عصر الاقتصاد البنفسجي

 عصر الاقتصاد البنفسجي

انتشرت في الفترة الأخيرة مجموعة من المصطلحات في المجال الاقتصادي لم تكن مألوفة في إطار مدارس الفكر الاقتصادي المعروفة؛ وبدأ الحديث عن أنواع وفروع أخرى من الاقتصاد، وهي ناتجة عن التطور أو عن الاهتمام المجتمعي والمؤسساتي بقضايا محددة، فنشأ مفهوم اقتصاد المعرفة أو الاقتصاد الذكي، والاقتصاد الأخضر أو الاقتصاد البيئي، والاقتصاد الأزرق، ومنها الاقتصاد الأسود، والاقتصاد الفضي، والاقتصاد الرمادي،  والاقتصاد البنفسجي، وهو مصطلح ظهر في إطار قضية الربط بين الاقتصاد والمجتمع والثقافة، والتأثيرات المتبادلة بينهم. وسوف نتناول عبر السطور القادمة مفهوم الاقتصاد البنفسجي، ونشأته وتطوره، وأهميته، ومقوماته، ومتطلباته في إطار التحديات الراهنة. 

 

ظهر اتجاه حديث في الاقتصاد لوصف وتداول مجموعة من الألوان للدلالة على فروع الاقتصاد مقسمة إلى سبعة ألوان؛ فالأسود يشير إلى الاقتصاد الخفي المتعلق بالتهريب والجرائم، والأبيض أو الرقمي المتعلق بتكنولوجيا المعلومات والاتصال، والأخضر الذي يركز على البيئة لتحقيق التنمية المستدامة من خلال تحسين نوعية الحياة وتحقيق العدالة والمساواة الاجتماعية، والأزرق المتعلق بالاستفادة من مخلفات الإنتاج والاستهلاك، والاقتصاد البني المتعلق بالصناعات المدمرة والملوثة للبيئة، والاقتصاد الرمادي أو غير الرسمي الذي لا يُسجل ولا تشمله الإحصاءات والبيانات المركزية ولا يخضع للضرائب ونظام التأمين الاجتماعي، والاقتصاد الأحمر المتعلق بالاقتصاد المركزي الاشتراكي في زمن الشيوعية، أما الاقتصاد الفضي فيتعلق بكبار السن، حيث إن اللون الفضي يرمز للشيب.
ويعد الاقتصاد البنفسجي أحد الفروع الحديثة لعلم الاقتصاد التي تعنى بإضفاء الطابع الإنساني على العولمة والاقتصاد، واستخدام الثقافة كمعامل مساعد في ترسيخ أبعاد التنمية المستدامة، فالاقتصاد البنفسجي يرتبط بشكل كبير بقيم وثقافة المجتمع، مما يضبط استجابة الإنسان ويضمن تفاعله الإيجابي، وبذلك تكون الثقافة أحد المحاور المساعدة في تطوير الاقتصاد، ويرسخ الاقتصاد البنفسجي المسؤولية الاجتماعية للشركات التي تستمد جذورها من الميثاق الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الذي اعتمدته الأمم المتحدة عام 1966م. 
وقد ظهر هذا المصطلح أول مرة عام 2011م في فرنسا ضمن الوثيقة التي نُشرت في جريدة «لوموند» الفرنسية من قبل منظمي أول منتدى دولي للاقتصاد البنفسجي، وكان ذلك برعاية منظمة اليونسكو والبرلمان الأوربي والمفوضية الأوربية، ونشرت أوّل مجموعة عمل مشترك بين المؤسسات استنتاجاتها حول الاقتصاد البنفسجي في عام 2013م بقيادة اليونسكو ومنظمات أخرى. وأشار التقرير إلى أن «الأعمال البنفسجية: هي الأعمال التي ترتبط مباشرة من حيث الغاية بالمحيط الثقافي، مثل مخطط تطوير، أو تحويل منزل قديم إلى متحف، أو منح الجوائز والأوسمة المتعلقة بالثقافة للمؤسسات التي تساهم في تطوير الجانب الثقافي».
وترتبط نشأة الاقتصاد البنفسجي بأهمية الموروث والبعد الثقافي في المجتمعات مرتبطة بمجموعة من العوامل التي تعزز نمو هذا النوع من الاقتصاد أو تساعد في توازن العوامل المرتبطة به والتي تشمل التوازن الاقتصادي والسياسي للبلدان، والتركيز على المجتمعات، وتعزيز الجودة، وتعزيز الابتكار الذي يساهم في الجمع بين المتطلبات المختلفة وتنمية المواهب. ويرتبط الاقتصاد البنفسجي بصورة كبيرة بقيم وثقافة المجتمع، وهو ما يضبط استجابة الإنسان ويضمن تفاعله الإيجابي، وبذلك تكون الثقافة أحد المحاور المساعدة في تطوير الاقتصاد؛ لذا فالاقتصاد البنفسجي معناه: الاقتصاد الذي يحمل قيمًا ترتبط ارتباطًا وثيقًا بثقافة المجتمع. وهو ما يحقق استجابة وتفاعل الكائن المثقف «الإنسان»، فتكون بذلك الثقافة خادمة للاقتصاد وموصلة لأهدافه. وتوصف الثقافة بأنها القوة الناعمة ذات الأثر البالغ في الاقتصاد.
وقد شهدت العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين اهتمامًا متزايدًا بمسائل الاقتصاد البنفسجي تجسد في تنظيم جملة من المؤتمرات والمنتديات العالمية التي تعنى بهذا الاقتصاد، منها منتدى الاقتصاد البنفسجي الذي نظمته منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم «اليونسكو عام 2011م»، بالتعاون مع المفوضية الأوربية، والمنتدى الإفريقي الأول حول الاقتصاد البنفسجي بمدينة مراكش عام 2016م، واحتضنت مدينة مستغانم في الجزائر الملتقى العلمي الدولي الأول حول الاقتصاد البنفسجي لدعم أبعاد التنمية المستديمة عام 2019م.
وتتمثل أهداف الاقتصاد البنفسجي فيما يلي:
- الاهتمام بالبعد الثقافي في تحقيق النجاح المؤسساتي.
- تحقيق التنويع الاقتصادي عن طريق وضع التميز في القطاعات الاقتصادية الأخرى كالقطاع السياحي.
- مجابهة أسباب الوقوع في الأزمات الاقتصادية المتكررة.
- نقل الثقافة والحفاظ عليها.
- الحفاظ على عادات وتقاليد المجتمع مع نشر الثقافة المحلية والتعريف بها دوليًا.
- التكامل مع الاقتصاد الأخضر المستديم عن طريق استخدام المصادر المحلية في إنتاج المنتجات الصديقة للبيئة.

ركائز ومقومات الاقتصاد البنفسجي 
يستلزم الاقتصاد البنفسجي أربع ركائز تهدف إلى التعرف إلى أعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر، وتمكينها والحد منها وإعادة توزيعها، وتتمثل هذه الركائز في الآتي:
1ـ  وجود بنية تحتية عالمية لخدمات الرعاية الاجتماعية: تتيح هذه البنية التحتية للأسر كافة الحصول على خدمات رعاية مدفوعة، مهنية وعالية الجودة للأطفال والمرضى والمسنين والمعوقين. وهذا يتيح تحويل بعض العبء من أعمال الرعاية المنزلية/ غير المدفوعة الأجر إلى الدولة، ومن خلال الإعانات العامة للمنتجين من القطاع الخاص/ أعمال الرعاية المدفوعة.
2 - تنظيم سوق العمل لتحقيق التوازن بين العمل والحياة: تحويل بعض العبء من عمل المرأة غير مدفوع الأجر إلى عمل الرجل من دون أجر، من خلال لوائح مثل: الأبوة وإجازة الولادة، وتقصير ساعات العمل.
3ـ تدابير خاصة تهدف إلى تخفيف عبء العمل غير المدفوع الأجر للأسر الريفية: تعمل البنية التحتية المادية الريفية الفعالة على تقليل عمل النساء غير المدفوع الأجر في حمل المياه وجمع الحطب والزراعة وتجهيز الأغذية.
4ـ إطار بديل لسياسة الاقتصاد الكلي: يمكّن هذا الإطار البديل لسياسة الاقتصاد الكلي من تنفيذ الركائز الثلاث المذكورة أعلاه، عن طريق إعطاء الأولوية لتوليد فرص العمل الكافية وخلق حيز مالي للإنفاق الاجتماعي.

الاقتصاد البنفسجي والتنمية المستدامة 
عرف العالم في الآونة الأخيرة زيادة الاهتمام بالتنمية المستدامة، وذلك بسبب الأزمات العالمية الاقتصادية، البيئية والإنسانية، مما دفع بالمنظمات العالمية والدول إلى عقد العديد من القمم والمنتديات العالمية لتحقيق التوازن بين الأهداف الاقتصادية، البيئية والإنسانية، ويأتي الاقتصاد البنفسجي كداعم للتنمية المستدامة حيث يسعى إلى إضفاء الطابع الإنساني على العولمة الاقتصادية التي تسعى إلى تنميط الاستهلاك الذي يؤثر سلبًا على التنوع الثقافي، لذا تم اقتراح الاقتصاد البنفسجي سنة (2011م) بكونه نموذجًا قائمًا على التنمية الثقافية للخروج من الأزمات الاقتصادية وتجديد الأنشطة الإنتاجية على أساس البعد الثقافي.
ويعد الاقتصاد البنفسجي أحد المكونات الثلاثة للاقتصاد المستديم وهي الاقتصاد الاجتماعي والبيئي والبنفسجي، ويتضح من تسميتها مجال اهتمام كل منهما، إذ يركز الاقتصاد الأخضر أو البيئي على ارتباط الاقتصاد بقضايا البيئة، ويركز الاقتصاد البرتقالي أو الاجتماعي على العلاقة بين الاقتصاد وقضايا المجتمع، أما الاقتصاد البنفسجي فهو مجال اقتصادي يسهم في التنمية المستدامة من خلال زيادة الاعتبار وتثمين العائد الثقافي للسلع والخدمات، والبعد الثقافي، ووجود نظام اقتصادي يعترف بالرعاية كمسألة اقتصادية وكمصدر دائم لعدم المساواة ما لم تُوَزَّعْ مسؤوليات الرعاية بالتساوي.
ويمكن القول إن الاقتصاد البنفسجي يمثل تحالفًا بين الاقتصاد والثقافة، لإضفاء الطابع الإنساني على العولمة للتوفيق بين التنمية الاقتصادية والاستدامة. إنه مجال واعد بكونه نموذجًا قائمًا على التنمية الثقافية للخروج من الأزمات الاقتصادية، وتوجيه الاقتصاد المستقبلي، وتجديد الأنشطة الإنتاجية، وخلق بيئة ثقافية متنوعة ثرية وجعلها محور الارتكاز في تحقيق غايات التقدم والرفاه.
ويسهم الاقتصاد البنفسجي في ترسيخ الهوية الوطنية في المجالات السياحية والتعليمية والصحية والصناعية وغيرها، عن طريق إضفاء الهوية الوطنية التي تمثل ثقافة المجتمع ضمن سلعها وخدماتها المقدّمة للسوق المحلي أو المصدّرة للسوق الخارجي، لإبراز الثقافة الوطنية ونشرها عالميًا للمُحافظة عليها واستدامتها.
ومن الفوائد الثقافية التي يحققها الاقتصاد البنفسجي المحافظة على الهندسة المعمارية، والفن، والتراث، والخيال، والتعلم، والمهارات، والتفرد، من خلال إبراز المؤسسات الوطنية للمنتجات المحلية ذات الهوية الثقافية والقيمة النسبية والميزة التنافسية من خلال تسويقها وتطوير أساليب عرضها وترويجها.
كما أن للاقتصاد البنفسجي بعد بيئي، وبعد اجتماعي، وبعد سياحي، أمّا استثماره للبعد البيئي من خلال استخدام المصادر والخامات الوطنية في إنتاج المنتجات الصديقة للبيئة، وأمّا البعد الاجتماعي؛ فإن هذا النوع من الاقتصاد يركز على المناطق الريفية والساحلية وعلى فئات ذوي الدخل المحدود، وفئات الرعاية الاجتماعية، والباحثين عن عمل، وتلك الفئات من ذوي الاحتياجات الخاصة عن طريق النشاطات الإنتاجية المحلية، وتشجيع الأسر والباحثين عن فرص عمل على تبني المشروعات المحلية التي تركز على المنتجات والصناعات الحرفية الطبيعية والتقليدية والثقافية والإبداعية، مما يعزز المكون المحلي والثقافي ونمو العائد الاقتصادي.

متطلبات التحول للاقتصاد البنفسجي
يعد الاقتصاد البنفسجي لونًا جديدًا للاقتصاد يسهم في تحقيق التنمية المستدامة من خلال البعد الثقافي للسلع والخدمات في كل الميادين، وهو ما يجعل التنمية ليست مسألة اقتصادية فقط بل إنسانية كذلك عكس الاقتصاد الثقافي الذي يركز على قطاع الثقافة فقط، وهذا ما يجعل الاقتصاد البنفسجي يتكيف مع التنوع الثقافي؛ وحسن إدارة هذا التنوع وجعله مصدرًا للإلهام وابتكارا في كل القطاعات والمجالات، لذا يجب على الدول اتخاذ خطوات عملية للتحول نحو الاقتصاد الأخضر والاستثمار في هذا الاقتصاد من خلال تراثها الثقافي المادي واللامادي الغني لتحقيق تنمية مستدامة تحترم هويتها وثقافتها في ظل عولمة غربية تسعى لفرض هيمنتها. 
ويمكن للدول العربية أن تعظم العوائد من الاقتصاد البنفسجي من خلال إجراءات وخطوات تقوم بها الحكومات ومؤسسات وشركات القطاع الخاص، وجمعيات المجتمع المدني، ومنها:  
العمل المنهجي: ويقصد به تبني مفهوم الاقتصاد البنفسجي من خلال جميع مؤسسات الدولة المختصة، وأن تناط المهام والمسؤوليات لكل جهة حسب اختصاصاتها الإشرافية والتشريعية والتنفيذية والمقيمة وفق خطة زمنية واضحة ومحددة، وإلا فإن التقدم سوف يكون بطيئًا ومبنيًا على مبادرات فردية وارتجالية، ذات تأثير ضئيل، وغير فعال، وغير مجدٍ اقتصاديًا واجتماعيًا.
نشر الوعي: وبث رسائل توعوية للمجتمع بأهمية الاستفادة بالتراث الثقافي المادي واللامادي المحيط بهم، وكيفية تحويل ذلك إلى قيمة اقتصادية مجدية اجتماعيًا وماليًا، واستخدام أدوات مبتكرة وخلاقة ومقنعة.
التحفيز: ويكون ذلك من خلال برامج حكومية أو قطاع خاص تحفيزية ماليًا ولوجيستيًا. 
التكامل: بين المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص والقطاع في مجال الاستثمار في التراث الثقافي المادي ■