المسرحية العربية التي جاءها المخاض خلف القضبان

المسرحية العربية التي جاءها المخاض خلف القضبان

لصعوبة تطبيق «النقد التكويني Genetic criticism» يندر تداوله إذ يتطلب تطبيقه إلمامًا شاملاً بمختلف مناهج النقد لأنه استفاد في بنائه من تطور جميع الاتجاهات والنظريات النقدية وقد أوضح ذلك الناقد الفرنسي جان إيف تادييه بقوله: «كافة فروع النقد تؤازر النقد التكويني لأنه يستخدم كل مصادر التحليل في توليف دقيق»، وفيه نتابع نطفة المنتج الإبداعي وهي تناضل من أجل البقاء بعقل المبدع ثم تختمر الفكرة ويستمر النمو إلى أن تكتمل وتولد بخروج العمل الفني أو الأدبي إلى حيز الوجود، وبعد كل ذلك يتابع الناقد التكويني عمليات الحذف والإضافة التي يمر بها المنتج.

 

عرف سمير سعيد حجازي النقد الجيني أو التكويني في كتابه «معجم مصطلحات الأنثروبولوجيا والفلسفة وعلوم اللسان والمذاهب النقدية والأدبية»، بأنه اتجاه حديث في النقد الفرنسي المعاصر يبحث في تأويل رموز النص في لحظة نشأته، من خلال دراسة صناعته البيانية وفهم خصوصيته الجمالية، وآلية إنتاجه، والعمليات التي تحكمت في ظهوره وأدت إلى دلالته وتماسكه مع ثقافته المرجعية. 
ورغم تلك الصعوبة في إيجاد نموذج تطبيقي للنقد التكويني عثرنا على تجربة مسرحية عربية نادرة وفريدة أمكن رصد مراحل تكوينها المختلفة لأنها تمت بالكامل في بيئة مغلقة ومحددة أمكن درسها وراء القضبان حيث ولدت المسرحية المعنية (حلاق بغداد) من تأليف الكاتب المسرحي العربي الشهير «ألفريد فرج»، الذي أوقف ضمن عشرات الكتاب والصحفيين من كتاب جريدة الجمهورية المصرية لأسباب وطنية فأمكن ملاحقة العمل منذ الفكرة وحتى لحظة الخروج إلى عالم الوجود، وهو الأمر الذي تم على نحو غير مسبوق بسبب تكاتف مجموعة كبيرة من رفاق الفكر والفن والثقافة خلف القضبان مما جعلهم يدعمون الفكرة التي نبتت بذهن صاحبهم وتعهدوها جميعًا بعنايتهم ورعايتهم وتابعوا كتابتها كلمة كلمة على  أوراق (البفرة) وهي الأوراق الخفيفة المستخدمة في صناعة السجائر اليدوية والتي تمتاز بخفتها وسهولة إخفائها من حراس السجن.
 فكان أحد الزملاء يعيد تدوين ما يكتب أولاً بأول وينسخ آخر أكثر من نسخة حتى إذا داهمهم السجان وصودرت نسخة بقيت أخرى وكانوا يحرصون كل الحرص على تسريب ما يكتب أولاً بأول إلى خارج السجن ليطبع خارج الجدران على الآلة الكاتبة بعيدًا عن قبضة السجان، إلى أن اكتملت المسرحية ذات الحس الكوميدي والأسلوب المرح الذي كان عملة نادرة في هذه الظروف الحالكة.

المسرح خير مسكن للآلام
اكتشف هؤلاء الرجال أن المسرح خير مسكن للآلام وأنه أفضل علاج لأوجاع النفس حيث صرفهم هذا النشاط إلى حد ما عن المعضلة الكبرى التي وقعوا فيها من غير سبب إلا حب مصر بلدهم الحبيب والرغبة المخلصة الصادقة في أن تكون في أطيب حال هي وكافة أشقائها من البلدان العربية وهذا ما ظهر بوضوح بعد ذلك، وكانت لعبة المسرح نوعًا من التنفيس عما ألم بهم من ألم، واستطاعوا بتلك الملهاة المسرحية تجاوز مأساة الحبس التي امتدت لسنوات، ورغم مرارة الأزمة إلا أن «ألفريد فرج» لم يتطرق لها أو يتحدث عنها حتى طابت جراحه وكتب عن بعض وقائع تجربة المعتقل بضعة مقالات قصيرة نشرت بدورية مصرية مغمورة ولولا أن شقيقه «نبيل فرج» دون تلك الأيام في كتابه بعنوان «ألفريد فرج... ذكريات وراء القضبان» لما كنا أحطنا بهذه الوقائع علمًا.
اختار «ألفريد فرج» لبطولة «حلاق بغداد» شخصية (أبو الفضول)، وهي شخصية معروفة في الموروث العربي والثقافة العالمية بالفضول الزائد والتدخل بشؤون الآخرين، الأمر الذي جعله يقع دائمًا في شر فضوله، هل كان يسقط على نفسه وعلى غيره من زملاء السجن الذين سجنوا بسبب التدخل في الشأن العام، وفي المسرحية وبسبب الفضول ذاته يصطدم «الحلاق» بالقاضي الفاسد الذي لم يقبل ثرثرته لا في الشأن الخاص باعتراضه على كبر المبلغ الذي يدفعه من أجل رخصة الحلاقة ولا في الشأن العام ولما يربكه الصمت يجرح القاضي من دون قصد، وتكون النتيجة أن يعاقب بأن تسحب منه رخصة الحلاقة مهنته الأصلية والمفضلة.
يضطر «أبو الفضول» بعد ذلك أن يشتغل حمالاً لكي يدبر نفقات أولاده، ويقوده عمله الجديد إلى حيث ابن شهبندر التجار الذي يدعى «يوسف» الواقع إلى حد الموت في حب «ياسمينا» الجميلة ابنة القاضي الفاسد ذاته، الذي يطمع أن يزوج ابنته للوزير رغم ما بينهما من فارق كبير بالعمر، ولما انقطع أمل يوسف وحبيبته في الوصال اتفقا على وداع الدنيا أنقياء أطهار عسى أن يجمع بين قلبيهما في ما وراء هذه الحياة، لكي يبقى حبهما خالدًا إلى الأبد، وهنا تشاء الأقدار أن يقتحم قصة حبهما «أبوالفضول» فيفسد خطة العشاق ويفضح بنت القاضي الذي ما انفك يكره الحلاق ويمنعه هذه المرة من رخصة الحمال كي يجبره على الشحاذة وسؤال الناس في الجزء التالي من المسرحية الذي يقسم فيه أبو الفضول الحلاق أمام الله ألا يتدخل في شأن الناس مهما كانت الظروف، ولكنه سرعان ما يتراجع ويقع في شر فضوله مجددًا عندما يقصد بيتنا للشحاذة فيجد سيدة صغيرة وجميلة توفي عنها زوجها تاركًا أمواله أمانة عند «شهبندر التجار»، الذي أعجب أيضًا بها وأبى ألا يعطيها مالها حتى تمكنه من نفسها ولما كانت لا تبغى أن تدنس براءتها اتجهت إلى المحتسب الذي أعجبه هو أيضا جمالها فراودها عن نفسها وحدد موعدًا لزيارتها ببيتها ليساعدها في استعادة حقها، وقبل حلول الموعد بقليل طرق «أبوالفضول» باب بيتها وبدلاً من التصدق عليه استنجدت به كي يساعدها في التخلص من ذلك الزائر الثقيل ودعته إلى زواجها كي تمنحه مبررًا لحمايتها والدفاع عنها ممن يتربص بها، وتنتهي الأمور في الحكايتين إلى حضور الخليفة الذي يتابع الحكاية باهتمام ثم يحكم بالعدل.

معالجة رائعة
لاحظ أن «شهبندر التجار» هو نفسه والد يوسف الذي يحب ياسمينا ابنة القاضي، وهكذا تلاقت الخيوط وأصبحت الحكايتان تجريان في مجرى واحد وتصبان في نفس المجرى وتلك واحدة من جماليات المعالجة الجماعية لهذه المسرحية التي كعادة ألفريد فرج في الكتابة تتبع نفس الأسلوب الذي تميزت به أغلب مسرحياته أن تتناص مع موروثات سابقة مثل «ألف ليلة وليلة» التي لم تلهمه وحده هذه الفكرة، ولكن سبقه إليها «بو مارشيه» في كتابة مسرحيتيه «حلاق أشبيلية» و«زواج فيجارو»، ولكن ألفريد كان أخذ عن دليله الأول في عالم المسرح أن الأفكار العظيمة الخالدة ميراث إنساني من حق الجميع تداوله وهذا حق مكفول لأن العبرة بطريقة المعالجة لا الفكرة ولا القصة، وعلى ذلك تعد معالجة ألفريد فرج لحلاق بغداد رائعة لا تشوبها إلا القيمة التي أفلتت منه عندما جعل الحلاق يسرق الشراب المسموم الذي أعده يوسف لينتحر مع حبيبته، والتي كان من الأفضل أن تتم بدافع إنساني يسبقه معرفة الحلاق للجريمة التي خطط لها العشاق، ويعمل بدافع إنساني على حمايتهما من ذلك التفكير الصبياني لكي يحتفظ لمشاهديه بشخصية بطل نموذج يمكن التعلم منه والاقتداء به.  
عرضت مسرحية «حلاق بغداد» أول مرة داخل السجن حيث تشكل جمهور المشاهدين من جنود السجن وحراسه، بالإضافة إلى مساجين سجن الواحات بمحافظة الوادي الجديد المصرية المعروفة وقتها بقلة السكان وغياب وسائل الترفيه مما شجع على عرضها مرات أخرى للمدنيين من موظفي مجلس المدينة وغيرهم من سكان المدينة، وبعد ذلك ببضعة أشهر عرضت المسرحية مرة أخرى على المسرح القومي المصري وطارت الفكرة إلى الكثير من العواصم والمدن العربية، حيث عرضت بالكويت وقطر، وعرضت بالجزائر وغيرها من المنصات المسرحية العربية، وعرضت أيضًا في تسعينيات العقد الأخير من القرن العشرين على المسرح الحديث بشارع القصر العيني بالقاهرة، ورغم كثرة العروض لم يلتفت إلى تحسين موقف الحلاق وظل في كل النسخ المعروضة يسرق الشراب.
تنطوي تراجم بعض مبدعي الدراما على مواقف درامية عجيبة ومن مظاهر ذلك العجب عند ألفريد فرج أنه ولد في قرية كفر الصيادين بمحافظة الشرقية وهي قرية ذات سمت ريفي سنة 1929م، ولكنه نشأ وترعرع في عاصمة الفن المصرية الإسكندرية، لينشأ على حب الجمال وإدراك قيمة الفن والثقافة، ولولا هذا الانتقال لعاش ورحل بقريته المصرية التقليدية التي لم نسمع أن خرج منها كتاب أو مبدعون أو فنانون غيره، ولذلك نقول أنه لولا انتقاله إلى الإسكندرية لما عرف طريق الفن والمسرح الذي جاءته فرصة الكتابة له وصياغة أولى مسرحياته فيه وهي (صوت مصر) بتكليف مباشر من زميل الكتابة أحد الضباط الأحرار (أحمد حمروش)، الذي تولي قيادة المسرح القومي المصري بالأزبكية فاستكتب صاحبه وعرضت المسرحية على المسرح القومي بالقاهرة عام 1956م، وبعد مرور ثلاث سنوات فقط على هذا النجاح في حب الوطن سجن المواطن المسرحي ألفريد فرج لمدة أربع سنوات من سنة 1959م إلى 1963م، وانتقل خلال هذه السنوات الأربع بين عدة سجون ومعتقلات حيث كنا نتوقع أن يكتب مأساة مسرحية تعكس مشاعره الحقيقة ولكنه لم يشأ إزعاج مشاهديه الغارقين في الأحزان والأحوج إلى لحظات من المرح والسعادة، وكتب مسرحية ملهاوية تخرج الجماهير مما خيم على واقعهم من أحزان.

نوع من الحرية
بفعل المسرح تحسنت علاقة السجان بالسجناء، الذين اعتبروا السماح لهم بممارسة المسرح وتداول نصوص المسرحية وعمل التدريبات اللازمة والتخطيط لتنفيذ العرض وتوفير خامات الديكور والملابس والمكياج وبدائل الإضاءة نوعًا من الحرية، واستمر العمل على أكمل وجه حتى اكتمل الاستعداد للعرض وعرضت المسرحية في الممر الكائن بين غرف الحبس والذي لا يزيد عرضه عن ثلاثة أمتار من إخراج (صلاح حافظ) الذي سيصبح بعد الخروج من المعتقل رئيسًا لتحرير مجلة روز اليوسف، وقام بدور «أبو الفضول» حلاق بغداد فخري مكاوي مدرس الفلسفة زميل الحبس، بينما قام بدور الخليفة الكاتب الصحفي حسن فؤاد الذي سيصبح رئيسًا لتحرير مجلة «صباح الخير» المصرية الشهيرة، والذي سيقوم إلى جانب التمثيل بتصميم وتنفيذ الملابس والديكورات باستخدام أوراق الكورشية الملونة والتي كان لها سحر خاص وجاذبية رغم بساطتها أخرجت المشاركين من جمهور ومشاهدين من احتباس اللون الأصفر الجاف الممل الذي يلون الزنازين، وقام الكاتب الكبير محمود أمين العالم بدور الوزير، وقام الصحفي الكبير إبراهيم عامر بدور القاضي، وعرضت المسرحية على الأضواء المنبعثة من (برجكتور) من الصفيح المغلف بالأوراق المفضلة لعلب السجائر.
هناك بالطبع مبدعون آخرون أبدعوا وراء القضبان في شتى الأجناس الإبداعية منهم «فيستيفال هافل» الذي استثمر فترة الحبس في تأليف نصوص مسرحية كانت تحمل أحلامه بالحرية إلى كل أنحاء العالم، وقد تبنى جمهور بلاده أفكاره حتى أنه أخرج من السجن إلى سدرة الحكم، وكان من بين حكام قلائل على كوكب الأرض استغنوا بإرادتهم عن السلطة بعدما اطمأن إلى أحوال بلاده لكي يتفرغ مرة أخرى للأدب، وكثير من الإبداعات الأدبية ولدت وراء القضبان، منها مسرحية «سجن النسا» لفتحية العسال، إلا أن خصوصية هذه التجربة العربية ترجع إلى التحايل على المنع واكتمال التجربة بعرض المسرحية داخل السجن.
وبالمسرح أصبح الاعتقال مجرد رد فعل لخلاف في الرأي لم يفسد للود قضية، والدليل على ذلك أن «ألفريد فرج» تلقى في اليوم التالي لخروجه من السجن طلبًا بالعودة إلى الكتابة بصحيفته القومية، ودعي في اليوم نفسه إلى توقيع عقد بيع مسرحية «حلاق بغداد» تلك المسرحية العربية التي جاءها المخاض وراء القضبان للعرض بالمسرح القومي الذي هو أهم المنصات المسرحية في مصر وليس هناك ما هو أحب من ذلك إلى قلب المبدع.

توفر العنصر النسائي
وعلى سبيل التكوين أيضًا يجدر بنا أن ندون أن مسرحية حلاق بغداد تم تمثيلها بعد ذلك مرة أخرى عام 1963م على المسرح القومي، بطولة الفنان عبدالمنعم إبراهيم الذي قام بدور أبو الفضول والنجمة ملك إسماعيل، وبالطبع خضعت لكثير من الإضافة والتغيير بسبب توفر العنصر النسائي الذي كان غائبًا بنسخة السجن، وقد أخرج عرض المسرح القومي الفنان فاروق الدمرداش وقام بتلحين أغانيه وموسيقاته عبقري الموسيقي بليغ حمدي ولقيت المسرحية قبول النقاد واستحسان الجماهير. 
وعرضت «حلاق بغداد» مرة ثالثة سنة 1999م على مسرح السلام (المسرح الحديث) بشارع القصر العيني بالقاهرة، وكانت هذه المرة بطولة الفنان محمود الجندي الذي قام بدور الحلاق والممثلة سامية عاطف التي قامت بدور «ياسمينا» بالاشتراك مع رانيا فريد شوقي ومها أحمد وأحمد فاروق الفيشاوي، وحملت المسرحية لأنها تحتمل كل ما استجد من مشاكل سياسية واقتصادية وهموم فنية واجتماعية لذلك لقيت إقبالاً جماهيريًا منقطع النظير.
هكذا مرت مسرحية «حلاق بغداد» بمراحل غير تقليدية لا تتثنى لغيرها وتركت أثرًا يستحق أن يبحث ويدرس كي يتعلم منها صناع الآداب والفنون في كل أنحاء العالم كيف يمكن أن تستثمر أوقات الأزمات فيما ينفع الناس مما جعلها تجربة رائدة في إنتاج نوع مسرحي نادر أسماه البعض مسرح المعتقل، ولكنه لم ينتشر لندرته عربيًا حيث نحتاج إلى قرار بإنشاء مثل هذا المتنفس المسرحي لإصلاح المبعدين والمسجونين،  لأن المسرح بما ينطوي عليه من فنون فيها علاج للروح وشفاء للنفس بشرط ألا ننسى أن «ألفريد فرج» وأقرانه كان لهم فضل السبق والريادة في إنشاء مسرح السجون ودراما المعتقلين.
ولعل هذا الإقبال على الفن واللجوء إلى المسرح في أصعب المواقف كان أحد الأسباب التي وضعت ألفريد فرج ضمن رواد المسرح المصري، وقد تأهل بتلك الريادة للترشح إلى جائزة نوبل في أيامه الأخيرة حيث كان يعالج بلندن وأخرجه ذلك الترشح الذي اقترحته جامعة القاهرة بسبب ريادته في مجال الأدب المسرحي من حالة الحزن والاستسلام للمرض التي كان عليها في مشفاه بلندن فنهض من سريره ليعد ملف المشاركة بجائزة نوبل جامعًا مؤلفاته من هنا وهناك، منشغلاً بذلك عن التفكير بالمرض قرب ساعة الرحيل إلى أن وافته المنية وهو في هذه الحالة من الصبر على الألم بالأمل في الرابع من ديسمبر عام 2005م، ولم تمنحه الأقدار فرصة الترشح لجائزة نوبل إذ رحل قبل أن يتم الأمر وتكتمل المشاركة وخرج من السباق لأن نوبل تمنح جوائزها للأحياء، ولكنه سواء منح نوبل أو لم يمنحها سيبقى ألفريد فرج حيًا بذاكرة المسرح المصري والعربي بما قدم من إنتاج، ولم تكن «حلاق بغداد» سوى نموذج مختلف وعلامة بارزة على خارطة مسرحنا العربي ■