أذربيجان زهر الحدائق وأرض النار

أذربيجان  زهر الحدائق وأرض النار

تجلس أذربيجان على ساحل بحر قزوين، وعينها على تاريخ البلاد المتشكل من ماء ودم، وأرضها المنبعثة نفطًا ونارًا... وتخلّد صور قتلاها في يناير الأسود، وأيام سود أخرى، في «ممر الشهداء»، فيتداعى على الذاكرة موج أحمر عصف بالبلاد، فالإرث السوفييتي لايزال حاضرًا في وجدان مواطنيها، كما على ألسنتهم، وإن بدت أن الأجيال الحديثة من مواليد التسعينيات لا يعرفون عمّا حدث سوى أنه من «التاريخ»، وإن تكاثرت على جدران البيوت صور من رحلوا، قتلاً أو تهجيرًا، أو اختفاء.

 

عرفت أذربيجان، إضافة إلــــى نزاعهــــا الدموي مع جارتها أرمينيا، أكثر من سبعين عامًا من تاريخها مذعنة لسيد الكرملين، فما أن ألقت الحرب العالمية الأولى أثقالها، حتى وجدت هذه البلاد نفسها، وفي عام 1920م، أنها ضمن الحقل الكبير الذي يهيمن عليه الاتحاد السوفييتي، وقد بدّل بالأحرف العربية التي تكتب بها لغتها حروفًا ذات جذر لاتيني، وتناقص عدد مساجدها، وضربت هويتها الإسلامية، فكان من يريد أن يصبح مسؤولاً في الدولة فعليه أن يخضع بطاقته الشخصية لكلمة «ملحد».
لم تكن أذربيجان بحاجة إلى نيران الحروب لتسمّى بأرض النار، فأرضها قابلة للاشتعال بما تكتنزه من ثروات، نفطًا وغازًا، ويمكن للسائر في شوارع باكو ملاحظة عشرات، بل ربما المئات، من آلات استخراج النفط على الجانبين، وكأنها محض نماذج تشرح عملية استخراجه، وليست حقيقة مؤكدة، لوفرة ما تضمّه البلاد من ثروة، علمًا بأن ست بعثات إنجليزية زارت باكو بين عامي 1568م و1574م أشارت إلى أن سكان مدينة باكو كانوا يستخرجون النفط من الآبار ويستخدمونه لإنارة منازلهم، حسب ما وصفه اثنان من تلك البعثات، وهما طوماس بانيستر وجيفري داكيت، وهذه الثروة التي أغرت الألماني إدولف هتلر وهو يمدّ أمامه خريطة باكو التي تبدو كرمح يخترق زرقة الماء، أو منقار طائر يترك اليابسة نحو تلك البحيرة الهائلة التي تدعى «بحر قزوين»، ينقل عنه أنه قال: «سنخسر الحرب إن لم نحصل على نفط باكو»، متذوقًا الكعكة التي صنعت له مزينة بخريطة لبحر قزوين عليها حروف المدينة، ويكاد يتهادى إليه ما تريده واشنطن من تدمير كلي للمدينة خشية أن تسقط في اليد النازية، لولا معارضة الجنرال الفرنسي لديجول لهكذا جنون.
هي أرض النار، متوقدة تحت أسفل «جبل النار»، وتبهج الزوار عبر ثلاثة أبراج زجاجية على أعلى تلة في المدينة تضيء بوهج «اللهب» فسميت بأبراج النار... أو «أبراج اللهب».
طوت أذربيجان علاقتها بسيد الكرملين حينما فرشت سجادة استقلالها عام 1991م، وكان أول رئيس لها حيدر علييف، الرئيس الذي تولى السلطة عام 1969م، منذ أن كانت جمهورية سوفييتية، وقد كان سابقًا رئيسًا لجهاز الاستخبارات «كي جي بي» المحلي، وبقي حتى وفاته عام 2003م، ليرث الحكم من بعده ابنه إلهام، وما زال حتى اليوم.

الارتحال صيفًا 
أنحاز، في رحلة الصيف، هذه المرّة إلى أذربيجان، هذه الواقعة بين بحر قزوين، بشواطئه الهادئة الموج، عكس ما عليه الموج السياسي المكتنز نزاعات ونزوات... وبين جبال القوقاز، بشموخ أشجارها، وجاذبية السيّاح إليها، في كل الفصول، خاصة حينما يرتفع مؤشر الحرارة في شبه جزيرتنا العربية، فنقصدها لننعم بتلك النسائم الباردة في شتى مدنها، كعاصمتها باكو، وقبالا وقوبا وغيرها، وصولاً إلى البراكين الطينية والمنتزهات الوطنية والأودية المنسابة بمائها، وكأنها خرجت من باطن الأرض للتو، فجرت طينًا يزحف به الماء.
سرت بين عشرات الأمكنة، عبر مدن وقرى، عبر شوارع تشقّ غمار حقول وسهول، فتتبدّى الألوان ممتزجة بالحياة القادرة على وضع عباءة التفكير على رأسك أيها السائر، فتلوح أشجار التفاح والكرز والزيتون وما شاء لك مما تريد أن تحصيه من فواكه وثمار يانعة، فيما تنهض سنابل القمح التي تيبّست فحان وقت حصادها، فترى فيها دفق الحياة المؤكد يشبع الجوعى، وإن كانت تقف بيباس مبين.

باكو... تربة من «نار»
كان مطار باكو أنيقًا، وعصريًا، عكس ما كنت أتوقعه في بلد بدأ يستكشف نفسه في مرحلة ما بعد «الهيمنة السوفييتية»، وكنت من تلك الطوابير الطويلة التي عليها أن تحصل على تأشيرة لدخول أذربيجان، لكن انتصبت عدة أجهزة إلكترونية تستقبل القادمية، فيما يتجوّل بينها عدة موظفين من المطار لمساعدة من يتعسّر عليه درب إنجاز «المعاملة» فما أن تمرّ دقيقتان تقريبًا حتى تتدلّى ورقة التأشيرة بيقين، وخلال فترة زمنية ربما لا تصل إلى ثلث ساعة كانت الطوابير أثرًا بعد عين.
خارج المطار كانت المدينة تتراءى هادئة ونظيفة، ترفع أعمدة خرساناتها بتصاميم فنية تتّخذ من الزجاج واجهات تجمّل التواءاتها في وجه الريح، وكلما أوغلنا اقترابًا من مركزها كانت باكو تتنوّع في صورها بين البنايات التي بدأت تنقش عصرية الحياة على السجادة الآذرية، وتلال تسترخي عليها بيوت صغيرة بقرميدها الأحمر كأنما تتشكّل سجادة أخرى، وهي الشهيرة بصناعة السجّاد، انبسطت على كل تل، يعيش على أرضها نحو ثلاثة ملايين شخص، من جملة سكان البلاد البالغ عددهم نحو عشرة ملايين، فيما تتقاسم بقية المدن الملايين السبعة، وبعضها لا يبلغ سكانها حتى مائة ألف، كما أشار مرشدنا السياحي. وتشير المصادر المختلفة إلى أن أغلب سكانها مسلمون (أكثر من 90 في المئة) وأكثريتهم من المذهب الشيعي، لكن على الأرض لا تلمح سوى بلد علماني، بأغلبية لا دينية، وهذا ما أشار إليه معهد «غالوب»، إذ أشار نصف من شملهم الاستطلاع إلى عدم أهمية وجود الدين في حياتهم، مع ضرورة الإشارة إلى أن معظم سكان المدينة ينتمون للعنصر التركي، خاصة الأذري، هكذا يعتبرون أنفسهم، رغم أن أصول بعضهم فارسية وقوقازية وعربية، وهناك أقليات دينية أخرى كاليهودية والمسيحية والبهائية، إلا أن للمجوسية تاريخ طويل في باكو، وربما لأن النار تتوافر بكثرة في المدينة!
يتعدّد نطق كلمة «باكو» على الألسنة، فهي بالأذرية «باكي»، ويشار إلى أن أصل التسمية فارسيًا، متشكله من كلمتين (باد- كوبه)، وتعني المدينة التي تضربها الرياح، أو «باغ – كوه» أي جبل الله، واسمها ليس بعيدًا عن المعنى الفارسي لكلمة بغداد، إذ كلمة داد تعني بالفارسية أيضًا الهبة أو العطاء، وقال آخر إنها مشتقة من التركية القديمة، وتعني «تلّة»، وهناك من قال إنها «باي - كيوي» أي المدينة الرئيسية، وذكرها المؤرخ ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان بمسمى «باكويه»، بضم الكاف وسكون الواو وفتح الياء، قال عنها إنها: «بلد من نواحي الدربند من نواحي الشروان، فيه عين نفط عظيمة تبلغ قبالتها في كل يوم ألف درهم، وإلى جانبها عين أخرى تسيل بنفط أبيض كدهن الزيبق لا تنقطع ليلاً ولا نهارًا تبلغ قبالتها مثل الأولى، وحدّثني من أثق به من التجار أنه رأى هناك أرضًا لا تزال تضطرم نارًا». وما زالت تضطرم حتى اليوم يا شيخ ياقوت.
هي أكبر مدن البلاد، ولها تاريخها العريق الذي زاده استخراج النفط قوة وأثرًا وكان للمرة الأولى عام 1847م،، فانحازت إليها كبريات الشركات الصناعية العالمية، وأصحاب المليارات الذين وجدوا فيها ما يقصدونه من صناعة ثروة ومجد.
تتنوّع العاصمة باكو في معمارها، بين غربي حيث الطابع الروسي القائم، لكنها مدينة لطابعها الإسلامي، بروح الشرق، حيث تلك الحارات القديمة المسوّرة، والأزقّة الضيّقة الملتوية بينها، فيما تضع بعض القصور القديمة، والمقابر الأثرية، نقوشًا وآيات من القرآن الكريم، تشكلت بحروف عربية فبدت لوحة مزخرفة، راسخة ضد مشروع طمس الهوية الإسلامية، رغم أن الرياح الحمراء هبّت نحو سبعة عقود عليها.
لكن، ومع رياح العصر الحديث، تشعر بأن باكو ليست سوى مدينة أوربية، فالمساجد قليلة، حتى وهم يشيرون بأصابع الاتهام إلى مرحلة الاتحاد السوفييتي، كما أن ثقافة المكان، فيما يتعلق بالملابس والمطاعم على وجه الخصوص، ليست سوى نسخة من أي مدينة تقع في القارة العجوز، خاصة في الجزء الشرقي منها، ومطاعهما أغلبها عالمية، بالماركات الرأسمالية الشهيرة، أو هي تركية، كون أن الأذريين يرون أنفسهم أنهم في الأصل أتراك.
وصلها الرومان في القرن الأول الميلادي مع إرسالهم حملتين عسكريتين لفتح القوقاز، وجرت في أوردة تاريخ المدينة دماء كثيرة، وصولاً إلى الفتح الإسلامي لباكو (وكامل أذربيجان) في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، بعد هزيمة الفرس في عدة معارك، فأرسل الخليفة عمر، رضي الله عنه، حذيفة بن اليمان إلى تلك النواحي لإتمام الفتوحات، وفي ذلك بيان طويل سرده المؤرخ ياقوت الحموي في كتابه الشهير «معجم البلدان»، فقد اعتنق أغلبية سكان باكو الإسلام، لكنهم ظلوا على قوميتهم، فلم تدخل اللغة العربية إلى ألسنتهم.
ولم تسلم المدينة من الزحف المغولي، رغم أنها تحصّنت جيدًا استعدادًا لأحداث الاضطرابات التي نشأت بسبب الحروب الصليبية، فشيّدت القلاع والحصون، لكن هولاكو تمكّن منها خلال الحملة المغولية الثالثة، وكانت بين عامي 1231م – 1239م.
ووصولاً إلى الأزمنة الحديثة، حينما انتقم الشاه إسماعيل بن حيدر الصفوي عام 1501م من حاكم شروان الذي قتل والده حيدر، فحاصر المدينة حتى أسقط أسوارها بعد أن ضعضع أساساتها، وذبح من سكان المدينة عددًا تشير الروايات إلى أنه «عظيم»، وأجبر من تبقّى من أحياء على اعتناق مذهب الاثني عشرية.
لكن تاريخًا آخر كان على باكو كتابته في صدر علاقتها بالغزاة، في السادس والعشرين من يونيو عام 1723م استسلمت وفتحت أبوابها للجيوش القيصرية بعد حصار طويل، وقصف عنيف بالمدافع، إذ أصرّ القيصر الروسي بطرس الأكبر على أن تكون باكو في عصمته، وظل الوضع على مدار عقود بين مدّ روسي وجزر فارسي، وصولاً إلى عام 1813م، حينما وقّع الطرفان على معاهدة كلستان، بتنازل الدولة القاجارية عن باكو، ومعها أغلب القوقاز، لصالح الإمبراطورية الروسية.
عرفت أذربيجان حياة استقلال قصيرة، بوجود باكو عاصمة للجمهورية الديمقراطية، لكنها تهاوت أمام اجتياح الجيش الأحمر، وعاد البلاشفة ليحكموها، فحملت مسمى «جمهورية أذربيجان السوفييتية الاشتراكية»، وخضعت لهيمنة طاغية حتى أن واحدًا من أهم مساجدها، مسجد تازه بير الذي بدأ العمل ببنائه عام 1905م، تحوّل إلى دار للسينما، ثم إلى إسطبل ربطت فيه المواشي، لكنه الآن استعاد صوت التوحيد الذي يرتفع فيه من جديد.

في شرايين المدينة
أضع جانبًا أجندة التاريخ، بكل ما سفحته من دماء وحبر، متوغّلاً في تفاصيل حياة المدينة العصرية، قليلاً من التوقف في متنزه الرئيس حيدر علييف، وتمثاله الواقف كرمزية أعادت الاستقلال إلى البلاد بعد سبعة عقود من ارتداء العباءة السوفييتة، ليس ببعيد عنّي شارع نظامي، قلب العاصمة النابض بالحركة والحيوية، كما يليق بالقلب أن يكون، العامر بجمالية الحياة، خاصة إن حان المساء، المقاهي التي لا تهدأ الحركة بها، والشباب المتحمسين للدعاية للمطاعم التي تغري السائح العربي، والآسيوي عمومًا، بالمطبخ اليمني والهندي، فيعرفون أنك تبحث عنها، والقائمة في أيديهم، «خذ نسختك مجانًا»، فهناك صور البرياني والكاري، والمندى القادم من «اليمن السعيد».
أمضي قدمًا، مخلّفًا شارع نظامي خلفي، وصولاً إلى منطقة ترفيه واسعة بجوار بحر قزوين، فكان «الكورنيش» يمثّل وصفًا مختلفًا عن عهدنا بهذه الكلمة، فهنا ليس شارعًا بحريًا، بل متنزهًا كبيرًا للمشي، ومع الطقس الجميل يمكن السير فيه ليل نهار، فكانت المماشي، على تعددها، تزدحم بالسائرين، فيما هناك أماكن مخصصة لراكبي الدراجات الهوائية أو «السكوترات» وما شابهها، مع المقاهي الكثيرة، وأماكن الجلوس، والألعاب، فيما تطل أبراج النار من فوق تلّة تكاد تحيط بالجانب الآخر من المدينة، «أبراج النار» هذه ليست سوى ثلاث بنايات زجاجية رأيتها أشبه بثلاثة دلافين خرسانية بجماليات ردائها الزجاجي، وما أن يحين الليل حتى تلعب الأضواء فيها دورًا ترفيهيًا جميلاً، فمرات تبدو كأنها ثلاث شعلات ضخمة من النار، وحينًا عليها علم أذربيجان، ومرة تحتفي بالرياضة.
في تلك الساحات المفتوحة على بحر قزوين شدني مجسم يضم مجموعة صور تمثّل التنوع البشري في أذربيجان، للمصورين فوجار إبادوف وزاور ميرزاييف، أقيم بمناسبة الاحتفاء بسنة التعددية الثقافية في أذربيجان عام 2016م، وشكلت الصور فيلمًا حمل اسم «تحت شمس واحدة»، وخلال تنفيذ المشروع أخذ طاقم العمل صورًا من 54 بلدة وقرية في مختلف مناطق البلاد، ومقابلة 134 شخصًا يمثلون 17 عرقًا، يتحدثون 17 لغة، إضافة إلى 3850 منظرًا جماليًا، وصورًا لنحو 2625 شخصًا من خلفيات عرقية مختلفة، وجميعها تعكس «لحظة من حياة متعددة... من خلفيات وأعراق متعددة»، عاكسًا في رسالته بيئة التسامح في البلاد، حيث إن الجميع لديه حقوق متساوية، ويتمتع بالحرية، بغضّ النظر عن الديانة، واللغة، والعرق. 
أقف أمام تمثال أصلانوف، هذا الجنرال الذي ارتدى شارة الجيش خلال الحرب العالمية الثانية، ذهب إليها مع نحو 1700 جندي من أذربيجان، لم يعد أصلانوف، ومعه نصف هذا العدد تقريبًا، ذهبوا وقودًا لحرب أشعلها غيرهم.
لكن في ممر الشهداء، الواقع على تلّة تشرف بحر قزوين هناك 137 ضريحًا لجنود قضوا فيما يعرف بالسبت الأسود، (20 يناير 1990م)، ويقال إن هناك جثث كثيرة رميت في ماء البحر، أمرّ عبر صفّ طويل من صور الشهداء، على يساري قبور شهداء الحرب مع أرمينيا، بسبب النزاع على إقليم ناجورنو كارابخ، وعلى يميني أولئك الذين قضوا خلال مظاهرات لطلب الاستقلال من الاتحاد السوفييتي، والتي بدأت من الثمانينيات، حتى تحقق استقلال البلاد مع تفكك قماشة الجيش الأحمر عام 1991م.
 وصولاً إلى ما يمثّل روح المكان، حيث الشعلة التي لا تنطفئ، ويروي لي المرشد السياحي عن عناية الدولة بهذا المكان، بحيث يأتي ضيوفها، برفقة رئيس البلاد إن كانوا رؤساء دول، إلى هذا المكان، تعبيرًا عن امتنان أذربيجان لمن ضحّى من أجلها بدمائه، وفي العشرين من يناير من كل عام يمتلئ بعشرات الآلاف لزيارة هذا المكان.
لكن يبقى المكان تحفة فنية، حيث يمكن الإطلالة على المدينة عبر الشريط الساحلي لبحر قزوين، ومشاهدة أيقونات معمارية جميلة، بينها مركز تجاري بتصميم فني جميل، وبجواره متحف السجاد، والذي يتشكل على هيئة سجادة شبه مطويّة، وصولاً إلى الكثير من جماليات المعمار والبنايات التي تتكاثر في رقعة المدينة، فيما تقف بجوارنا بنايات «أبراج النار»، وعلى مقربة منها مسجد، فنحتمي بظله من حرارة ظهيرة صيفية لم تكتنفها حتى غيمة تقلل من وهج الشمس، وبجوارها شجرة «الكريسماس»، وكان اللافت أنهم يطلقون عليها اسم «شجرة الشام».
باكو، العاصمة التي تعد لؤلؤة بحر قزوين، القادمة من دفاتر الماضي العتيق، والداخلة بقوة في حداثة القرن الحادي والعشرين بقوة، لابدّ من سبر أزقّتها في مسالك «المدينة القديمة»، والمدرجة في قائمة التراث العالمي لليونسكو، حيث السير على الأرض المبلطة بالأحجار بين حيطان تروي سيرة ما عبر قرون مضت، يقف برج «مايدن»، فيشدّنا قصر شيرفانشاه، والباعة يعرضون بضاعتهم في محلات صغيرة، لكنها عامرة بالتحف، وبقطع السجاد الذي يعرض بعضه في الهواء الطلق، فيصلنا بجمالية ألوانه ودقّة صنعته إلى برج العذراء، والذي كنت أظن التسمية عائدة إلى تاريخ مسيحي، فإذا به يروي عن فتاة عذراء أجبرها أبوها على الزواج، فانتحرت، كما تقول الأسطورة، لكني أقف أمام الواقع التاريخي للبرج أو القلعة، تلك التي شيدت خلال القرن الثاني عشر لتكون حامية للمدينة، ووضعتها اليونسكو ضمن تراثها العالمي عام 2001م، وتظهر على أوراق عملة البلاد «المانانت»، ويحتوي داخل البرج على متحف يروي جانبًا من قصة المدينة، أما في موسم النيروز فتضاء مجمرة على سطحه طيلة ليالي الموسم.
تأخذنا المدينة في تاريخها وحاضرها، وإلى معالمها، خاصة في المدينة القديمة، فنعبر قصر الشروانشاهانيين، بمساحاته الكبيرة، وأضرحة الحكام والمسجد، وصولاً إلى صرح آخر من زمن الشروان، وهذه المرة من عصر الشروان شاه فروخ زاده الثاني الذي بنى مسجد بي بي هيبة، ويعرف أيضًا باسم مسجد فاطمة، والذي يشاع أن إحدى بنات الإمام موسى الكاظم مدفونة فيه، وعلى البعد يلوح برج التلفاز المرتفع نحو 310 أمتار، أطول منشآت المدينة، به مطعم يستقر في الطابع الثاني والستين، على علو 175 مترًا.
وإلى «جبل النار»، إلى ذلك اللهب المنبعث من أسفل تلة، وعلميًا واضح أن سببه وفرة الغاز في تلك البقعة، لكنه يبقى من الظواهر الطبيعية النادرة، إذ تشتعل النار في التراب ليل نهار، ومنذ قرون، فقد ذكر مؤرخ إغريقي يدعى بيرسيكوس خلال القرن الخامس للميلاد بأنه من الصخور المجاورة للبحر ينبعث اللهب، ولذلك تحولت باكو إلى مركز ديني مهم للمجوسية، وهذا يفسر تلك الأعداد الكبيرة من الزوار الهنود إلى «معبد النار» الواقع على مشارف باكو، هذا المعبد الزرادشتي يعود تاريخه إلى القرن السابع عشر، فيؤمّه جمع كبير منهم لرؤية الشعلة الأبدية المقدسة مع تلك الهياكل الحجرية المحاطة بالغموض أكثر من قدرة النار المشتعلة على إضاءة ما ورائها.

في متاحف المدينة
يأخذنا جمال المعمار، وسحر التصميم، إلى مركز حيدر علييف الثقافي، تحتاج إلى وقت طويل لتأمل التشكيل الجمالي البديع للمبنى، وإلى وقت أطول للتجوال بين محتوياته، بتلك القدرة على إدراك الجمال وأنت تسير وسط الديكورات الداخلية أو الإدهاش الفني، بدءًا من تلك الأقمشة الثلاثة الملونة التي تتطاير وفق دائرة تكاد لا تفارقها، حتى وهي تلتحم وترتفع إلى الأعلى ثم تعود أدراجها كراقصات في حفل روحي شفّهن الوجد فحلّقن بخفّة فراشات.
هذا التصميم أبدعته المصممة العبقرية زها حديد، فاستحق أن يكون قبلة جمال معمارية على مستوى العالم، ونيل مصممته جائزة متحف لندن للتصميم عام 2014م، وبعد سنوات من التشييد افتتح عام 2013م، لتتجمّل بقعة الأرض تلك بنحو مائة ألف متر مربع من الأناقة والفخامة، ومن الإبداع الإنساني القادر على لفت الأنظار إليه من كل بقعة على الأرض، لاستشكاف الحضارة الأذربيجانية وثقافاتها المتعددة، عبر طوابق متعددة، ترتفع فوق أربعة طوابق مخصصة لمواقف السيارات.
ذلك المبنى المهيب والحديث سبقه إنشاء المتحف بعشرات السنين، فمنذ القرن التاسع عشر اهتم حيدر علييف بجمع مفردات من ثقافة بلاده وفنونها، ليكبر حلمه شيئًا فشيئًا عبر تلك العقود واتسعت المعروضات والمباني التي تحتويها، فتحوّل إلى مؤسسة ثقافية كبيرة ضمّت تحفًا وأعمالاً فنية وقطع أثرية.
في قلب ذلك التصميم الإبداعي أمضي، من طابق إلى آخر، ومن ردهة إلى أخرى، وسط ذلك البياض الناصع، واستدارات السلالم، كل ركن يحمل دهشته من جماليات ما يعرضه، أقف مطولاً أمام أربع سيارات رئاسية جائلاً الخيال في زمن سرن فيه بقامات وحراسات، وصولاً إلى ما يعرضه من سجّاد كل قطعة تنطق بزمن حياكتها، والرسومات عليها تكاد تحاورك.
وكان لابد من زيارة متحف استقلال أذربيجان، التاريخ الناطق هنا، منذ آلاف السنين، ووصولاً إلى عصرها اليوم، وثائق وصور وكتب ومعروضات تضمها القاعات، عبر مراحل الزمن التي صهلت خيولها على هذه الأرض، ماذا يرتدي رجالها ونساؤها من أزياء وحلي، وماذا كانوا يحملون على أكتافهم من بنادق، وكيف تبدو تفاصيل أخرى من حياتهم.
وفي متحف الموسيقى التقيت بتاريخ فني كبير لهذا البلاد الغني بثقافته، والمحتفي بتراثه الفني، آلات موسيقية محلية وأخرى من خارج الديار جاءت بها ثقافات أخرى كالهندية وغيرها، صور مشاهير عرفتهم أذربيجان، عازفين وملحنين ومغنين، وكان أبرزهم واحد اسمه بلبل، تذكرت أنهم أقاموا له تمثالاً في إحدى ساحات المدينة.
في بقعة أخرى شدّني متحف متخصص في الكتب الصغيرة «ميني بوك»، ويبدو أنه مشروع شخصي، حيث جمع صاحبه خلال أربعين عامًا آلاف الكتب المتناهية الصغر، وبشتى اللغات، خاصة الأذرية والروسية والإنجليزية، بينها نسخة مصحف من القرن السادس عشر.
 
قابالا... سبات «الخزامى»
كان المسير مفتتح الصباح إلى مدينة قابالا، وتنطق حينا «جابالا»، وكأنها أخذت التسمية هذه من جبال القوقاز التي تسكن في قلبها، هناك حيث لا ترى في جبالها صخرًا، أينما نظرت فأشجار وزهور وسهول تمتد اخضرارًا، وصولاً إلى بحيرة «نوهور» وسط الغابات الخضراء، وشموخ الجبال التي لا تراها سوى لوحة أبدع الخالق في رسمها، فينساب من عليائها شلال يدي جوزيل بفتنته المنسكبة بياضًا، وهناك سبع شلالات تتلاحق وراء بعض، وإن شاء المرتحل متعة أكثر، فعليه أن يأتي شتاء ليجد في منتجع توفانداغ فسحة للتزلج، ولسائر الرياضات المرتبطة بالجليد، فيما هناك مدينة ملاهي غابالاند، وفيها ما تشتهي العائلات من ترفيه، وما أكثر ما تؤمها العائلات، خاصة من منطقتنا الخليجية التي انفتحت على هذه البلاد منذ أكثر من عقد... استكشافًا سياحيًا أخّاذا في صيف شبه الجزيرة العربية الملتهب.  
البيوت المتناسخة في القرى على الشوارع... وردية أو زرقاء أو بدون لون غير الإسمنتي الذي يجبر فقرها، فيما اتخذت حيطان بيوت قابالا وحقولها الحصى الصغير كلمسات مميزة تستشعرها أينما مررت في شوارعها، وصولاً إلى ساحة نهض فيها تمثال الأم، والرامز إلى الفترة التي دخلت فيها أذربيجان، ضمن النسيج السوفييتي، الحرب العالمية الثانية، فكانت الأم عمود البقاء في تلك الحرب المشتعلة، هي التي تدفع أبناءها إلى أتونها مودعة من قد لا يأتي، وتقف أمام عتبة البيت تنتظر بأمل ألا يأتيها فلذات أكبادها قطعًا متفحمة تبكيها بدم قلبها ما بقيت حية.
كان تمثال الأم ينهض في مختلف مدن أذربيجان، كنصب كثيرة للشهداء، بعضهم أجري من أجلهم «سبيل ماء»، لكن يبدو أنها تفكر في الحاضر والمستقبل أكثر مما تلتفت إلى الماضي، فتضاءل الاهتمام بذلك.
تأخذنا قابالا في سحرها، بدءًا من حقول الخزامى التي تستقبلنا على مساحات شاسعة، لكنها لم تكن في موسمها، ولم ترتد حلّتها الأثيرة بعد، لكن هناك أبوابًا توزعت على الحقول لتعطي للتصوير معنى رومانسيًا، وأراجيح تجمّل لحظات العشاق وهي تحلق بهم بين زهر «اللافندر» صعودًا وهبوطًا، وسلالم كأنها تصعد بك نحو اللانهائي من الفرح، وسط كل تلك البهجة.
ومن زمن قابالا الأخضر إلى مدينة تاريخية صغيرة تقع بالقرب من مركزها، هي شاكي، وبالكاد ينطق حرف الألف فيها، تقع في الجزء الشمالي الغربي من الجمهورية، تشدّنا إليها معالمها الأثرية العائدة إلى نحو 2700 سنة، يبدأ ميلان معمار المدينة من تلك الجبال المحيطة بها، وصولاً إلى مجرى مائي يحاذي الشارع، وعلى الضفة الأخرى بضع محلات تستند إلى معلم تاريخي آخر، فعبرنا البوابة المجاورة للبرج الأثري المتخذ للدفاع عن المدينة فيما يبدو السور عاكسًا لفكرة التحصين القديمة، حتى وصلنا إلى قصر خان، بمعماره الممتد من روح الثقافة الأذربيجانية وفنونها في العصور الوسطى.
بني القصر عام 1797م على يد محمد حسن خان، وأدرجته اليونسكو ضمن التراث العالمي عام 1998م، فكانت واجهته قبلة جمالية بديعة بدقة التفاصيل وجمال الواجهات، تستدعي النظر في تلك اللوحة، وأمامه شجرة معمرة تمتد صانعة ظلالها فيستريح السياح إليها، ريثما يكملون جولاتهم في تلك الحدائق الأنيقة، يفتشون في زوايا التاريخ عما يقوله عن «شكي» هذه، والتي نزحت إليها من الجانب الشمالي للبحر الأسود وجنوب القوقاز قبائل إيرانية تدعى «ساكاس» خلال القرن الثامن للميلاد فبقيت فيها.
في طريق الخروج من ساحة المدينة القديمة، والشعور بأنك في زمن تاريخي مختلف يعود بك على الأقل مئات السنوات إلى الوراء، كانت نغمات المزمار تتجول في المكان تحت الغيم الذي بدأ يتشكل، وقف عازفها بعمره الستيني إلى جوار زميله على الإيقاع يأملون ببضع «نانات» في تلك الظهيرة، وعلى يميننا كان السهم يشير إلى متحف فني، فتبعناه لنجد قاعات صغيرة تعرض كنوزًا كبيرة من الثراء الفني، لوحات تستوقف الرائي بفتنة ما تعرضه. 
يجذبنا محل حلويات بألوانه المميزة، يستقبلنا الرجل بترحاب كبير، يقول إن المكان مفتتح منذ نحو 103 سنوات، وأشهر حولياته واحدة تعدّ الأشهر في أذربيجان، وتنسب إلى مدينة شاكي، فهي حلوى... شاكية.

المكان يتنفس زهرًا... في قوبا
هي القاف مرة أخرى، تنطق بين الجيم والكاف، وقريبًا من القاف، وعليك أن تراوغ الحروف الثلاثة لتنطقها جيدًا، لكن الطريق إليها يشبه هذا الوضع الإشكالي في نطق اسمها، قوبا، يتلوى بين الجبال فلا ترى حواجز حماية تقيك خطر الانحدارات على جانب الطريق، عبرنا جبالاً تشبه جبالنا، جرداء لا شجر فيها، وأخرى كالتي في أخيلتنا لوحات تنطق بموسيقى الاخضرار مع زهرات صغيرة تتكاثر، فتمنح الأمكنة سحر رقصاتها تحت وقع نسمات ناعمة.
تسأل عن فنجان قهوة، يدفعك للنشاط أكثر، مع توالي صور الجمال، فيجيبونك أن القهوة ليست من أبجديات يومياتهم، هناك الشاي فقط، حتى بيوتهم ليس بالضرورة أن تكون بها حبوب البن.
يهدئ السائق من سرعته، عليك أن تدرك فورًا، ووفق ما اعتدته كثيرًا، بأنه ثمة أبقار تعترض الطريق، فيراوغ عبر المسافات التي بينها... ليعبر... لكن كل ذلك لا يخدش سطح نظافة الأمكنة، مع الهدوء العام الذي يسود كل شيء، الطبيعة، والحيوانات، وصولاً إلى البشر الذين تشعر أنهم يتهامسون إذا تحدّثوا إلى بعضهم البعض.
عبرت بوابة قوبا، تلك الواقعة على المنحدرات الشمالية لجبال القوقاز، نحو مدينة آسرة بالجمال، وكان مقر الإقامة قريبًا من بحيرة تتمدد بين حواف سمحت بها غابة، رغم أن المكان يبدو بكامله كغابة مجللة بالأشجار المتنوعة، مثمرة وغير مثمرة، علما بأن أذربيجان تعد من أكبر الدول المنتجة للعنب، لكن قوبا تشتهر بالتفاح... وبالشلالات.
منها إلى هاشداغ، والجو الممطر الذي يعطي البقعة المحاطة بالجبال جمالها الأخّاذ، بحيرة ومطاعم، وجبال يهبط عليها الغيم، والسلك الممدود بين نقطتين متباعدتين يطير بعشاق الترفيه بسرعة، وكأنهم يحاكون الطيور في تنقّلها بين عش وآخر.
منتجع كل ما فيه جميل، مجسمات بديعة الألوان، ويقال إن الشتاء مبهج أكثر، حيث تتحول المنطقة إلى بقعة بيضاء، فأبقينا نقلّب أبصارنا بين جمالية المكان، لولا أن عاجلنا المطر بكثافة.
نخرج من عباءة أذربيجان، ولم نشعر أنها «أرض النار»، بما يليق بها وهي المكتنزة للنفط والغاز في مسامات جلدها، بل هي أرض تتناسل فيها أشياء لا تحصى، المطر والجمال الطبيعي، الدم كما جرت بها صحائف تاريخها عبر مختلف القرون وعرفت من الغزاة ما عرفت... وهي أرض السكينة الجميلة التي يجد فيها زائرها ما يبتغيه من فسح للتأمل والمشي في حدائقها وغاباتها وجبالها الخضراء ■

إطلالة على المدينة من تلة عليها نصب الشهداء، ويظهر مبنى تجاري وبجواره متحف السجاد

شارع نظامي، أهم شوارع باكو وأجملها، يكوّن "وسط المدينة" فيجتذب الزوار ليلا ونهارا

مبنى البرلمان في مدينة باكو.. واجهة أنيقة في المكان، وفي الحياة السياسية

جبل النار، حيث تبقى النار مشتعلة بفعل الغاز الموجود في الأرض

أبواب مشرعة في حقول أزهار الخزامى التي ودّعت ربيعها، بانتظار آخر

لقطة تظهر إطلالة أبراج النار على المدينة

فعالية فنية اجتذبت العابرين ليطلوا من على تلة باتجاهها.. وباتجاه الغروب البديع.

برج العذراء، حارس المدينة القديمة

متحف علييف بجمال معماره الباذخ، بتوقيع زها حديد.

اشتغال جمالي يجذب زوار متحف علييف، حيث تتراقص هذه القطع من الأقمشة ككائنات حية أنيقة

«شاهداغ» بقعة من الجمال ترحب بالسياح، واللوحة تجتذب من يصل إلى هناك لتوثيق الصورة قبل أن يباغته المطر