سحر البيادق والفيلة والقلاع عودة إلى رواية «لاعب الشطرنج» لستيفان زفايج

عاش الكاتب النمساوي ستيفان زفايج Stephan Zfaig بين قرنين وبين حربين عالميتين، واضطر للرحيل عن بلده هربًا من فظاعات النظام النازي، فعاش لفترة منفيًا بإنجلترا ثم ببعض دول أمريكا اللاتينية، وتميزت أعماله بسبرها لأغوار النفس البشرية وانتباهها لطرائق تدبيرها للعواطف، وتضمنت نقدًا سياسيًا قويًا للمرحلة التي عاش فيها، وتأملاً في الشرط الإنساني وفي محاولة الأفراد تجاوز حالات عزلتهم وابتكار أساليب للمقاومة والصمود.
وآخر ما كتب ستيفان زفايج قبل أن ينتحر رواية «لاعب الشطرنج» (دار المدى، 2017م) مما جعلها أقرب ما تكون إلى الوصية. هي رواية فاتنة وطريفة اعتمدت على بساطة مخادعة وتناولت موضوعات ذات بعد كوني، وفرضت نفسها كعمل كلاسيكي تتجدد جاذبيته بانتقاله من سياق ثقافي إلى آخر، وقد وقَّعها مؤلفها سنة 1942م وأثارت، على ما يبدو، فضول واهتمام الأديب المصري القدير يحيى حقي، صاحب رواية «قنديل أم هاشم»، فترجمها ترجمة أنيقة ورصينة اعتمدتها هذه الورقة.
يتعلق الأمر في رواية «لاعب الشطرنج» بإبحار دام 12 يومًا على متن سفينة كبيرة كانت تربط بين نيويورك وبوينوس أيريس، وبإبحار آخر في خبايا النفس البشرية يسعى لإضاءة ظلالها وعتماتها. وكانت لعبة الشطرنج هي الذريعة التي انتقاها هذا العمل لتتقاطع تجارب إنسانية عدة، ولتكون بمنزلة العامل الكاشف لما يعتمل في دواخل بعض النفوس. وقد تحولت السفينة إلى خشبة مسرح بشخصيات رئيسية وأخرى ثانوية تعيش حالة تشبه الحصار وتواجه مصائرها باستكانة ورتابة إلى أن حدث ما جعل الترقب سيد الموقف وشد بخناق هاته الشخصيات وكذلك بخناق القراء.
وكما في لعبة مرايا، أبدع زفايج نموذجين إنسانيين لا يتشابهان ولا ينتميان إلى نفس الوسط الاجتماعي، وليست لهما نفس القيمة الدرامية في تطور حبكة العمل، إلا أنهما تقابلا وجمعت بينهما نفس الرحلة وربط بينهما نفس الشغف الجارف إلى لعبة الشطرنج التي كان لها دور أساس في إضفاء التفرد على حياتيهما. النموذج الأول هو ميركو زينتوفيك الذي ذاق مرارة اليتم منذ سن الثانية عشرة، وأنقذته رعاية قسيس قريته الذي استوقفه كونه يعيش مكتفيًا بذاته ومستغنيًا بشكل يكاد يكون مطلقًا عن الآخرين. وما أخرجه من قوقعته تمتعه ببراعة فطرية في لعب الشطرنج تَم اكتشافها بمحض المصادفة، فذاع صيته وأصبح بطل المجر في سن مبكرة رغم مستواه الثقافي بالغ التدني ومزاجه العكر.
ومع توالي انتصاراته وربحه الكثير من المال «انقلب حياؤه إلى بجاحة باردة، يعرضها بعجرفة سخيفة على الناس ولا يبالي» (ص22). ولم يتعجب السارد من حدوث ذلك التحول وعلق متسائلاً: «أليس من الهين أن يحسب إنسان نفسه رجلاً عظيمًا إذا كان هذا الإنسان يجهل أن هذه الدنيا قد عرفت رمبرانت وبيتهوفن ودانتي؟»(ص22). إن معاشرة الفنون والآداب نعمة جليلة تهذب النفوس وتجعل الوجود أكثر رحابة. وذلك ما كان ينقص زينتوفيك الذي عامل ركاب السفينة ببرودة تقترب من الإهانة.
والنموذج الثاني الذي رفعته الرواية إلى الضوء، قدمه السارد على أن اسمه الدكتور (ب)، وسنتعرف عليه هو أيضًا ونحن نشهد تمكنه الباهر من لعبة الشطرنج بعد أن تدخل بعفوية وبشكل حاسم في مباراة كان زينتوفيك متحكمًا في مسارها. كان الدكتور (ب) قبل أن يستقل السفينة مسؤولاً عن مكتب للاستشارة القانونية يشرف على تدبير أملاك العديد من الأديرة وأملاك أفراد من العائلة المالكة بالنمسا. «فلما تولى هتلر سلطة الحكم في ألمانيا، وبدأ ينهب الأديرة والكنائس، كما حكى للسارد، تولى مكتبنا عقد صفقات واتفاقات كثيرة من وراء الحدود، وكان الغرض منها حماية موكلينا من مصادرة أموالهم» (ص42)، إلا أن المكتب سقط ضحية عملية تجسس من طرف عملاء نازيين فتم الإيقاع بالمشرف عليه.
هكذا ألقي القبض على ذلك الدكتور (ب) الغامض، لكن سجنه لم يكن سجنًا عاديًا؛ إذ تم إيداعه بغرفة بفندق مفصول عن العالم بشكل صارم وقاس جعله لا يعلم كم من الوقت مر عليه وما الذي كان ينتظره من محن واختبارات. كان ذلك تعذيبًا من نوع خاص، تعذيبًا ناعمًا وفعالاً، الهدف منه جعْله يفشي ما في جعبته من أسرار. وحينما بدأ التحقيق معه اكتشف تعذيبًا جديدًا هو ذلك المتمثل في «العودة إلى العدم، إلى الحجرة ذاتها، والمنضدة ذاتها، إلى الفراش بعينه، إلى ورق الجدران بعينه» (ص49). إن العدو الأكثر شراسة بالنسبة للإنسان، على ما يبدو، هو العدم. إلا أن الدكتور (ب) قاوم بشراسة.
ولما بدأ الاجهاد يغلبه، تدخلت مصادفة ثمينة للتخفيف عنه، وقد تحدث عن تفاصيل ذلك كما يلي: «ظننت أنني أتبين تحت القماش المشدود لمعطف الحارس المعلق شكلاً مستطيلاً يوحي بأنه كتاب، كتاب...» (ص54)، ثم أضاف فقرات بعد ذلك: «ارتعشت ركبتاي. كتاب. كان قد مضى علي أربعة أشهر لم أتناول خلالها في يدي كتابًا، فبهرني مجرد تصور وجود كتاب في جيب المعطف» (ص54). ومن المعروف أن المبدع والمنظر الإيطالي أمبرطو إيكو قد استثمر في روايته الشهيرة «اسم الوردة» فكرة «كتاب قاتل»، أما في هذا العمل فإننا نجد أنفسنا إزاء كتاب منفذ، كتاب سند. وبالرغم من أن الدكتور (ب) أصيب في البداية بخيبة أمل لأنه كان يفضل الحصول على كتاب يحكي حكايات تنسيه همومه وتجعله يسافر بعيدًا عن غرفة الفندق الموصودة بدل كتاب يعلم لعبة الشطرنج من دون معلم، إلا أنه أخذ الأمر بكامل الجدية، وظل ينجز التمارين الذهنية المقترحة في الكتاب المنقذ، «وبعد تدريب استمر خمسة عشر يومًا، استطعت، كما أسر للسارد، أن أرسم في ذهني سير كل الأدوار الواردة في الكتاب» (ص58).
وتطورت مهاراته بعد بذل كثير من الجهد، ووصف ذلك التطور كما يلي «بدأت أتبين خصائص أسلوب كل لاعب شهير، كما يتبين الذواقة الخبير وهو يتلو أبياتا قليلة من الشعر أي شاعر نظمها» (ص59). ومرة أخرى نجد إلحاحًا من طرف السارد أو المؤلف على عقد مقارنات بين خصائص لعبة لشطرنج وبين سمات الإبداع الفني والأدبي الرفيع.
غير أن هذا التمرين الذهني الذي تم وصفه أصبح يتطلب من هذا اللاعب المجتهد مزيدًا من الاجتهاد وجهدًا أكبر وطاقة أقوى للتحمل والتخيل؛ إذ وجدناه يقرر بشكل إرادي أن يصاب بانفصام، أن ينقسم طواعية إلى شخصين سيتواجهان على رقعة لعبة الشطرنج. وكان ذلك بالنسبة إليه الطريقة المثلى حتى لا ينهار. ونجحت «خطته» التي شرحها بهذا الشكل: «أصبحت صاحب ذهنين منفصلين، واحد أبيض والآخر أسود، فبهذا وحده أستطيع أن ألعب بالخيال في فراغ، وأن أرسم في الفراغ أيضًا حركات كل خصم من الخصمين طبقًا لخطته» (ص62). لقد أصبح يؤثث الفراغ بخياله، ويبدو أن الأصل في الإنسان أن يكون في حالة مواجهة دائمة مع خصم ما، وأن يواجه أندادًا فعليين أو متخيلين حتى يمنح لوجوده ولإبداعه معنى. وقد يذكرنا هذا بحالة المبدع البرتغالي فيرناندو بيسوا الذي جعل مجموعة من الأنداد يلتفون حوله ويبدعون شعرًا وأدبًا مثلما هو يبدع.
وبعد طول استماتة، وبعد أن استنفر كل طاقاته واستدعائه لكل قواه الظاهرة والدفينة أصيب الدكتور (ب) بأزمة عصبية حادة. لكن رب ضارة نافعة، إذ اعتبر أحد الأطباء أن حالته قد أصبحت خطرة، فسُمح له على إثر ذلك بمغادرة المستشفى بعد احتجاز دام أربعة أشهر، بشرط أن يرحل عن البلد... وبالفعل رحل.
وبالعودة إلى مقابلة لعبة الشطرنج التي شهدها الدكتور (ب) على متن السفينة، ورؤيته لرقعة الشطرنج بعد سنوات عديدة مرت على احتجازه في غرفة فندق، تفاجأ وشعر بدهشة «تماثل دهشة الفلكي بعد أن يحدد على الورق وبالحساب وحده، موقع نجم ثم يرى فجأة جرم هذا النجم يتلألأ لعينه لأول مرة في صفحة السماء» (ص71).
وإزاء هذا الموقف الشاعري، قَبِل أن يجري مباراة واحدة، معركة فريدة مع البطل المكرس ميركو زينتوفيك. ويقول السارد بحسرة: «إنني لشديد الأسف أن هذه المباراة لم تسجل فضاع خبرها كما ضاعت الألحان التي كانت تجري بها أصابع بيتهوفن على البيانو من وحي الساعة» (ص73). ونلاحظ ههنا مرة أخرى إصرارًا على الربط والتقريب بين لعبة الشطرنج والإبداعات الراقية.
وجرت مباراة لم يعلم تفاصيلها وخباياها ومنطقها إلا المتباريين الاثنين. ثم حدثت المفاجأة : «إن ما حدث أمامنا ما لا يصدقه العقل: هذا صاحب لنا مجهول ينتصر على أمهر لاعب في العالم، أمام حشد من الناس» (ص77). لكن ما تلى ذلك كان مخيبًا لظن المتابعين، فقد تسرع الدكتور (ب) في قبول خوض مباراة ثانية، وارتبك وتملكته نوبة توتر وهيجان بعد أن أقر بهزيمته. ومع ذلك قال عنه خصمه زينتوفيك الذي لا يمكن نعته باللبق: «إن لصاحبكم، رغم أنه من الهواة موهبة مدهشة...» (ص83).
وككل عمل فني عميق، يمكننا أن نستخلص جملة خلاصات من قراءتنا لرواية «لاعب الشطرنج».
الخلاصة الأولى هي أن لعبة الشطرنج لعبة تستدعي المواجهة والتدافع، وهي بتجاذباتها ومفاجآتها واصطفافاتها استعارة للحياة وللوجود، وتغريب (بالمعنى البريختي) لهذا الوجود، كما أنها، مثلما هي الأعمال الأدبية العظمى، تتشكل من عدة مستويات، حيث يتجاوب كل قارئ ويتفاعل كل لاعب مع المستوى الذي يستجيب لقدراته ومهاراته وحساسيته.
الخلاصة الثانية التي يمكن استنتاجها من هذا العمل هي أن الأصل في الإنسان أن يقاوم، وأنه أحيانًا لا يعرف ما يختزن في دواخله من قدرات على الصمود، ما لم يجد نفسه في مواقف حدية تجعله يستنفر إمكاناته الخفية.. ويمكن القول إن الدكتور (ب) قد تغلب، اعتمادًا على عناده وتشبثه بالحياة وسعة خياله، على الهمجية النازية وألاعيبها، في حين أن لعبة الشطرنج كانت بالنسبة للبطل ميركو زينتوفيك مصعدًا اجتماعيًا جعله يترقى ويتخلص من بعض عزلته.
الخلاصة الثالثة، تقول إن للعب جديته، وأنه ليس محض ترف بل له ضرورته ودوره في تكوين شخصية الأفراد وجعلها أكثر صلابة.
إن «لاعب الشطرنج» عمل يهز متلقيه، يستدرجه ويدعوه للتفكير والتأمل، عمل حينما تنتهي من قراءته ترفع رأسك وتبتسم لأن ثقتك في الكائن البشري، أي في نفسك، أصبحت أكبر. كما أن القارئ يمكنه أن يقوم بإسقاط ما قرأ على واقعه وعلى المرحلة التاريخية التي يعيش فيها فيستخلص أنه يتوجب ألا نعلن الانهزام أو الاستسلام، وأن نقتنع بأن انتصار الشر والديكتاتوريات والاستبداد ليس قدرًا، وبأن الثقة في النفس والتسلح بالأمل والتشبث بالخيال هي خطوات أساسية لمواجهة الوحوش مهما كانت طبيعتها ■