قراءة نقدية في مجموعة "صراع" حامد أبوأحمد

للقاص صلاح عبدالسيد

صدرت هذه المجموعة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ضمن سلسلة "قصص عربية" عام 1988، وتضم إحدى وعشرين قصة قصيرة، نشرت كلها من قبل، ما عدا قصتين، في الصحف والمجلات المصرية والعربية طوال عقد الثمانينيات، وإن كانت هناك ثلاث قصص تعود لعقد السبعينيات وهي "الأنين" (1978) و "أغنية حزينة" و"بصقة" (1979).

وهذه هي المجموعة الثالثة للقاص صلاح عبدالسيد، فقد سبقتها مجموعتا "الجثة" (1981)، و"غربة" (1986)، فضلا عن إبداعاته في مجال المسرح حيث نشرت له مسرحية "العرائس"، ومجموعة من المسرحيات القصيرة تحت عنوان "الأرشيفجي ومسرحيات أخرى".

وإذا كان صلاح عبد السيد قد تميز برؤيته الواقعية في مجموعتيه السابقتين فإنه في هذه المجموعة الأخيرة حاول أن يزاوج بين اتجاهات شتى، وأن يجرب أنواعا متباينة من التقنيات كان لها دور كبير في إثراء تجربته القصصية ومنحها أبعادا مدهشة سواء على المستوى الإنساني أو على المستوى الفني. وبالرغم من هذه المزاوجة، ومن تنوع التقنيات المستخدمة ظلت الواقعية هي الأرضية الممهدة التي بنيت عليها كل قصص المجموعة وإذا أضفنا إلى ذلك النجاح الذي أصابه الكاتب في استخدامه للغة، وتنويعه بين مستويات القص، وانتقاله من مستوى إلى آخر في خفة ورشاقة واتساق لأدركنا أحقية هذه المجموعة في أن تحسب ضمن أهم الإنتاج العربي في مجال القصة القصيرة.

اختيار اللقطة

ولعل أهم ما يتميز به صلاح عبد السيد هو اختياره اللقطة الموحية المعبرة عن موقف إنساني، ففي قصة "العبور إلى الناحيتين" (ص 71) يلتقط الكاتب عادة بريئة لأطفال الريف من أبناء الفقراء عندما لا يجد الواحد منهم ما يتلهى به إلا حجرا صغيرا يدفعه أمامه وكأنه يلعب بكرة. ولنقرأ السطور الأولى من لقصة، تقول: "لم أستطع التخلص من تلك العادة التي لازمتني منذ الصغر.. كنت ما إن أخرج من البيت حتى أدفع أمامي قطعة من الطوب.. أضربها بحذائي وأظل أضربها حتى أصل بها إلى المدرسة.. وعند العودة أبحث عن قطعة أخرى لأظل أضربها حتى أعود بها إلى البيت". وهذه العادة سوف تتطور مع الطفل حتى يخص نفسه بقطعة من الطوب لا يغيرها، وهذا التطور ينقل القارئ من المستوى العادي البسيط إلى مستوى شاعري إنساني خاصة عندما يمتد تيار من الألفة والحب فيجمع بين هذا الطفل الصغير البريء وبين قطعة الطوب، لدرجة أنه يقول عنها: "كانت قطعة غريبة ليست ككل قطع الطوب.. كانت تشبه زهرة مغمضة العينين على وشك أن تتفتح.. ولم تكن ثقيلة.. كان بالإمكان دفعها بالحذاء دون أن تحدث خدوشا ظاهرة فيه" ويظل الطفل أو الراوي يقص علينا حكايته مع الطوبة وهو يدفعها في الطرق الترابية حتى بعد أن كبر، ونظر إلى نفسه فوجد أنه يدور في مكانه ولا يتقدم أبدا فقرر أن ينتقل إلى الميدان الواسع حيث الهواء والنور وحيث الشوارع الأسفلتية الباهرة ولكن هذه المغامرة سوف تنتهي بأن تأتي سيارة مسرعة وتطوح الطوبة إلى بعيد، ونسمع الطفل يقول: "وقفت في جانب وطوبتي في جانب آخر.. أين طوبتي؟ وقفت حزينا.. وكانت العربات تجأر، والضحكات تصكني.. تصكني.."

ويلاحظ أن الكاتب لم يشر، في هذه القصة، إلى الفقر من قريب أو بعيد، وإنما أوحى لنا به إيحاء قويا عن طريق منظر مرسوم بدقة وإحكام، على طريقة التصوير السينمائي فجاء على أروع ما يكون.

وفي قصة "صراع" يلتقط الكاتب موقفا آخر ينطوي على جانب إنساني أيضا، فقد فوجئ الجالسون في مقهى الرشيدي بالهادي والأعرج يتشاجران، فمن هما؟ ولماذا شجر بينهما هذا الخلاف الذي أدى إلى التشاجر؟ إن كلا منهما له قصة تنطوي على مأساة حقيقية، فالهادي خطف ذراعاه في حادث قطار والأعرج إنسان عاجز، وقد جمع بينهما العجز والفقر والبؤس، فالأول يكسب رزقه ببيع بعض جرائد الصباح، والثاني يبيع عيدان القصب، يظلان معا طوال النهار ثم يمضيان في آخره إلى منزل الأعرج فيبيتان فيه. إلى هنا والموقف عادي وبسيط تماما، ولكن الكاتب متمرس في فنه، ومن ثم كان لا بد أن يغوص في أعماق الألم الإنساني كي يستخرج اللقطة الموحية التي تعبر عن الأشواق والآمال والطموحات المحتدمة في داخل كل من هذين الشخصين. وقد تولد فينا هذا الألم من وهم سيطر على كل منهما، ذلك أنه كانت هناك فتاة تدعى "نهى"، تجيء من البندر في كل صيف، وكان الهادي يوافيها بجرائد الصباح، والأعرج يبيع لها، أعواد القصب، وقد زين الوهم لكل واحد منهما أنها تبادله حبا بحب، وظل هذا الحب يتنامى داخلهما حتى أدى إلى احتدام مشاعر الغيرة والصراع ثم الشجار على النحو الذي حدث أمام الجالسين في المقهى وأثار استغرابهم.

لقد استطاع الكاتب في هذا المشهد الإنساني الرائع أن ينقلنا من المستوى العادي للتصوير إلى المستوى الرمزي الذي ينطوي على أبعاد غاية في القوة والعمق حتى صار الرمز هو جماع المعاني على نحو ما يقول رولان بارت في كتابه "النقد والحقيقة" (طبعة أوسيل، باريس، 1966، ص 50): إن الرمز ليس هو الصورة، بل هو جماع المعاني، ومن ثم فإن اللغة الرمزية الخاصة بالأعمال الأدبية هي في بنيتها، لغة جمعية نجد فيها القاعدة مبنية بطريقة تجعل كل كلمة (وكل عمل) متولدة عن ذلك لها معان متعددة".

وهكذا نجد صلاح عبد السيد في كل القصص يجيد اقتناص الموقف المعبر من بين مئات المواقف التي يقابلها الناس يوميا ولا يلتفتون إليها، وهو لا يكتفي بالإيحاءات والرؤى والأبعاد التي يتضمنها الموقف في حد ذاته، ولكن يجتهد في تحويل هذا الموقف من الخاص إلى العام، ودفعه في تيار المشاعر الإنسانية الفياضة، وإلباسه ثوبا محكما من ثياب الفن.

عالم الفقراء والمطحونين

من الواضح أن صلاح عبد السيد ينتقي لقطاته من عالم الفقراء والمهمشين والمطحونين سواء في المدينة أم في القرية، وإن كانت السيادة لعالم القرية، فالقصة الأولى في المجموعة، وهي قصة "الخروج" بطلها يعاني من حالة إحباط شديدة لعدم استطاعته الاقتران بحبيبته التي نفضت يديها منه في النهاية، وسافرت إلى شخص آخر تزوجته يعمل في إحدى الدول العربية، أو كما نقرأ في القصة: "في الصباح ترحل حبيبتي.. تسافر لزوجها.. تحملها الطائرة إلى المجهول.. تبتلعها الحية في جوفها فتغيب في قاع الجب"، وهذه الحية التي ابتلعت حبيبته ليست إلا رمزا لضياعه وعجزه عن مواجهة الحياة. وقصة "صراع" - كما رأينا - تنقل لنا أشواق وطموحات شخصين عاجزين، وقصة "اصحي يا عمتي" تنقل صورة من صور الطمع في الريف عندما ينتهز بعض الأهل فرصة احتضار امرأة كانت تعيش بمفردها للاستيلاء على ما تبقى لها من حطام الحياة الدنيا، وهذا الطمع ما هو إلا نتيجة مباشرة لحالة الفقر التي يعيش فيها هؤلاء. وقصة "القرية الأخرى" تنطوي على مقارنة فنية رائعة بين عالم الفقراء وعالم الأغنياء، وقصة "الدائرة" تلتقط لحظة إنسانية من موقف عزاء في قرية تختلط فيه المشاهد بين حاضر وماض كي تصنع صورة فنية أخاذة لوطأة القدر وصور البؤس والفاقة. وهكذا نمضي مع القصص فنجد معظمها تقريبا يدور في هذه الحلقة.

ومن أهم ما يميز صلاح عبد السيد أنه يحدث تداخلا حميما بين المشهد الواقعي والمشاعر الإنسانية الفياضة، وكذلك بين الجمادات والإنسان. ففي قصة "أغنية حزينة" تقوم صلة وطيدة بين عم عبده وعربته القديمة والأولاد الذين كانوا يركبون معه بل إنه أحدث نوعا من التوازي بين تقدم عم عبده في السن وضعف صحته وبين تهالك العربة. فعندما قال له الميكانيكي إن العربة أصبحت خردة وطلب منه أن يبيعها بهذه الصفة انثال تيار الوعي في داخل عم عبده بهذه الكلمات: أبيعها..!! أتخلى عنها..!! هل آخذها لحما وأرميها عظما..!! هل هذا هو الوفاء!!. وبعد أن توقف كل شيء "عم عبده والعربة"، نقل لنا القاص هذه "المشاعر الفياضة: "ظل الصغار في انتظار عم عبده بلا فائدة، فتحلقوا حول عربته الخالية، أيديهم النحيلة - عيدان الكبريت - تتشابك وأجسادهم الصغيرة تتقارب، تلتصق، تتداخل، حتى لتصبح جسدا واحدا، دافئا ممتدا، يحيط العربة من كل الجهات، كأنهم أوراق وردة، في منتصفها تماما، في القلب منها، يطفو جسد العربة".

نقلات بعيدة

ثم إن المجموعة تمتد إلى عوالم أخرى تنقلها نقلات بعيدة عن خط الواقعية. فهناك بعض القصص الرمزية، ومن أهمها قصة "التداعي" التي تعبر عن فساد الكون، ويزاوج الكاتب فيها بين أسلوب الغائب وأسلوب المتكلم والأخير يأتي على شكل مونولوج، كما يحدث الكاتب نوعا من التداعي في المعاني. هناك أيضا قصة "الطعام الفاسد" حيث يقدم لنا المؤلف بطريقة رمزية خاصيتين من خصائص المدينة، وهما العرج ورائحة الطعام الفاسد. وبالرغم من أن بطل القصة قد تعود على ذلك بعد فترة من وصوله إلى المدينة فإنه عندما عاد إلى القرية لمحت أمه فيه عرجا وشمت رائحة طعام فاسد. فالقاص هنا لا يتحدث عن عالمي المدينة والقرية بصورة مباشرة بل يقتنص واقعة أو شيئا ماديا ليوحي بفساد عالم المدينة في مقابلة عالم القرية المستقيم النظيف. وتأتي قصة "الهوائيات" على مثال القصة السابقة توحي بالشيء ولا تحدده - وإن كان هذا هو الأسلوب المتبع على امتداد المجموعة-، فكل الأشياء منبعجة وبطل القصة يحاول إصلاحها، ولكن هل يستطيع؟

وهناك قصص تعمل على إبراز التناقضات الصارخة الموجودة في المجتمع، ومن أهم قصص هذا النوع قصة "أيها الناس" وهي قصة واقعية، وضع الكاتب يده فيها على مكمن الداء في بلادنا وهو تكرار الكلام المحفوظ، للتغطية على الأهداف الحقيقية وهي الاستغلال تحت ستار كثيف من غيبة الوعي لدى الناس فبطل القصة يحفظ كلاما يكرره في كل خطبه هو قوله: "أيها الناس.. احذروا زمانكم هذا فإنه زمان قل خيره وكثر بلاه.. وانتشر شره وتزايد أذاه.. واشتغل كل منكم بطلب دنياه.. وغفل الغافلون عن الموت فلا حول ولا قوة إلا بالله". ولكن هذا الكلام لا يمنعه من إقراض الناس بالربا والاستيلاء على أرضهم وبيوتهم ومتاعهم.

ثراء التقنيات وأهمية اللغة

استطاع صلاح عبد السيد، في لغة قصصية سهلة وبسيطة وشاعرية في آن واحد، أن يحشد جملة من التقنيات الفنية في القصة الواحدة ففي قصة "الخروج"، على سبيل المثال نجد الكاتب ينوع من مستويات القص بالانتقال من أسلوب إلى آخر في خفة ورشاقة. ففي المثال التالي سوف نراه ينتقل من أسلوب المتكلم إلى أسلوب المخاطب لنفسه. يقول الراوي: "كنت مغتسلا بالدموع وطاهرا.. قضيت الليل كله أبكي على صدر السماء.. في الصباح ترحل حبيبتي.. يا ويلي.. لا يعلم إلا الله متى تعود.. يا ويلي.. تقف وحدك كعود الحطب الجاف.. والريح قاسية عليك يا ولداه.. تقف وحدك كشاهد القبور وسط الأرض الخراب.. والريح تعوي. فمن يداريك عن عيون الناس.. من!!؟" فهذه لغة - كما قلنا - تجمع بين السهولة والبساطة والشاعرية، وهذا التنويع في المستوى الأسلوبي بالإضافة إلى ذلك، يمنحها طاقات تعبيرية وبلاغية كبيرة تشد القارئ وتجعله يتفاعل مع النص. وفي هذه القصة يقدم لنا الكاتب حوارا يأخذ شكل الديالوج والمونولوج في وقت واحد، ذلك لأنه بالرغم من دوران الحوار بين الراوي أو البطل وبين والد الفتاة التي يحبها فإنه يؤدي أيضا صورة المناجاة الداخلية. ثم إننا نعثر أيضا في القصة على مناجاة تمضي في شكل حوار مثل قول الراوي يناجي نفسه وكأنه يخاطب حبيبته التي سافرت وتركته: "أخاف أن يشحب وجهك.. ويعلوه الغبار.. أخاف على صوتك أن يثرثر.. وأن تصدأ في شفتيك الكلمات.. إلخ".

وفي قصة "اصحي يا عمتي" نجد أيضا هذا التداخل بين الأساليب والتقنيات.. ففي المثال التالي سوف نشهد انتقالا من أسلوب الغيبة إلى أسلوب المخاطب (في إطار تيار الوعي) إلى الحوار (في إطار تيار الوعي وضمن تقنية الفلاش باك)، كل هذا في عدة سطور تقول: "ورأيتهن يمسكن الفراخ والبط.. وفرخة جرت فنامت عليها زوجة عمي.. فتطاير الريش فوق رأس عمتي.. اصحي يا عمتي.. إنهم يسرقونك وأنت نائمة يا عمتي.. لو أنك كنت قد تزوجت وأنجبت يا عمتي.. لما استطاع أحد منهم أن يسرقك يا عمتي.. لماذا لم تتزوج عمتي؟ هو النصيب يا ولدي.. لا بل قولي يا أمي.. لماذا لم تتزوج عمتي؟ إن عمتي حلوة وطيبة.. تحبني وتطعمني كبدة الفرخة.. قولي يا أمي.. قالت أمي لقد كانت في زمانها ست البنات.. إلخ" ونود أن نذكر القارئ بأن القصة تحكي عن احتضار العمة بينما هؤلاء الأقارب يحاولون الاستيلاء على ما بقي لها من متاع، وهذا الصبي (الراوي) يتابع هذا المشهد وينقله على النحو الذي رأيناه.

وفي هذه القصة نجد الكاتب يجيد أيضا استخدام تيار الوعي وتوظيف الأسطورة الشعبية وكل هذا بالإضافة إلى اللغة التي سوف نوضح بعض خصائصها فيما بعد، يجعل القصة مشوقة جذابة، ولها تأثير فعال على القارئ، أي أنها - وكل قصص المجموعة - يتحقق فيها شرط هام من شروط هذا الفن وهو قوة التأثير، ذلك لأن تنوع الأساليب وتداخلها وكثرة التقنيات المستخدمة تعطي القارئ انطباعا بأنه أمام كاتب مسيطر كل السيطرة على أدواته الفنية، وأنه ذو باع طويل في هذا الشأن.

وقد أعطى صلاح عبدالسيد اهتماما خاصا للغة من واقع اعتقاده بأن اللغة لم تعد مجرد أداة لنقل المضمون، بل ترتبط ارتباطا جوهريا بطبيعة الخلق الفني، وفي هذا يقول الروائي العالمي جابرييل جارثيا ماركيز (من حوار مع بلينيو ميندوثا ص 86): "أنا أعتقد أن التقنية واللغة أداتان يحددهما موضوع الكتاب. فاللغة المستخدمة في "الكولونيل لا يجد من يكاتبه" وفي "الساعة السيئة" وفي عدة قصص من مجموعة" جنازة ماما الكبيرة" لغة مقتضبة موجزة يتضح فيها الاهتمام بقيمة الفعالية المأخوذة عن الصحافة. أما في رواية "مائة عام من العزلة" فقد كنت في حاجة إلى لغة أكثر ثراء لكي أفسح مجالا لدخول هذا الواقع الآخر الذي اتفقنا على أن نطلق عليه اسم "الواقعية الأسطورية أو السحرية". وفي رواية "خريف البطريرك" اضطررت للبحث عن لغة أخرى بعد أن تخلصت من لغة "مائة عام من العزلة". ومعروف أن النقاد قد وصفوا رواية "خريف البطريرك" بأنها تبدو مثل قصيدة من النثر.

إذن فإن طبيعة الموضوع هي التي تحدد مستوى اللغة. وقد وجدنا في مجموعة صلاح عبدالسيد ثلاثة مستويات للغة: لغة سردية عادية، ولغة شعرية أو قريبة من لغة الشعر، ولغة تستلهم لغة الكلام العامية وتحاول أن تشكلها في بناء نحوي وصرفي يقربها من اللغة الفصحى. وقد تأتي اللغة الشعرية سائدة في بعض القصص مثل قصة "الخروج" وقد تسود اللغة القريبة من العامية في قصص أخرى مثل "صراع" و"اصحي يا عمتي"، وإن كانت مساحة هذا المستوى الثالث أوسع وأكثر انتشارا في المجموعة مما يعطيها خصوصية متميزة في استخدام اللغة.

وإذا كنا قد مثلنا للغة الشعرية من قبل فإننا نود الآن أن نقدم بعض الأمثلة للغة القريبة من لغة الكلام. يقول في قصة "صراع": "ولا واحد من الجالسين في مقهى الرشيدي - حين سمع - صدق أذنيه.. ولا واحد"، ويقول في القصة نفسها: "كان صدره يرتفع وينخفض والعرق يشر عليه"، ويقول في قصة "أيها الناس": "أشارت عليه زوجته - وكانت شورة طين - بالذهاب للشيخ الشناوي - وآهي كل الناس بتروحله.. يا راجل روح.. !، ويقول في القصة نفسها: "ضحك جاد ضحكته الفطسانة وغمز العتباني تحت سرته، فلوى العتباني وجهه، وأسقط ضحكته الساكنة في قعر كمه، ورفس الأرض علامة الانبساط"، ويقول في قصة "القرية الأخرى": "يتعثر مصطدما بالباب أو بالحائط ويطس وجهه ببعض الماء، ويشد طبق الأرز البائت، وهو على قرافيصه يدفع بالذي في الطبق إلى فمه" وبالطبع فإن هذه مجرد أمثلة قليلة للغة أجاد الكاتب توظيفها ببراعة في معظم قصص المجموعة.

على أن الموضوع قد يؤدي بصلاح عبد السيد إلى استخدام بعض الأساليب البلاغية التي تخدم هدفه، من أمثلة ذلك استخدامه لأسلوب التكرار في قصة "المستنقع" التي يبدؤها هكذا: "كان بي ضيق.. ارتديت جلبابي وطاقيتي.. وقلت سأخرج بالجلباب والطاقية وليكن ما يكون.. وكان الشبشب في قدمي.. فليكن ما يكون.. وخرجت.. كان بي ضيق.. " إلخ، ويظل الكاتب يردد هذه العبارة حتى ينقل إلى قارئه الجو النفسي بشحناته العاطفية ونتائجه المنطقية. وفي قصة "أيها الناس" وهي قصة تتناول تناقضات خطيب منبري يحشد الكاتب عدة فقرات يقوم بناؤها النحوي على السجع مثل قوله: يا نار خذي من تعدى وظلم.. يا نار ضاعفي لهم الألم.. وشدي على النواصي إلى القدم.. الخ".

بعض المآخذ

وبالرغم من إعجابنا الكبير بهذه المجموعة فإن لنا بعض المآخذ على عدد قليل من القصص وهي: قصة "القرية الأخرى" (ص 77) التي أقحم فيها في النهاية مشهدا دخيلا على السياق عندما عثر الحارس القادم من القرية على أمه داخل الملهى الليلي الذي يقوم بحراسته، وبذلك يكون المؤلف قد أخضع المسألة للمصادفة البحتة على غرار ما كان يحدث في القصص والأفلام القديمة. أما قصة "الامتداد" (ص 107) ففيها مباشرة، والمغزى الأخلاقي فيها واضح، والحوار فيها لا ينطوي على أبعاد عميقة، وبذلك نرى أن مستواها الفني أقل بكثير من مستوى القصص الأخرى التي تعتمد "الإيحاء بالشيء لا تعيينه" أساسا للعمل الفني. وهناك أيضا قصص أخرى ضعيفة أو أقل من المستوى، وهي بالتحديد قصة "التوحد" (ص 115) و "الأنين" (ص 129).

ونحن في ختام تحليلنا لهذه المجموعة القصصية الرائعة لا بد أن نهنئ الكاتب على إجادته للغة، وتملكه لزمام الأسلوب ورؤيته الأسلوبية المتميزة، التي تجعل الناقد يقول بملء فيه: إن هذا كاتب من أصحاب الأساليب الخاصة التي تنطبق عليها مقولة "السهل الممتنع".