اللُّغة الأذَريَّـة غُربة الحَرف والهُويَّة

اللُّغة الأذَريَّـة  غُربة الحَرف والهُويَّة

لم أتفاجأ وأنا أقرأ المقدمة الأولى لرواية الكاتب الأذَريِّ المعاصر كمال عبدالله، المعنونة بـ «المخطوط المبتور» (ترجمها إلى العربية أحمد سامي عبدالفتاح في 2012م)، أن السارد البطل عندما عثر على مخطوطة جديدة في قسم القرون الوسطى، بدار المخطوطات القومية بِباكو، عاصمة أذْرَبِيجان الحالية، لم يتمكن من التعامل معها، إذ كان لابد من نقل حروفها من الهيئة الأبجدية العربية التي كُتب بها التراث الأذري منذ انتقل من المرحلة الشفوية إلى المرحلة الكتابية في القرن الـ 16 إلى أوائل القرن العشرين، إلى الهيئة الأبجدية اللاتينية التي تُكتب بها اللغة الأذرية اليوم، وهي المهمة التي اضطلعتْ بها موظفة متخصصة في اللغة العربية بإدارة المعهد بعد لأيٍ، إذ «يمكن أن أقول إنه من المستحيل إيجادُ شخص يقرؤها، أو حتى يعرف بإتقانٍ الخطَّ العربي»، كما ورد على لسان البطل. 

 

هذا المخطوط المتخيَّل لم يكن سوى رواية أخرى متخيَّلة للسيرة التركية الشعبية المعروفة في أذربيجان والعالم التركي قاطبة بـ «ده ده قورقود» (أو الجدُّ كوركوت)، وأحداثٍ أخرى خاصةٍ بالحاكم الأذري الشاه إسماعيل الصفوي، الملقب بخطائي (ت 930 هـ)، مؤسس الدولة الصفوية، علاوة على مقدمة وخاتمة مُلْبِستين حول الزلزال الذي ضرب مدينة كَنْجهْ (Ganja) في القرن الـ 12م. 
غير أن المخطوط إن كان متخيَّلا، فإن مأساة انسلاخ الأذريِّين المعاصرين عن جذورهم الثقافية التي تمثِّلُها ألوفٌ مؤلَّفة من المخطوطات المكتوبة بالحرف العربي أمرٌ واقعٌ غيرُ متخيل، وذلك على غرار كثير من لغات العالم الإسلامي التي سعت قوى الاحتلال الحديث المختلفةُ إلى مسخ هويَّتها اللغوية والثقافية، وبتر وجودها عن وجود أمَّتها وذاكرة تاريخها، وذلك عبر مَداخل عدة، على رأسها مَدخل إبعاد لغاتها ولهجاتها عن الانكتاب بالأبجدية العربية التي التحمتْ بها من قبلُ قرونًا طوالاً، كاللغات واللهجات الأمازيغية والهندية والسندية والبنجابية والأُغورية والأَرْوية والقَمَرية والملايوية والألبانية والطاجيكية والقِرغيزية والتركمانية... وكاللغة الأذَرية - التي تُسمى كذلك الأذربيجانية، وهو خطأٌ لغوي مستثقَل - والتي هي موضوع حديثنا في هذا المقال.

التاريخ العربي الإسلامي في أذربيجان
عرف العرب أذربيجان (أرض النار) بِاسمها الحالي ضمن ما عرفوا من بلاد ما وراء النهرِ، نهرِ جيحون (أموداريا)، منذ القدم. وقد أشرقت شمس الله على البلاد منذ بواكير الدولة الإسلامية، فكان الفتحُ عام 22 هـ عملاً مشتركًا بين هِمم ثلاثة قُوَّاد كبار، هم نعيم بنُ مُقْرِن وبكير بنُ عبدالله وعُتبةُ بنُ فَرقد السُّلَمي. وفي عهد علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) شرعت الوفود العربية في الاستيطان بالبلاد، حيث أسكن الخليفة في البداية جماعةً من العرب من أهل العطاء والديون بمدينة أرْدبيل، (عاصمة أذربيجان آنئذ، وتقع حاليًا في إيران)، وبنى بها مسجدًا، مما أعطى الدعوة إلى الإسلام، والتعارفَ العرقي والثقافي، دفعةً قوية.
وهكذا أصبحت أذربيجان من جهةٍ قاعدةً عسكرية استراتيجية لفتوح بلاد الترك والخَزَر والروس مما وراء جبال قبج (القفقاس)، ومن جهة أخرى موقعًا تجاريًا مهمًا، عملَ على توسيع العلاقات التجارية مع الهند والصين وكذا أوربا، لا سيما تجارة الحرير والبهارات والعطور والأثواب والفراء والنفط، مما جعل خَراجها مرتفعًا.
أما على الصعيد العلمي والأدبي، فإن أرض أذربيجان كانت ولَّادة لجم غفير من العلماء والأدباء، حتى إن الحافظ أبا طاهر السِّلَفي (ت 576 هـ) قرنها في الشرق بالأندلس في الغرب من حيث قيمتُها العلمية، فقال:
دِيارُ أذَرْبِيجانَ في الشرقِ عِندنـا
            كأندلُسٍ في الغربِ في العِلـم والأدبْ

فما إنْ تكادُ الدهرَ تَلْقَى مُميَّـزًا
            مِنَ أهْلِيهما إلا وقدْ جَدَّ في الطَّلَـبْ
وحسبُك أنك حين تذكر مدن «أرْدبيل» و«تبريز» و«شِروان» و«مَراغة» و«كنجهْ» و«أرَّان» و«أستراباذ» و«قَرَّهْ باغ» وغيرها، تستدعي ذاكرتُك لتوِّها نسبَ أسماءِ أعلامٍ كثيرين ممن لمعت نجومهم في سماوات علوم الشريعة واللغة والشعر والرياضيات والفلك وباقي العلوم، ممن ذكرتْه مراجع تأريخية قديمًا وحديثًا، وجمعه واستقصاه في أربعينيات القرن الماضي الأستاذ الأذري حميد أراسلي في كتابيه «تاريخ موجز للأدب الأذربيجاني» و«تاريخ الأدب الأذربيجاني» (1943م)، والباحث الأذري المعاصر سَيْمور نصيروف في كتابين حديثين، أولهما بعنوان «تراجم أذربيجانية في المصادر العربية» (2011م)، وثانيهما خلاصة أطروحة جامعية بعنوان «جهود علماء أذربيجان في خدمة علوم العربية» (2022م)، ليس بدءًا بأمثال الشاعر الذي عاش في كنف بني أمية، إسماعيلَ بنِ يسار النِّسائي، وبلديَّيْه موسى شهوات وأبي العباس، ولا انتهاء بأدباء القرون المتأخرة من أمثال إبراهيم الأراشي الشكوي، شارحِ كافيةِ ابن الحاجب (ق 18). 
وقد كان هؤلاء العلماء الأعلام مكوِّنا أصيلاً من صُلب مكونات الحضارة الإسلامية دينًا، العربية لغةً؛ لذا كتبوا ما كتبوا، وألَّفوا ما ألَّفوا، باللغة العربية. بيد أن ثمة فئةً أخرى من العلماء والأدباء والمثقفين الأذريين تبنَّت في إبداعها اللغة التركية أو الفارسية المَحلِّيتيْن المكتوبتين بالحرف العربي، إما خالصةً، وإما بالتوازي مع إبداعها باللغة العربية؛ وهكذا برزت أسماءٌ أذريةٌ أخرى أغنت المشهد الثقافي المتنوع لآداب البلاد الإسلامية الأعجمية المترامية الأطراف، بدءًا من القرن الـ 13م مع أمثال نظامي كنجوي ومحمد فضولي وشمس التبريزي وحسن أوغلو وقاضي برهان الدين وخاقاني الشِّرواني وعماد الدين نسيمي وعاشق قربانلي وشاعرة الرباعيات مخستي خانوم كنجوي، ووصولاً إلى ق19م مع أمثال المُلَّا باناه واقف والمُلَّا والي ودادي وصاحب التبريزي وقاسم بك ذاكر وميرزا كاظم صاحب «دربند نامه»، وسيد عظيم الشرواني وحسن علي خان قره داغي وعباس أوغلو آغا باكخانوف، والشاعرتين حيران خانوم وخورشيد بنو نطفان، وحسن بك الزَّرْدابي صاحب جريدة «أكينتشي» (أي الفلَّاح)، أولِ جريدة تصدر في البلاد، وأميرِ شعراء الغزل الأذري الحديث علي آغا واحد، الذي يجسد إبداعُه الشعري المتعدد اللغات بالأذرية والعربية والفارسية والروسية وجهًا من وجوه الصراع اللغوي الذي لحق أذربيجان في القرن العشرين.

صراع التعريب واللتننة والسَّرْيَلة 
ليست اللغة الأذرية سوى لهجةٍ من اللهجات التركية الشائعة بين قبائل الأوغوز المنتشرة بين الأناضول والهضبة الإيرانية والقوقاز. وقد ظلت اللغة التركية بتنوعاتها اللهجية تكتب بالحرف العربي المبين لأزيد من ألف عام، غير أن الاحتلال الغربي الروسي الحديث لأذربيجان عملَ - مباشرة أو عبر وكلائه في الداخل - على عزل هذه البلاد عن جسد الأمة العربية الإسلامية عامة، وعن جسد جيرانها الترك والفرس المسلمين خاصة، وإلحاقها به من جهة، وكذا على عَلمنتها وفصلها عن القرآن الكريم وحضارته من جهة ثانية، وذلك من خلال مجموعة من الإجراءات القهرية، منها ما تعلق باللغة والحرف الذي أصبح جبهة تتصارع فيها قوى التعريب والأصالة مع قوى التغريب والتبعية. 
وقد اتخذ هذا الصراع بالنسبة لأبجدية اللغة الأذرية الحديثة شكلاً عنيفًا في القرن الماضي، إلى درجة تغيير الحرف الذي كُتبتْ به أربع مرات متتالية في قرن واحد كالآتي:
-1 في سنة 1920م فرض البلاشفةُ الشيوعيون الذين احتلوا البلاد الحرفَ اللاتيني إلى جوار الحرف العربي، وذلك كمراوغةٍ أولى ستنتهي بالإقصاء التدريجي للحرف العربي الأصيل، حيث تم تنصيب لجنة تنفيذ الأبجدية التركية الجديدة (Yeni Türk Əlifbasının Tətbiqi Komitəsi) في موسكو سنة 1922م، وذلك لمباشرةِ لتننةِ الحَرفِ في جمهورية (أذربيجان الاشتراكية السوفييتية). وفي 1924م فرَضَ القائد البلشفي لباكو، ناريمان ناريمانوف، الأبجدية اللاتينية وحدها في التراسل الإداري. لينعقد سنة 1926م المؤتمر الأول لعلماء التركيات (Turkology) في باكو، مقرِّرا أن أنسب حرف لكتابة الأذرية هو الحرف اللاتيني. ثم ليُفرض الأمر بعدَها فرضا نهائيا سنة 1928م، مع الإقصاء الكلي للحرف العربي ومعه أكثر من سبعة قرون من التدوين، وسط جو مشحون بمغالطات الإعلام الموجه والدعاية، وبالتزامن مع تنصيب لجنة «الحرف الجديد» (Yeni Alif) في موسكو، بغية توحيد الحرف اللاتيني وتعميمه على كافة لهجات الجمهوريات التركية المنضوية تحت السيادة السوفييتية، وبغية فصلِ تركيةِ آذريِّي أذربيجان عن تركيةِ آذريِّي تركيا وإيران، وبالتزامن كذلك مع نجاح مصطفى كمال أتاتُرك في الانقلاب على الأبجدية العربية في تركيا المجاورة، وفرضِ ما عُرفَ بـ«قانون الحروف التركية الجديدة»! وهكذا ستصدر لأول مرة في تاريخ الأذريين جريدة محلية بالحرف اللاتيني وحده، هي جريدة (Yeni Yol) أي «الطريق الجديد». 
-2 في سنة 1930م سيرى الحزب الشيوعي في موسكو أن الأبجدية اللاتينية يمكن أن تهدد وحدة الدولة، لذا سيحدد العشرية التي بين 1930م و1940م لفرض انتقال كتابة الأذرية منها إلى الأبجدية السِّيريلية (السلافية)، وذلك تحت غطاء توحيد لغات الجمهوريات السوفييتيةِ التركيةِ اللسان، مضيفًا إلى الأبجدية السيريلية الأصلية سبعة حروف جديدة لتؤدِّي الأصواتَ الأذريةَ التي ليس لها فيها مقابل حَرْفي. وهكذا انتقلت كتابةُ اسم البلاد مثلا من (أذربيجان) العربية، إلى (Azərbaycan) اللاتينية، إلى (Азәрбајҹан) السيريلية!
-3 في سنة 1991م، عقب استقلال أذربيجان عن موسكو، سيصادق البرلمان الأذري المشكَّل حديثًا، على قرار العودة إلى اللتننة، بضغط من الموالين للغرب، المنجرفين مع تيار العولمة المندفع بقوة آنئذ، وهو التيار الذي بدأت إرهاصاته منذ أواخر القرن 19م مع أمثال أنور محمد خانلي وإلياس أفندييف وأكرم أيلسلي. ورغم أن قرار العودة إلى الحرف اللاتيني لقي معارضة من بعض الأطراف المحافظة التي عملت على إعادة إحياء اللغة الأذرية المكتوبة بالحرف العربي، بجهود فردية، وفي مدارس خاصة محدودة، فإن كفة موازين القوى - في ظل غياب كلي للمساندة العربية والإسلامية اللازمة - كان واضحا أنها تميل إلى تيار اللتننة، لأنه كان مدعومًا من هرم السلطة السياسية ممثلا بالرئيس السابق حيدر علييف (أبي الرئيس الحالي إلهام عييف).
ورغم أن دعاة اللتننة والسَّرْيَلة حاولوا كعادتهم التذرع بذرائع ذات غطاء علمي لساني للتمويه، ولتبرير إقصاء الحرف العربي، فإن الغاية السياسية والثقافية والهُوَوية من ذلك كانت واضحة بلا مواربة، وهو ما لم ينجح بعض متطرفي دعاة التغريب في إخفائه. يذكر سو رايت - مثلاً - في كتابه «السياسة اللغوية والتخطيط اللغوي: من القومية إلى العولمة» عن الشاعر الأذري صمد فُرغون، عضو مجلس السوفيات الأعلى، قولَه: «الشعب الأذري فخور بأنه الأول بين الشعوب الشرقية الذي أقبر الحروف العربية وتبنى الحروف اللاتينية. هذا الحدث مكتوب في تاريخنا بحروف من ذهب»! 
ومن غريب المفارقات المسجلة هنا أن الجارة المسيحية لأذربيجان، والمقصود أرمينية، لم تتخلَّ عن حروفها الأصيلة التي عمرُها 16 قرنًا، ولم يفرض عليها الحزب الشيوعي السوفييتي لا الحرف اللاتيني ولا الحرف السيريلي... ولا تزال تكتب بالحرف نفسه إلى الآن! مما يدل على استهداف الهوية العربية الإسلامية بشكل حصري ومحدد.

تمزيقُ هوية لا قصورُ أبجدية
لقد انبنتْ دعاية لتننة اللغة الأذرية - كلتننةِ باقي لغات الشعوب الإسلامية التي كانت تكتب بالحرف العربي - على دعوى عدم تعبير الحروف العربية عن كافة الأصوات الأذرية؛ وهذه مجرد تعلَّةٍ لتبرير السلخ من الهوية العربية الإسلامية تبريرًا علميًا. وبيانُ بطلان ذلك واضح من خلال عدة شواهد وأجوبة.
فاللغة الأذرية في شمال إيران (إذ أذربيجان التاريخية كانت تضم أذربيجان وشمال إيران الحاليتين) لا تزال مكتوبة بالحرف العربي، في انسجام تام مع تاريخها الثقافي والعلمي والأدبي منذ قرون، وكذا مع أختها الفارسية المكتوبة بالحرف نفسه، وهذا وحده كافٍ لإبطال دعوى أنصار اللاتينية.
ثم إن تطعيم الأبجدية العربية بحروف جديدة مبتكَرة لأصوات محدَّدة لا يعرفها العرب، أو بالتخلي عن حروف عربية أخرى لا تعرفها اللغات واللهجات المعرَّبة خطًّا، أمرٌ جارٍ به العمل، تماما كما هو جار به العملُ في كافة لغات العالم التي تعاني كلُّها - بقدْر أو بآخر - من عدم التطابق بين النظامين الصوتي والأبجدي. 
والدليل على ذلك أن الأذرية نفسها اضطُرَّت لدى الكتابة بالحرف اللاتيني إلى التخلي عن حرف w لعدم الحاجة إليه، وكذا إلى ابتكار ستة حروف جديدة وإضافتها إلى لائحة الحروف اللاتينية للتعبير عن أصواتها، وهي Ä Ç Ğ Ö Ş Ü، علاوة على حرف Ә الذي يمثل الصائت المخفي بين حركتين، أو ما يسمى بالشَّيْوَة (schwa)، وهو الصائت الكثير الاستعمال في اللسان الأذري.
هذا، وإن الأذرية أصلا لهجة تركية، والسوفييتُ هم أول من سماها لغة لا لهجة، وأول من سماها أذرية لا تركية كما كانت تسمى، وذلك لخلق هوةِ تفرقةٍ بين الناطقين بها في تركيا وإيران وباقي الجمهوريات المسلمة المجاورة. 
والغريب المُريب أن تغريب التركية وابنتِها الأذرية تمَّ بنسقيْن كتابيين لاتينيين مختلفين نسبيًا، إمعانًا في تمزيق الممزَّق، إذ إنك تجد حروفًا لكتابة التركية غير موجودة في الكتابة الأذرية، والعكس صحيح، رغم أن الكلمة نفسُها لفظًا ومعنى، مع اختلاف صوتي طبيعي يسيرٍ بين اللسان التركي واللسان الأذري، كاختلاف التلفظ بين الناطقين باللهجات العربية في المغرب والجزائر أو في مصر والسودان. 
ونسوق أسفله أمثلة بقدر ما تبين التعسف في إحداث القطيعة بين اللاتينية التركية واللاتينية الأذرية، تبين جريمة أخرى كبرى تتمثل في سلخ كلتا اللغتين عن الحرف العربي، على اعتبار أن كثيرًا من هذه الألفاظ عربيُّ الأصل، والحرفُ العربي بها أولى:

ثروة المخطوطات: نداء الواجب العلمي
لم تكفَّ الأطماع الروسية القيصرية عن مد بصرها ويدها إلى أذربيجان منذ القرن الـ 16م، وحين واتتها الظروف السياسية التي خلقتها الحرب العالمية الأولى مارس الاتحاد السوفييتي من أعمال الإبادة العرقية والثقافية في البلاد ما يندى له الجبين.
وقد كانت المساجد والمآثر واللغة والتراث أهــم عدو للسوفــــيـــات اللادينييـــن بعد المحافظــيـــن علــــى الهويــة والمطالبين بالاستقلال، لذا أغلقت موسكـو كافة مساجد أذربيجان سنة 1935م، وقد كــــان عــددهــا عام 1928م بحســـب جــريـــدة «الشيوعي» (Kommunist)  1369 مسجــــــدًا!   (ثلثـــاها للشعية)، «وصادر الشيوعيون جميع الكتب الإسلامية والتاريخية (العربيةِ الأبجديةِ) من أيدي الناس، وفُرضــــت قوانـــين صارمة لمنع تداولها وقراءتهــا، حتى إذا رغب المسلمون في معرفة عقيدتهم، وأحكام دينهم، لم تتوفر لهم الكتب، ولم يمكن لهم الاستفادة من كتب التراث بعد أن تغيرت أبجديتُهم»، كما ذكر محمد بن ناصر العبودي.
ومما ذكر هذا الكاتــــب كذلك أنه حين زار معهد المخطوطات بباكـــو عام 1986م، أخبرته مديرة قاعة المخطوطات العربية أن المعهد يشتمل على خمسة وأربعين ألف مخطوط بالأذرية المكتوبة بالحرف العربي، جنبا إلى جنب مع سبعة عشر ألف مخطوط عربي لغة وحرفًا. 
هذه الأعداد الهائلة من المخطوطات مما تبقَّى من أثر علمي عريق - لا شك أنه كان أغنى وأكبر - مهدَّدةٌ اليوم بالجهل المطبق من أحفاد مؤلِّفيها، لا لشيء إلا لأنهم أصبحوا غرباء عن الحــــرف الذي كُتـــب به تراث أجدادهم طيلة قرون! وهو ما يتطلب من الباحثين والمهتمين الأذريين والأتراك والفرس والعرب نفض الغبار عنه تحقيقًا وطبعًا وتعريفًا، حتى لا يُظلم مرتيْن، في انتظار دورةِ عجلة الزمان، وتصالحِ التاريخ مع نفسه ■