غير أن إليزابيث قررت بعد أسابيع من تلقي العلاجات رفض الرعاية غير الضرورية، لقد كانت أمنيتها أن تكون المغادرة بين عيد الشكر واحتفالات نهاية السنة. لم تتقبل إليزابيث لمواجهة هذا الجسد الذي ينزلق تدريجيًا بعيدًا عن الحياة سوى مُسَكِّن المورفين ودعم زوجها. وما صاحب ذلك من تأمل وقراءة وإشعال للحطب حيث الانبهار بشتاء كاليفورنيا، ومتابعة الغسق في الطبيعية النابضة بالحياة. هكذا يستعيد فيليب غارنييه الحياة اليومية وإيماءات هذا الوقت المعلق بشكل غريب: الترتيب الأساسي للوسائد، والجلوس في الشرفة في الفترات المشمسة، والقراءة اليومية لصحيفة نيويورك تايمز... ولكن ليس من السهل أن تموت، حتى عندما تقرر ذلك، وأن تعيش حالة حداد قبل آوانها.
تصر إليزابيث على أن تكون الوسائد - التي من المفترض أن تمنع حدوث التقرحات - مرتبة بشكل منتظم ومثالي، لأنها ترغب أن تودع في حالة جسدية (كريمة)، تقول: «يجب علينا أن نحافظ على الجسد بأي ثمن، حتى يبدو سليمًا قدر الإمكان... هذه المرأة رفضت التعديلات الخطيرة للغاية، لكي تشعر، ربما، بالبقاء تحت السيطرة، وعدم التعرض للتبعية، والعجز، والموت قبل الموت». يصف غارنييه حالة إليزابيث مع بداية الشهر التاسع، بعد أن توقفت عن العلاج منذ ثمانية أشهر، لقد رفضت جميع علاجات الملاذ الأخير، تلك التي يتم تقديمها من منطلق التعاطف ولإطالة بضع الأيام لا غير.
يشير الكاتب إلى أن شركة التأمين - التي يوجد مقرها الرئيس في مونتريال - أرسلت منذ بداية التشخيص كرسيًا متحركًا، وسريرًا طبيًا، وقنينة أكسجين. وبعد مرور أسبوعين فقط، لم يعد رجال التوصيل يقرعون الجرس، لقد أصبحوا يتركون المورفين بالمقربة من الباب، مثل زجاجات الحليب في الأيام الخوالي، غير أن قرار إليزابيث بالتوقف عن العلاج ربما قد أسعد الشركة بالإفلات من مصاريف العلاج الكيميائي والمتابعة أو الأدوية المكلفة. يقول: «إذا نظرنا من مسافة بعيدة، وبعين موضوعية، يمكننا أن نقول لأنفسنا إنه في الواقع، مازلنا نتحمل علاجات مؤلمة بينما نحن في المرحلة النهائية، فهذا ليس منطقيًا، ونفهم أن البعض يختار التوقف عن تحمل الألم وعدم مجابهته. أخبرتني دائمًا أن بضع ساعات كانت ضرورية، لأنه في يوم واحد، يمكننا إنجاز أشياء مهمة جدًا، مثل الزواج، وكتابة وصيته، ولم شمل العائلة، والتعبير عن الرغبات النهائية... لذلك لا ينبغي إهمال هذه اللحظات، بل على العكس، يجب أن نحترم هذه الرغبة في البقاء بأي ثمن. إنه من الصعب جدًا أن يرى المرء بوضوح مثل هذه القرارات في قرارة نفسه، لذا فإن البدء في الحكم على الآخرين في مثل هذه الاختيارات الحميمة لن يكون أمرًا غير أخلاقي فحسب، بل غير لائق أيضًا».
يؤكد غارنييه أنه طيلة هذه الفترة لم يكن قد كتب أي سطر: «لقد اتفقنا منذ البداية على ألا تكون هناك صحيفة أو أي شيء آخر. لا نريد أن نشاهد أنفسنا على الهواء مباشرة، بسبب القليل الذي بقي لدينا». إنها لحظة الحياة أولًا، حيث سلطة الموت تعزز الواقع، مضيفًا: «إن تحريك كرسي الاستلقاء لعشرات المرات يوميًا على الشرفة لم يعد يعني أي شيء آخر غير قول (أنا أحبك)». إن رؤية هذا الوحش الذي ينخر كل مساحة من هذا الجسد، لا يمنع السارد من الشعور «بالابتهاج الغريب ليشعر بأنهما، وعلى الرغم من كل ذلك، مازالا معًا على قيد الحياة».
الحياة المضحكة
يخصص الكاتب في الجزء الثاني الذي يحمل عنوان «الحياة المضحكة»، لسرد أحداث ما قبل اكتشاف الورم؛ حيث استرجاع ذكريات الماضي لعرض تفاصيل اللقاء الأول، وقصة حب طويلة بدأت في العشرينيات من العمر، عندما عاد غارنييه من إقامته الأولى في الولايات المتحدة، حيث قضى بعد ذلك معظم حياته مع إليزابيث... حياة جمعت بين كاتبين مغتربين عاشا حياة مفعمة بالأحاسيس الصادقة واللحظات السعيدة والمضحكة أحيانًا.
لقد رسم لنا الكاتب في هذا الجزء صورة إليزابيث بشكل دقيق حيث لا تثير الكلمات الكثير من الضجة، ولكنها تنحت صورة امرأة فريدة؛ قصة إليزابيث، الهِيبِّيَّةُ التي تجاوز سن الخمسين، والتي، مثل فريتز زورن Fritz Zorn في سيرته الذاتية (مارس)، أدارت ظهرها لشبابها الذهبي، «كارثية لطيفة» تسمح لنفسها بأن تُحمل «مثل الأخشاب التي تطفو على الشاطئ». وهنا يتوقف غارنييه عند الصدمة التي تعرضت لها زوجته إثر وفاة والدتها بعد عذاب بطيء، بعد أن حاولت جاهدة القيام بكل ما في وسعها لتخفيف آلام أمها، ربما هذا ما يفسر - حسب غارنييه - أن إليزابيث «قررت مواجهة الموت بعينين مفتوحتين، لقد قبلت المورفين فقط، وبأقل الجرعات الممكنة».
تتشكل في هذا الجزء صورة متكاملة لإليزابيث: صورة امرأة منفصلة، ذات صرامة أخلاقية واستثنائية، وبالنسبة للبعض «غير مريحة» أو «مملة تمامًا»، والتي كسرت امتيازات محيطها الأصلي من خلال افتراض نوع من الحرية الصحيحة، والتي تم تحديدها حتى في اختيار وفاتها. «لقد نقلت كل شيء تقريبًا، وعبرت أفغانستان بالحافلة، وقامت برحلة غير متوقعة بالطائرة بسبب الحرب بين الهند وباكستان، كانت تنام على الشواطئ، وصاحبت ألمانيًا كان يتاجر بالهيروين، وكانت قد تركته في أحد السجون التركية... لم تخبرني بكل شيء في رسائلها». ومع ذلك، كان هذا الجانب الأصلي مخفيًا في كثير من الأحيان تحت جمود أخلاقي لا هوادة فيه. كانت على سبيل المثال متشددة فيما يتعلق بالمساواة بين الجنسين، وكانت صارمة للغاية فيما يتعلق بمسائل الصدق. ولأن إليزابيث كانت امرأة فريدة تمامًا اعتبرها بعض الأصدقاء جامدة ومملة، وكانت قبل كل شيء أصلية للغاية، خيالية، شجاعة، ولا تخشى الكثير، منفتحة دائمًا على الغرباء الذين يسكنون كاليفورنيا، مليئة بالمواهب المتعددة، مفعمة بالحيوية، تعيش كما يحلو لها. كانت روائية وصحفية مشهورة، ومصممة موهوبة، وعالمة نبات ذات خبرة، فقد «كانت فكرتها عن البستنة متشددة واستفزازية وغير عملية إلى حد كبير. ومع ذلك، فقد مارستها لمدة ثلاثين عامًا تقريبًا. لقد أنشأت حديقتها من الصفر خلف المنزل المطل على غروب الشمس، وأمضت المزيد من الوقت في مراقبتها... ملاحظات ورسومات وتقاويم مخصصة، ساعات وأيام كاملة، طبيعة تأملية أذكت ممارستها في الرسم».
يشير الكاتب في الصفحات الأخيرة إلى أن ليز لم تكن تريد أي شيء آخر غير هذه الصراحة. وهي التي أرسلت مخطوطتها إلى الناشر قبل أيام من وفاتها، حيث ختمتها برسالة تصلح لتكون وصية: «بالمناسبة، أنا أموت. آمل ألا يؤثر هذا على قرارك. ألا يعتبر الموت تكتيكًا مهنيًا جيدًا؟».
«تسعة أشهر» كتاب، من حيث المبدأ، لن يجذب الكثير من المتحمسين، إنه كتاب نود أن نتجنبه، كتاب نخاف منه، لأنه سيغرقنا، مع مؤلفه، في دراما إنسانية نفضل عمومًا البقاء على مسافة. ومع ذلك، فإن هذه المذكرات تكشف عن إشراقات مليئة بمشاعر الحب والأمل والتعاطف والإخلاص حيث رغبة الزوجين في البقاء معًا حتى النهاية. يكشف لنا هذا العمل عن الكتابة الرائعة لمؤلف لم يستسلم أبدًا للشكاوى أو الاندفاعات أو حتى إضفاء الأسطورة على شخصية زوجته. نحن نفهم جيدًا أنه يريد أن يظل «على مستوى التحدي»، وجديرًا بها، ولهذا السبب يكتب بالمشرط، دون أن يخفي شيئًا من تعبه أو انزعاجه مقدمًا صورة مؤثرة للشخص الذي رافق جزءًا كبيرًا من حياته، للشخص الذي أحبه، مستحضرًا لحظات الفرحة والمعاناة التي عاشوها معًا، إنه عبور جيد لما يعيشه الرفيق في تلك اللحظات العصيبة ■