الكاتب والروائي الليبي سالم الهنداوي: تحوّل المجلات الثقافية إلى «إلكترونية» موتٌ سريريّ

الكاتبُ والروائي سالم الهنداوي... والإبداعُ حياة... والحياة زادُها المعرفةُ الحقيقيةُ والقليلُ من الماء والهواء والطحين! يكتبُ لأنّ الكتابة لديه حلمٌ متلوٌّ بيقظةٍ، بهِ يُجمّل الحياةَ، ويهزمُ الموتَ، كاتبٌ مثابرٌ منحازُ إلى الوطن، وما الكتابةُ والإبداع لديه إلا وثيقة انتماء للوطن والأرض والإنسان... لا يكتب بأصابعهِ بلْ بكلّ جسدهِ، كاتبٌ لا يتسلى، ولهذا يربضُ في إيقاع كلّ كلمةٍ، يتماهى مع كونها الفردوسيّ، وأنغامها الملائكية، ويجدُ نفسّهُ متجدّدًا... مُتفجرًا، والصانع الأمهر عند بريق كلّ حرفٍ فسفوري من حروفها... وعند كلّ لحظة صخبٍ ضروري تحدثها جملته القصّصية والروائية الرشيقة.
سالم الهنداوي الدبلوماسيّ والكاتب والمثقف الإنسان يكتبُ لأنّ الكتابة المكثفةَ المقتصدةَ متسعُ الرؤية... وهي لديه أداة ربيعية من أدوات تجميل الحياة وترتيبها... وموسقة الكون، والاطمئنان على هندسةِ ألوانهِ، والاقتراب من أنين إنسانه... مواطنه... وبطله الحقيقيّ وهوَ يحلمُ... ويعشقُ... ويبدعُ علاقاتٍ صباحية جديدة... ويسخر من التحيات التقليدية الصدئة. كاتبٌ مثابرٌ مؤمنٌ حتّى النخاع بأنّ الكتابة مصنع الحياة... وهي صانعة الإنسان... وحاملة بشائر الأمل والحلم في اللامكان واللازمان... ولديه الكثير لقرّاء مجلة العربي الرائدة، ممّا هو مثير وجديد إبداعيًا... وإنسانيًا، وفي ما يلي تفاصيل الحوار:
● كاتب مقال، وقصّة قصيرة، وقصص للأطفال، ورواية، وصحافة وإعلام، خلطة إبداعية تشكيلية، مادتها لحمُ الروح، وفتافيت الجسد، وسنين عمر، مغامرة تفوق مغامرة ركوب البحر، شاقة وعذبة في آنٍ. أين كان سؤالك الأعظم في هذه الفسيفساء... أليس الإبداع بمجموعه سؤالًا؟ ما سؤالك الذي يصعب أن تغتاله الإجابة؟
- نحن في رحلة حياة زادها المعرفة والقليل من الماء والطحين، نعيش على الرؤى لنتجاوز القلاع الحصينة للجهل وغرور السُّلطة، ونبني بيوتًا على الرمل بأنامل الصِغار... حالمون دومًا على وسادة البراءة، لذلك نحن لا نشيخ وإن بدا علينا التعب. في رحلة الحياة خبرنا أسئلة القوافل التي تمرُّ بنا في متاهة الطريق، وتعرّفنا على قُرى نائية بها بشر لا يتكلّمون، وقُرى أخرى يحرس جمالها النساء. أخذنا من كُل الينابيع ما يسدُّ رمقنا في الطريق، واسترحنا على باب الدنيا الكبير نسرد رحلتنا للعابرين، فكانت المقالة على فكرة الرحيل واحتمالات الطريق. وكانت القصّة القصيرة هي الطلقة الوحيدة في بندقية الصيّاد الماهر، صائبة الهدف لمرّة واحدة، وهي ماثلة دائمًا في الذاكرة كبيتٍ واحدٍ من قصيدة. أمّا الرواية فتلك حكاية طويلة من ماضٍ حقيقي أو ماضٍ متخيّل، من سِماته لُغة السرد وتجلّياتها التي تحفظ بُعد الزمان في المكان ولا تغادره بلا سبب، فترى الرواية وقد أضحت فضاءً يتّسعُ للرؤى لا يحجبها غيم المدى، وكُل شخوص الرواية أحياءٌ نبعثهم من موت، فثمّة وجوه تعيش بيننا لمرّةٍ واحدة ثم تختفي، لكنّها تترك الأثر المُبين فينا قيمًا وجمالًا ومواقف في الدنيا كما كان الأنبياءُ الذين نعيش بإرثهم العظيم في التاريخ، وننهل من مآثر الأوّلين ما يحفظ العهد لتراثنا العربي الغزير.
لقد كان التراث العربي منطلقًا لفكرة البحث عن الصيرورة بين الأصالة والحداثة في الرواية العربية، كما في تجديد الشعر الذي سكن كُل الكلام البصري واللفظي، فمن المعلّقات سقطت قصيدة البيت الواحد، ومن قصيدة البيت الواحد سطعت مقولة «النفري» على كُل الأجناس الأدبية؛ «كُلّما اتّسعت الرؤيا ضاقت العِبارة».
الخيالُ متكأنا الشعبيّ
● الكاتب سالم الهنداوي أيقونة جيلٍ، برصيد إبداعي تجاوز الـ8 مجموعات قصصية، و4 روايات مهمّة ومثيرة... ودراسات نقدية أخرى... بدأت قاصًا، بأصعب السرد، هل القصة القصيرة هي أصعب أنواع السرد فعلًا؟ ما وجه الصعوبة؟ عرفها «ماركيز» كالسهم في الهدف! لماذا؟
- هي النَّفَس القصير المشحون بالتأمُّلات، والمليء برؤيا كُلّما اتّسعت ضاقت العِبارة. فقد برهن شيخ التصوُّف «النفري» على ذلك عندما قدّمنا نحن قِصار القصص ظنًا منّا أنها الأقل كُلفة إبداعية فإذا بها تطول ذهنيًا في التأمُّلات لتصبح الأصعب طولًا في أقل الكلمات. لقد غلب النثر على السرد في مزاجية إبداعية عفوية وتلقائية عالية الكثافة تمطر في عزّ الغيم فتنثر رذاذها على السنابل والبشر والضفاف والمُدن والأرياف بما يجود به خيالنا الخصب البعيد من تماهيات اللحظة وانفعالها، لنجد أنفسنا وقد أطلنا التأمّل في الأشياء الدقيقة التي قد لا يراها الناس، وفي التفاصيل المنسيّة في الحياة، وبحالة كتابة اللحظة وإنتاج النصّ نُدرِك أننا فعلًا لم نكن نراها صغيرة وهامشية في الحياة.
في مطلع سبعينيّات القرن الماضي بدأنا كجيل مغامرة التجريب مع القصّة القصيرة جدًا، وقدّمنا محليًا وعربيًا نماذج وبواكير لافتة انفتحت في تجربتها على مُختلف فنون التعبير من مسرح وسينما وموسيقى وفن تشكيلي، وكان تراثنا العربي الغزير قد أثرانا بجماليّات الخيال في سرديّات خالدة مثل «كليلة ودمنة» و«ألف ليلة وليلة» و«السيرة الهلالية»، وما إلى ذلك من خيالٍ عربي امتدّ في الزمن وأنتج صُنّاعًا بارعين ورواةً شعبيين تقاطعوا مع الأزمان فتأثرنا بأساليبهم، مثل «الحكواتي» في الحارات القديمة ومثل «حكايات الجدّات» في الليل قبل أن ننام... فكان الخيال متكأنا الشعبي الذي عشناه في طفولتنا وجعلنا ننسج الحكايات والخراريف المستوحاة من كُل هذا التراث الحكائي، فكانت التجربة معنية بجيلها الذي غامر وأسهم في الحداثة دون أن يتأثر بمفاهيمها الغربية التي قصدت وقتها الشعر دون سواه، وكُنّا نُدرِك أن تلك الحداثة الوافدة من الغرب كان مصدرها التراث العربي الذي تأسَّست عليه النهضة الأوربية بعد نقل مكتبتنا العربية من الأندلس إلى أوربا على ظهور «حمير» شقّت الوديان في الظلام لتسطع شمس الغرب بمآثر عُلماء المسلمين في مختلف مجالات العلوم والآداب، في الفيزياء والكيمياء والرياضيات وعِلم الذرّة والسرديّات. لقد أشبع الخيال العربي العقل البشري في رحلة حياة طويلة امتدّت في إنجازاتها المعرفية منذ العصر الهيروغليفي العتيق إلى عصر الحداثة والتدوين، لذلك فكُل الحياة تشكّلت وتتشكّل في قصص قصيرة تنبض بحيواتها في الوجود.
الجوائز الأدبية ساهمت في تردّي مستوى الرواية
● ابتداءً من «الطاحونة» 1985م أولى نتاجك الروائي والتي أعيد طبعها أكثر من مرة، وليس انتهاء بـ«رحلة نوح الأخيرة» و«ليل بيزنطي» 2019م... أصبحت الرواية نافذتك إلى العالم، وهي سؤالك الأعظم، قلْ لي أهي سؤال العالم بكليته - كما قال هرمن بروخ؟
- كان من الصعب أن تبدع القصّة القصيرة جدًا ثم تكتب رواية بذات الرؤيا والذهنية والصفاء الزمكاني، فكلاهما مختلفان ولا يلتقيان سوى في شذر كلمات أو صور أثناء الكتابة، وهو استدعاء طبيعي تفرضه الحالة الإبداعية وتماهياتها بين الرؤى واللغة، فرغم تلقائية السرد في الرواية والسيطرة على بنائها تظهر مشاهد شعرية تتألق فيها اللغة فتحيل السرد إلى موقع جمالي يُكسب الرواية نشيجًا وأعماقًا وجدانية تبرهن على مهارة الكاتب اللغوية وقدرته على التكثيف وتفعيل النصّ من داخله. هناك روايات كثيرة أهملت شعرية اللغة فوقعت في الثرثرة الطويلة أخسرتها القارئ، ولعلّنا اليوم نلاحظ غزارة الروايات التي تصدر كمًّا بتقييم المتابعين ولا كيف لها، فكان المستفيد من ظاهرة التقليد والاستعجال في النشر هو الناشر الذي قبض المال وأهمل الإبداع، فكان الكاتب ضحيته الأولى قبل القارئ الذي خدعته الدعاية فاقتنى عنوانًا لثرثرة نزعت جمال اللغة.
حتى الجوائز الأدبية التي تمنحها المسابقات بهدف التشجيع على الإبداع، ساهمت في تردّي مستويات الرواية. لقد كانت الرواية إلى جانب الشعر عاملًا مهمًّا في حياة الشعوب، في أمريكا اللاتينية مثلًا وفي فرنسا وفي المنطقة العربية، والتاريخ يحفظ تلك الأعمال الخالدة في الأشعار وفي الروايات الإنسانية التي سطّرها المبدعون شرقًا وغربًا، وكانت حاضرة في وجدانهم.
في تجربتي كانت روايتي «الطاحونة» ملحمة للعطش «الحرية» كما وصفها عند صدورها الشاعر اللبناني الراحل محمد علي شمس الدين في عرضه الطويل بمجلة «الكفاح العربي» اللبنانية عام 1986م... وفي قراءة الكاتب المغربي هشام بن الشاوي في مطلع الألفية الثانية، وفي دراسة الدكتورة «كاريس اولسوك» الباحثة في جامعة «كامبريدج» البريطانية، وفي العديد من الرسائل الجامعية في ليبيا، فلقد حظيت «الطاحونة» باهتمام نقدي ملحوظ منذ نشرها على حلقات عام 1984م بمجلة «الموقف العربي» التي كانت تصدر في قبرص، وكذلك بعد صدورها في طرابلس عام 1985م، وطبعاتها العربية اللاحقة في بيروت والقاهرة وعمّان.
في تجربة روائية أخرى، كتبتُ «خرائط الفحم» عن الحرب والفناء، وبفضاء متخيّل فنتازي يحكي نهاية البشرية في حرب كونية ثالثة، والناجون من تلك الحرب هُم من كانوا في «رحلة نوح الأخيرة» عنوان الروايتيْن معًا.
مجلة «المجال» تجربة ثقافية ليبية مهمّة
● كإعلامي ورئيس تحرير مجلة ليبية مرموقة وهي «المجال» كانت تظاهرة ثقافية ولقاءً إبداعيًا لكل الكتّاب العرب... قل لي ماذا أضاف الإعلامي للسردي؟ وما تقييمك للفضاء الثقافي العربي؟ أهو فضاء شلّلي، علاقات وتبادل منافع ومصالح... ماذا تقول؟
- كانت مقالاتي في مطلع السبعينيّات تسبقني إلى صحافة «الكويت» مع مجلّة «صوت الخليج»، ثم صحافة «المهجر» التي تأسّست في لندن منتصف السبعينيّات بمجلّة «الدستور» وبصحيفة «العرب»... كانت قضية فلسطين آنذاك دافعًا لي ولغيري من الصحفيين للالتحاق بالصحافة المشرقية، ولقد كان لبيروت فاتحة المقال القومي، وهو ذاته الاشتغال الذي تماهى مع الكثيرين في سورية. وأثناء الحرب اللبنانية كانت قبرص المحطّة الأولى لصحافة المهجر. كنتُ حينها صحفيًا غير مقيم، أتنقّل بين نيقوسيا وبيروت ودمشق والقاهرة، وأكتب مقالاتي في صحافة لندن وباريس ونيقوسيا، وأعمالي الأدبية في عددٍ من الدوريات الثقافية مثل «الآداب» اللبنانية و«أقلام» العراقية و«الكاتب العربي» السورية و«الاغتراب الأدبي» في لندن، وبعد ذلك في «الناقد» و«الدوحة» و«دبي الثقافية» و«نزوى» العُمانية، بالإضافة طبعًا إلى مجلتي «الفصول الأربعة» و«الثقافة العربية» الليبيتيْن... وفي مطلع الألفية الثالثة ترأست في ليبيا تحرير مجلّة «المجال» للثقافة والعلوم حتى توقّفت في ديسمبر من العام 2010م، فتركتْ «المجال» فراغًا ثقافيًا محلّيًا وعربيًا... كانت تجربة ليبية مهمّة اتّسمت برصانة استقطبت أهم الأسماء العربية، وكان أجمل تعليق قيل فيها وتكرّر كثيرًا، أنها شقيقة «العربي» الكويتية، وكنتُ سعيدًا بقيمة هذا التشبيه.
اختفاء المجلات الثقافية
● كمبدع وناشط إعلامي أيضًا، كيف تفسّر اختفاء مجلات ثقافية مهمة مثل الآداب، دبي الثقافية، وآفاق عربية، وغيرها تحوّل إلى إلكتروني مثل الدوحة والرافد والبحرين الثقافية... ما هوية هذا الوضع الثقافي العربي؟ كيف تعلل هذا الهبوط والهزال الثقافي؟ وما أسبابه؟
- في تقديري أن أيّ مجلّة ثقافية ورقية مهمّة تتحوّل إلى إلكترونية، أعتبرها توقّفت عن الصدور، فلو أقيم حفلٌ لنهايتها بحضور رموز كُتّابها لكان أفضل لها من أن تتحوّل إلكترونيًا، وهو الموت السريري لها... النشر الإلكتروني للصحافة الإخبارية وليس للصحافة الثقافية الفكرية التي نحتاج إلى صفحاتها الورقية بين أيدينا نقلّبها برائحة الحبر فيها وبملمسها وبالنظر الطويل في مطالعة محتوياتها فلا نتعب، ونرجع إليها حتى والكهرباء مقطوعة، فلا أجمل من قراءة كِتاب أو مجلّة على ضوء شمعة أو مصباح كيروسين، فلا يجب أن «تتكهرب» كُل حياتنا فنعيش بأعصابٍ من أسلاك كهربائية ننقطع ونعود لأي خلل تقني في عالم صار يهجر الطبيعة وقد يجتاحه الظلام فيتكلّس ويفقد الأحاسيس، وقد بدا العالم فعلًا في الظلام المعرفي بحجب الصحافة الورقية ثم سيأتي الدور على الكِتاب الذي لن يكون له معرض في المستقبل ولا مكتبة في المدينة!
لقد خسرنا بالفعل هذه المجلّات الرائدة التي كتبنا فيها لعقود من التألق والمثابرة والسفر واللقاء، فكانت ملتقى أقلامنا الثقافية على صفحاتها الأسبوعية والشهرية وهي جسرنا الثقافي بين المشرق والمغرب، وقد كانت وراء ظهور وانتشار العديد من الأسماء المهمّة في ثقافتنا العربية.
«العربي» أمّ المجلات العربية الطليعيّة التنويريّة
● مجلة العربي الكويتية في طليعة المجلات الثقافية والفكرية العربية، وهي نافذة مشرعة الأبواب بلون النسمات لكل الكتّاب العرب قاطبة... باقية ومستمرة حتى نهاية الزمان... تتابعها بالتأكيد، فما رأيك بما يبذل فيها من جهدٍ لاحتواء الفكر والثقافة والأدب الإنساني، وجادة في الوصول إلى القارئ العربي في كلّ مكان؟
- أنت تسألني عن أشهر المجلّات العربية وأكثرها قيمة منذ أول صدورها في العام 1958م في زمن عربي مفصلي كان يتلمّس طريقه في عالم الصحافة... لقد حقّقت مجلّة العربي انتشارًا عربيًا لافتًا وصلت فيه إلى زيادة طبعاتها إلى 320 ألف نسخة للعدد الواحد، وهذا ما لم تحقّقه مجلّة عربية أخرى لا قديمًا ولا حديثًا، إضافة إلى استمرار صدورها دون توقّف وحفاظها على تبويبها المُعتاد وقيمتها التاريخية التي جعلت الكثير من متابعيها في أنحاء الوطن العربي يحتفظون بأعدادها القديمة الصادرة منذ عقود فيتباهون بأرشفتها... نعم، مجلّة العربي هي أم المجلّات العربية الطليعية التي واكبت حركة التنوير والحداثة العربية منذ الراحل الكبير «أحمد زكي» وحتى «إبراهيم المليفي» بإشراقاتها الشهرية الناصعة من قلب «حطّين» في كويت الصحافة والفكر والأدب والفن.
المثقفُ الدبلوماسي يعملُ لوطنهِ وقيمهِ الثقافية
● ماذا أضاف الدبلوماسي للكاتب المبدع؟ ومدى اللقاء والافتراق بين الثقافي والسياسي؟ حدثني!
- عملتُ في السلك الدبلوماسي كمثقّف وإن كنتُ بصفة سياسي، ذلك أن السياسي يعمل بتوجيهات الدولة لتحقيق مصالح سياسية مُحدّدة، فيما المثقّف يعمل لوطنه وقيمه الثقافية من خلال الحوار الثقافي مع الآخر المعني بالضرورة بتاريخ وحضارة بلاده، وهنا تتجسّد قيمة العمل الثقافي المُشترك بين البلدين على قاعدة تراث الشعبيْن وهُويّتهما الثقافية «القيمة الباقية التي لا تزول بموقف سياسي»، فقد ينتهي العمل بمعاهدات سياسية واقتصادية بين بلدين، لكن التأثير الثقافي لا ينتهي بين الشعبيْن... لقد أقمتُ في قبرص لسنوات وأنا أعمل في الصحافة وكانت لي علاقات جيّدة في شطري الجزيرة مع القبارصة اليونانيين والأتراك على السواء، وعندما تم إيفادي مُستشارًا ثقافيًا بالسفارة الليبية عام 1997م توجّهتُ مُباشرة إلى معارفي وصداقاتي القديمة وتواصلنا بالحوار الثقافي من خلال المركز الثقافي الليبي ومعارض الفنون والندوات الثقافية واللقاءات الإعلامية المفتوحة التي كُنّا نجريها بشكل اعتيادي في منتدياتها، ومن المكاسب السياسية أيضًا كانت صداقتي بالرئيس القبرصي الراحل «غلافكوس كليريدس» الذي كان يعشق الأدب واطلع على بعض نصوصي المترجمة لليونانية، وكذلك صداقتي برئيس البرلمان الدكتور «فاسوس ليساريدس» الذي عرّفني به السفير الليبي الأسبق في قبرص الكاتب والمثقّف الدكتور «عبدالوهاب الزنتاني»... والمفارقة العجيبة أنه حين تم انتخابي عام 2000م رئيسًا للمجموعة العربية للإعلام التي ضمّت حينها الملحقين الإعلاميين بالسفارات العربية والمراسلين الصحفيين العرب المعتمدين في قبرص، انزعجت السُّلطات في ليبيا وأنهت عملي بالسفارة لأعود بخسارة ما كسبته عن جدارة من علاقات لصالح ليبيا ومكانتها في تلك الجزيرة بالغة الأهمية، ولذلك فالعمل السياسي قد يهين قدراتك الثقافية لأنه محدود العطاء بإرادة مسؤول سياسي يفتقر للرؤية فيعجز عن تحقيق أدنى مصلحة لبلاده، فيما الثقافة، وبرؤية المثقّف الواثقة، يمكنها تحقيق الكثير من الأهداف النبيلة بحوارها الحضاري القائم على المُشترك الثقافي بين البلدين والشعبين، وليس بين حكومتين قد تنتهي العلاقة السياسية بينهما بزلّة لسان في تصريح صحفي عابر!
مثقفُ السلطة بعيدٌ عن الإنسان والوطن
● لكَ الصدارة من بين كلّ الكتّاب الليبيين في علاقاتك مع الكتّاب والمثقفين العرب، وتواصلك مع المؤسسات الثقافية العربية... ما أسباب عزلة الكاتب الليبي وعدم انتشاره وهناك كتّاب كبار لهم بصمتهم الإبداعية وريادتهم لفنون الإبداع.. أهو الإعلام؟ أم السياسة؟ أم هو تقصير من الكاتب نفسه؟
- قد تكون كُل هذه الأسباب مجتمعةً، فالإعلام في ليبيا الذي توالى على إدارته العديد من الشخصيات الولائية للنظام لم يكن مستقرًا سياسيًا لينتبه لقيمة العمل الثقافي وتأثيره وأهمية التصدير المعرفي من خلال مثقّفين وطنيين كان بإمكانهم لعب دور كبير من خلال السفارات والمراكز الثقافية والمؤسسات الإعلامية في الخارج بالرغم من الرعاية الشخصية التي أولاها الزعيم الراحل معمر القذافي لبعض الكُتّاب بتمكينهم من الإقامة في الخارج بالعمل في السفارات ورعاية مشاريعهم الثقافية الخاصّة أملًا مستمرًا في الولاء، لكن الرهان على بعض هؤلاء لم يكن موفّقًا بتاتًا، فبمجرّد سقوط «القذافي» تبرأوا علنًا من العلاقة به وانصرفوا عنه رغم دعمه لهم ومنحهم جائزته الكبيرة، وهنا كان الثمن رخيصًا في حياة مثقّف السُّلطة الذي عاش على رغيدها وابتعد عن الإنسان والوطن، لينهار مع السّلطة فلا يبقى له إنسان ولا وطن!
هناك بالمقابل مبدعون آخرون عرفتهم الساحة الثقافية العربية من خلال مشاركاتهم في بعض مهرجاناتها الموسمية كالمربد الشعري في العراق، وهؤلاء قلّة قليلة لم يستثمروا لقاءاتهم وصداقاتهم بالمثقّفين العرب وتطوير هذه العلاقات بالتواصل معهم. كما أن هناك أسماء ليبية مهمّة جدًا وذات قيمة فكرية عالية، لكنّها كسولة وتنتظر من يأخذ بيدها للتعريف بقدراتها وتمكينها من النشر والمشاركة في الفعاليات الثقافية، العربية، بعكس الراحل الكبير «الصادق النيهوم» الذي كان حضوره الثقافي لافتًا عربيًا ودوليًا، وكان من أهم الأسماء الفكرية في الوطن العربي التي راهنت عليها كبريات المجلّات العربية، والذي بموته رحمه الله عام 1994م توقّفت مجلّة «الناقد» بمُجرّد خسارتها لاسمه.
في الرواية يبرز منذ عقدين تقريبًا اسم «هشام مطر» الليبي البريطاني المولود في الولايات المتّحدة كأحد أهم الروائيين بنيله جائزة «جورج أوريل» للكتابة السياسية لهذا العام 2024م، عن روايته «أصدقائي». كما يبرز اسم الروائي «جمعة بوكليب» المقيم في لندن التي أصدر فيها مجموعته القصصية «حكايات البر الإنجليزي» ورواية «مناكفات الربع الأخير» وبالإنجليزيّة روايته القصيرة «نهارات لندنية». كما يحضرني في هذه السانحة الحضور المميّز للشاعر والكاتب الليبي الأمريكي «خالد مطاوع» وهو مترجم أدبي رائد، مهتم بترجمة الشعر العربي إلى اللغة الإنجليزية ويعمل أستاذًا مساعدًا للكتابة الإبداعية في جامعة «ميشيغان» بالولايات المتّحدة، وله عديد من الأعمال المترجمة للعربية.
● سالم الهنداوي في قلوب الكُتّاب والمثقفين في الوطن العربي، سيرة حياة إبداعية بأقلام الآخرين.. كيف استقبلت هذا الكِتاب الذي يؤسّس للوفاء والتواصل بين المبدعين تحت كل نجمةٍ عربية مضيئة بالإبداع وزفافها الكوني الكلمات؟
- كانت مبادرة رائعة من «الدار الأهلية» في الأردن على نشرها كِتاب الشهادات الثقافية في تجربتي الصحفية والأدبية (سالم الهنداوي بأقلام عربية) لنخبة من أبرز الكُتّاب والأدباء العرب من مشرق الوطن العربي ومغربه ومن كُتّاب وأدباء وأساتذة جامعات مقيمين في أمريكا وبريطانيا وفرنسا وأستراليا وسلوفاكيا وكندا وتركيا سطّروا بأقلامهم الوفية شهاداتهم الثقافية بمناسبة مرور نصف قرن من عطائي الصحفي والأدبي. كان الكِتاب تتويجًا لمسيرتي الصحفية والأدبية وتكريمًا ووفاءً من المشهد الثقافي العربي لتجربتي، وقيمة ثقافية تاريخية أعتزُّ بما تناولته عن قرب ولامست حياتي وكتاباتي بالكثير من الحُب، فكانت تجربتي تكبرني وأنا أقرأ أصداء قلمي في بيروت قبل عقود، كما في القاهرة وبغداد ودمشق وعمّان والرباط وصنعاء وتونس والجزائر والكويت ومسقط والدوحة، وغيرها من المُدن والعواصم التي احتفلت بي وبليبيا التي كنتُ لها سفيرًا باسمي وعطائي في الفكر والصحافة والأدب. فشكرًا لكُل من أحبّني في هذه البلدان وقدّمني بهذا التقدير والوفاء، والشكر للدار الأهلية في عمّان على تجميعها لهذا القدر الكبير من شهادات الوفاء ونشرها في كتاب «سالم الهنداوي بأقلام عربية» ليكون المرجع المعرفي العربي المهم لمسيرتي الثقافية.
الكتابةُ فعلُ وجود
● قال «نجيب محفوظ»: «أموتُ إذا ما مُنعتُ من الكتابة»، وقال «ماريو فرجاس يوسا»: «الكتابة الطريقة الوحيدة كي أحيا»... هل الكتابة الموازي للحياة إلى هذا الحد؟ ما تعريفك للكتابة؟
- لطالما حاولتُ أن أكون قريبًا من الناس، وواقعيًا في أتون علاقات ملتبسة كرّست لمفهوم العبودية التي صنعتها السياسة، وأن أظفر بقيمة الكتابة في مواجهة هذه العبودية.. فكان رصيدي من مواد السرد والمقالات نابعًا من الذات دون سواها، وهي الحقيقة الباقية التي تحفظ قيمة الإنسان ووجوده... فالكتابة في تقديري فعل وجود، وليست فعلًا في الوجود. الكتابة هي دورة الحياة الكاملة في الوجود. لقد تعرَّف الإنسان على الوجود لأول مرة فحاول ملامسة الأشياء من حوله ولم يندم. تلك الأشياء التي لامسها قادته إلى المعرفة بأسرارها. تلك المعرفة بالوجود كانت من فعل الإنسان، ولذا فالكتابة هي تدوين ما يكتشفه العقل ويدركه الخيال، في الفكر وفي النقد وفي فلسفة الجمال والأدب، هي صانعة قيمة هذا الاكتشاف بعوالم الوجود منذ بدء الخليقة.
التكريم ولادة جديدة لعطاء ثقافي وإبداعي
● كرّمتكَ مدينة بنغازي، وفاء لدورك الثقافي، بحمل اسمك مركزًا ثقافيًا، وهي بادرة طيبة، في تكريم الأديب والكاتب في حياته... كيف كانت مشاعرك أمام هذا الإنجاز الحضاري الإنساني؟
- كان حفلًا كبيرًا بهيجًا أضاء ليل بنغازي في جامعة (بلاغراي) بحضور أفئدةٍ دافئة من أهل العِلم والثقافة والفن، صديقات وأصدقاء ورفاق زمن عطاء امتدّ منذ مطلع السبعينيّات، كُتّاب وأدباء وفنّانون وأساتذة جامعات، حضروا لتحيتي من القلب وإطرائي بكلماتٍ أبهجتني وأبكتني في آن... حتى أني في اللحظة تلاشيتُ في عبق حفاوتهم الغامرة وخلتُ نفسي ميتًا لوقت، فأحيوني في اللحظة بودادهم الحميم كمن عاد للحياة بعد موت بلا رثاء... أعادوني للحياة بعد موت الأيام العابرة، لأولد من جديد بعد خمسين عامًا من العطاء الثقافي والإبداعي.
لم أحسب أن الوطن سيكون جميلًا إلى هذا الحدّ من الوفاء فيكرّمني حيًّا بهذه الحفاوة منقطعة النظير... كنتُ ساكنًا في ذاتي وأكتبُ بذاتي لذاتي، وبعد نصف قرنٍ من الكتابة والرحيل، وفي أمسية (الحياة) في بنغازي كشفوا عن ذاتي في كلماتهم المُعبِّرة لأكتشف دون أن أدري أن ذاتي كانت هي وطني.
شكرًا لوطني مُمثَّلًا في سواعده المخلصين، من رجالات العِلم في جامعاتها العريقة والفتيّة، ومن رجالات الفكر والثقافة والأدب والفن في ضميرها الحي، أبناء العاشقةِ والمعشوقة، بنغازي جمال اللحظة والذكريات. الشكر موصول لأسرة جامعة بلاغراي وللبروف «ميلاد الحراتي» على متابعته وتنظيمه ورعايته الكريمة، وللشاعر «خالد المغربي» على تواصله وتقديمه لفقرات الحفل، ولمدير مكتب الثقافة في بنغازي الدكتور «محمد شريف بوغرارة» بإعلانه تسمية مركز بنغازي المدينة الثقافي باسمي تخليدًا لي ولعطائي الوطني... شكرًا لوطني الذي رأيته يكرّمني.
أنا مدينٌ لكلّ تجربةٍ حقيقيةٍ في العالم رأيتُ فيها تجربتي
● كتبَ «لوكليزيو» في رائعته «الباحث عن الذهب»: «الحياة لا نهاية لها، الكتب الحقيقية لا نهاية لها أيضًا»... أي الكتب شغلك كثيرًا، وأثّر في أسلوبك السردي وفي رؤاك؟ وأعني لمَن تدين بمغامرة الكتابة؟
- في الحقيقة أنا مدين لكُل كاتب وشاعر جميل في العالم أثراني بتجربته ومنحني الثقة في الكتابة بروح المغامرة التي كانت وراء بداياتي مع القصّة القصيرة التي خرجت قديمًا من معطف «غوغول» ولم تنته بـ«خريف البطريرك» لماركيز، مرورًا بـ«طاغور» الهندي و«نيرودا» التشيلي و«حكمت» التركي، وكُل من سطعت كلماته في عينيّ على المعرفة الأولى المحمومة بشغف الاطلاع... لقد عشتُ صِباي مع تجربة «تشي جيفارا» الثائر في غابات إفريقيا وبوليفيا، وكان الأمريكي «هيمنغواي» صديقًا لكوبا الماركسية ولـ«فيدل كاسترو» الاشتراكي، فقرأتُ «الشيخ والبحر» بعيني الفتى المولع بالمغامرة الثورية في الأدب والحياة، ومن قراءاتي لأدبنا العربي القديم إلى الأدب الحديث في الغرب والشرق كنتُ المسافر بين أغلفة العناوين الكبيرة في التراث والحداثة، فاقتربتُ من تجارب شعرية وقصصية وروائية أحسستُ بعمقها الإبداعي الإنساني فكانت دافعًا لي للكتابة وبالمزيد من المغامرة والرغبة في التجديد.
أنا مدينٌ لكُل تجربة حقيقية في العالم رأيتُ فيها تجـــربتي، من كُتّاب وأدبــاء كِبار، إلـــى كُتّاب وأدباء مغمورين اكتفوا بالكتابة ولم ينالوا حقّهم في النشر والتعريف بقيمة مواهبهم الإبداعية ■