تعاشيق السرد في «ما ألقاه الطير»

يقدم السرد في رواية «ما ألقاه الطير» لـ«دينا شحاتة» (دار العين، القاهرة 2024م) مزجًا بين السرد والأحداث ومقامي الصبا والبيات، يصعد السرد وتتوالى الأحداث من القرار إلى الجواب، من البداية إلى النهاية، يبتدأ السرد من المنطقة التي يختتم بها، من مشهد القاعة التي التقت فيها مرام بعزيزة تنصتان فيها للتواشيح والإنشاد، وتحديدًا على أنغام توشيح «فرح الزمان» للشيخ محمد عمران الذي ينشد للميلاد النبوي... وهي النغمة/ المشهد ذاته الذي ينتهي به السرد، وما بين دائرية البداية والنهاية تتوالى الأحداث على نحو يجمع بين الحقيقي والخيالي، والتاريخي والفانتازي، وفي لغة احتمالية أقرب إلى لغة التصوف وعوالم الإشارات التي تضغط المعاني وتكثف الدلالات، وتصل بين ما نظنه بعيدًا، فيلتقي المكان بالزمان، بقدر ما يلتقي الإنسان بغيره من مفردات عالمه: يلتقي بالطير والشجر والحجر.
وبذلك تتصل اللغات المتباعدة والمصائر المتنوعة، بين «عزيزة» التي سكنت قلب «حدوتة»، و«دونكا» التي هي سكن «حدوتة»، وبين حديث الطائر المتكرر لكل واحدة منهن، وعنه تتلقى الشخصيات الأساسية: «مرام» و«حدوتة» و«عزيزة» و«دونكا» الإشارات والأحاديث، بل إن كل ظهور له يؤشر لمساحة أكبر من تركيب الأحداث وتنامي السرد، فيغدو - أي الطير - هاديًا ومبشرًا، بقدر ما يغدو نذيرًا.
يقدم السرد ثلاث شخصيات، هن: «مرام» و«حدوتة» و«عزيزة»، وفي مرحلة لاحقة تنضم إليهن «دونكا»، ولكل منهن تجربتها العاطفية الخاصة التي جعلت قلبها فارغًا أو التي قضت عليها بفراغ القلب، ولكل منهن وصل أو اتصال بعالم الإشارات والطير، ولا رابط بينهن غير وحدة الإشارات التي يتلقينها من طائر بعينه، تجعل مصير كل منهن أو رحلتها نحو امتلاء القلب مرتبطًا بالأخرى.
وعبر هذا العالم تلتقي النسوة بحثًا عن امتلاء القلب، ولكل قلب امتلاؤه، ولكل عين بكاؤها... حتى كأنهن جميعًا في مقام موسيقي واحد، ولكل مقام بداية، ولكل مقام نهاية، تمامًا كما هي الحياة، ولا يحق لأحد الخروج من المقام قبل استيفاء حظه كاملاً منه، حتى لا تضطرب حياته، وهذا ما قالته عزيزة لمرام التي أرادت الخروج من المكان والمقام:
«أمسكت مرام برأسها، قبل أن تنهض متجهة نحو الباب... ليجيء صوت عزيزة مناديًا بهدوء: انتظري قليلاً أنت على الحافة... أشارت بسبابتها نحو فتحة السقف قائلة: ستخبو تلك الفتحة قريبًا وسنمضي معًا إلى مكان لا حزن فيه ولا فراغ» (ص20).
تهيمن على النص الشخصيات النسائية؛ فوجود الرجال هنا وجود ظلي؛ فحضورهم يأتي عبر فعل التذكر الذي يجري على لسان الساردة وفي وعيها، فهم الطرف الآخر الذي أدى إلى إخفاق النساء في الحب، وهم من جعلوا فراغ القلب موضوعًا للسرد، فكل شخصية من الشخصيات التي ذكرنا أخفقت في حبها، ولا تختلف قصة عن غيرها إلا في درجة قسوتها فحسب... ومن هنا جاء فراغ القلب.
وهذا يعني، على مستوى أعمق، أن كل حركة يتقدم بها السرد هي، في جوهرها، بحث عن الحب، وإذا كنا إزاء عالم يتشابك في مفرداته ويلتقي في عوالمه ومتباعداته، فهذا يعني أننا إزاء مفهوم أرحب للحب؛ فكل تطور سردي يضعنا إزاء التشابك والتعاشق والتداخل بين مفردات الوجود، صغيرها وعظيمها، بما يخلق وحدة كلية كبيرة، نرى العالم من خلالها مؤتلفًا غير مختلف، مترابطًا غير مفكك... وكأن الفراغ سببه التعلق بالعابر والتمسك بالجزئي، وكأن كل امتلاء وعي بحب أكبر، يصل بين الناس بقدر ما يربط بين مفردات العالم الذي يتسع بالمقامات الموسيقية والمناجاة الروحية التي تهدي الحيران وتجبر فراغ قلبه وجفاف روحه.
وإذا وصلنا إلى هذه النقطة من الفهم والتفسير، فلا نتوقع بعدها أن نجد أنفسنا إزاء تصور سكوني للمكان؛ فالمكان هنا لا يستقل بنفسه، ولكنه يتماهى في الزمان، فلا يشكل عبئًا أو حاجزًا أو شرطًا ماديًّا، بل كثيرًا ما يتماهى في الحدث ليغدو المكان نفسه جزءًا من المقام الموسيقي أو انعكاسًا له: «يبتهل الشيخ موجهًا رأسه للأعلى فتعلو عواميد القاعة ويرتفع السقف، تتبعه ألحان منغمة من العود الحزين، فتتباعد الحوائط البيضاء بخفة دون انفصال» (ص13) .
فلا يعرف المكان هنا الوجود الساكن أو المصمت، ولكنه يتحول وينمو بتحولات المقام واضطراد الوصل، تمامًا كما ذكرت عزيزة، في جوابها عن سؤال مرام: «ماذا تقصدين بمقام الصبا؟! أشارت بإصبعها نحو فراغ الغرفة وفتحة السقف قائلة: «هذا وذاك» ص17.
ومن البدهي في سياق كهذا أن يكتسب المكان حضورًا عامًا، فلا يوجد مكان محدد، يشير إلى مرجع خارجي، باستثناء الأماكن التي تُشكّل المراجع الأساسية الصلبة لماضي كل واحدة منهن؛ فالمقطع الثاني يتصدره عنوان تأريخي خالص: «الإسكندرية 1987م» ليحدد المكان والزمان الذي صعد فيه نجم «حدوتة» كمطربة شعبية في ليالي الإسكندرية وأفراحها، ويأتي المقطع الثالث تحت عنوان: «المنصورة عام 1968م» ليقدم لنا البدايات الأولى لـ«عزيزة»، وما تعرضت له من أحداث فرّغت قلبها، ويحمل المقطع السابع عنوان: «بورسعيد 1957م» وفيه يرتد السرد على ماضي «حدوتة»، وتأتي الإشارة الأخيرة في المقطع السادس شديدة الاتساع، فعنوانها: «صحراء مصر الغربية» الذي يقدم لنا حياة «دونكا» وكيف فرغ قلبها، وفي هذه الصحراء الشاسعة أيضًا سوف تلتقي «دونكا» و«حدوتة» و«مرام».
تنحصر الوظيفة السردية للتواريخ السابقة في تأطير الحدث ومنحه قدرًا من الواقعية، خاصة ونحن إزاء سرد سريع ما يغادر هذه الإشارات الواقعية ليدمج الخيالي بالحقيقي، والواقعي بالفانتازي.
والملاحظ هنا أن كل إشارة واقعية إلى مكان وزمان محددين ترتبط بشكل مباشر بما جرى من حدث أو أحداث أفرغت قلب إحدى الشخصيات، بما يعني أن كل فراغ مشدود إلى مكان محدد، إلى جزء بعينه، وبما يعني في المقابل أن كل امتلاء موصول بتجاوز المكان المحدد، والانتقال من القرار الموسيقي إلى الجواب، من العزلة إلى الاتصال، ومن الانكفاء على الذات إلى التوحد بالعالم، العالم الرحب المشدود بما لا يحصى من أشكال الترابط والوصل.
كل هذا منح المكان مرونة كبيرة، بل منحه طاقة ترميز عالية، ليس لأنه ينساب في الزمان، وليس لأن الزمان يتلاشى حتى نغدو - فيما يذكر السرد أكثر من مرة - أمام «اللازمن»، وإنما لأن المكان على هذا النحو يفتح أفق التأويل إلى الحد الأقصى؛ ينساب المكان في الشخوص، بقدر ما ينسابون فيه، فقد يطويهم البحر ويغرقهم في مائه، ليغدو البحر جزءًا منهم:
«ترمي بجسدها في عمق البحر فتدرك ما في جوف البحر، في غرقها العظيم تدرك ما خفي عن الأبصار... تحسب أنها نجت دون أن تدرك أن جوف البحر داخلها» (ص7).
ما الذي ألقاه الطير؟
يذكرنا هذا العنوان بمنطق الطير للعطار، يذكرنا بالحكمة المقطرة والإشارات المكثفة، والطير بطبيعة الحال في المورث الثقافي دليل هداية وكشف، وهذا كما سبقت الإشارة منطق الوصل في العالم لا الفصل، وهو منطق صوفي بلا شك، أو لنقل هو منطق رحيم، لا يحتفي بالتعارضات والتقابلات، بقدر ما يحتفي بالوحدة التي تلتقي فيها المتباعدات، وربما لهذا وجدت حكايات النسوة مع الطير امتدادها في حكاية خضرة الشريفة مع طائرها الأسود في السيرة الهلالية.
إذ يفرد السرد مساحة لخضرة الشريفة، يلتقط فيها ثيمة وحدة الطير وثيمة القلب الفارغ، فقد تمنت خضرة حين رأت طائرًا أسود حول ماء البركة بصحراء نجد أن تنجب ابنًا جسورًا وقويًا مثله، وكان لها ما تمنت، غير أنها وضعت ابنًا أسود البشرة، فاتهمت بالزنا وهي «الشريفة من نسل النبي الزين»، فطردت من قبيلة زوجها، فكان ذلك اليوم «بداية لوعتها ومدخلاً لفاجعتها» (ص120).
تبدو حكاية خضرة الشريفة هنا الثيمة المركزية التاريخية التي تقف خلف رواية «ما ألقاه الطير»، مما يجعل الخطاب الروائي برمته تأويلًا موسعًا لحكاية السيرة، وذلك على نحو يدمج بين التخييل الروائي والسيرة الشعبية، وبما يجعلنا إزاء مفهوم أكثر عمقًا للتغريب الذي يتجاوز المكان إلى الروح، وإزاء محاولة معاصرة لمقاومة التغريب عبر سرد يشبه تعاشيق الأرابيسك، حيث يمكن لمواء قط شارد أن يصبح إشارة تلتقطها «زينب» فتقطف ثمرة من ثمار الجوافة، وحين تأكل الثمرة، يذهب عنها حزنها، وتسكن روحها القلقة (ص42).
وهذه المساحة من التداخل بين النصوص، جزء من تصورات سرد ما بعد الحداثة، الذي يقيم شبكة علاقات موسعة بين النصوص، فيدمج ما بينها، ويسمح لنفسه بتأويل التاريخي، فلا يبقى الماضي على ثباته ولا يعرف السرد الراهن النقاء، ولا يدعيه ■