«النقد الثقافي: قراءة في المرجعيات النظرية المؤسسة» كتاب يؤسس لمداخل نقدية مبتكرة

«النقد الثقافي: قراءة في المرجعيات النظرية المؤسسة» كتاب يؤسس لمداخل نقدية مبتكرة

يمثل النقد الثقافي مشروعًا بديلاً في مقابل النقد الأدبي، إذ يتيح إمكانية مقاربة النصوص بطريقة مغايرة وبأدوات جديدة تمتح من الواقع المعيش ومن الهامش واليومي والاعتيادي في حياة الناس، وتبرز أدوات جديدة لمساءلة النصوص الإبداعية الشعرية والسردية، وقد تناوله بالدراسة والتحليل عدد من الباحثين والنقاد، من أبرزهم الناقد الثقافي السعودي عبدالله الغذامي، بحيث يأتي إسهام هؤلاء النقاد تأسيسًا وتنظيرًا لرؤية أكثر نفاذًا للنصوص، تتخذ من مختلف المقاربات والأدوات منهجًا لها، على اعتبار أن النقد الثقافي فعالية فكرية له أدواته الخاصة.

 

ضمن هذا السياق، أصدر الباحث الأكاديمي المغربي عبدالرزاق المصباحي، كتابًا جديدًا يحمل عنوان «النقد الثقافي: قراءة في المرجعيات النظرية المؤسسة»، صدر عن منشورات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بقطر في أغسطس عام 2022م، وسنخصص له هذه القراءة.
والمصباحي من مواليد مدينة آسفي، وهو أستاذ جامعي، وقد أثرى المكتبة العربية بعدد من المؤلفات العلمية التي توزعت بين الشعر والكتابة النقدية الرصينة، فضلاً عن مشاركاته المتنوعة في الندوات والمؤتمرات العلمية، كما نشر عددًا من المقالات في الصحف المغربية والعربية، وفي المجلات المحكمة والمتخصصة في النقد والآداب. إلى جانب اشتغاله أستاذًا باحثًا بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بمراكش، ونذكر من بين مؤلفاته: كتاب «النقد الثقافي: من النسق الثقافي إلى الرؤيا الثقافية» (2014م)؛ «الأنساق السردية المخاتلة: شعرية السرد، تذويت الكتابة، مركزية الهامش» (2017م)؛ «الرواية والحدود: من التقاطبية الثقافية إلى الفضاء الثقافي» (2024م)؛ «كتابة الرواية: مفاهيم وتطبيقات نقدية» (بالاشتراك مع الدكتور أحمد عبدالمالك، 2024م).
وجاء كتابه «النقد الثقافي قراءة في المرجعيات النظرية المؤسسة» في حوالي 160 صفحة من القطع المتوسط، ويضم مقدمة عامة وفصلين وفهرس للموضوعات والمراجع، إذ يحاول فيه مساءلة الأطر النظرية المؤسسة للنقد الثقافي، انطلاقًا من مساءلة مفاهيمه وأدواته الإجرائية، على اعتبار أنه حقل مثير للجدل، ومنذور للصراع، غايته إعادة توزيع المواقع، وتغيير مراكز السلطة النقدية في علاقتها بموضوعها، وذلك محاولة من المؤلف للإسهام في البحث العلمي الرصين، في مجال بحثي يواجه كثيرًا من التشكيك والنقد، إذ مازال محل جدال ونقاش بين الباحثين وضمن زوايا نظر دقيقة.
افتتح هذا الكتاب بمقدمة عامة، يشرح فيها سياق ظهور النقد الثقافي في المرجعيات الغربية، موضحًا ما تعرض له النقد الثقافي من هجوم من قبل خصومه، إذ يصفونه أنه نشاط هجين من مناهج ومقاربات وفلسفات وعلوم مختلفة، إذ يصرون على أنه في بنائه الداخلي يجمع بين مناهج تحليل متباينة حد التناقض.
يحاول المؤلف في هذا التقديم، اقتراح استغوار دقيق للمرجعيات النظرية المؤسسة عبر العودة إلى منابعه الأولى ومن خلال اقتراح مفاهيم جديدة تروم الخروج بمفهوم النقد الثقافي من حالة الصراع التي أحدثتها أطروحة الغذامي حول «موت النقد الأدبي» والتقاطبية المتحجرة.
إذ يؤكد المؤلف منذ البداية، أنه يرنو إلى التنبيه إلى رحابة المنظورات التي يقترحها النقد الثقافي وقيمة النتائج التي يمكن أن نتوصل إليها، لذلك اقترح أن يقدم قراءة موسعة وناقدة في الأطر النظرية لهذه الفعالية الثقافية، ممثلة في مدرسة فرانكفورت و«مثقفي نيويورك» والدراسات الثقافية البريطانية، ثم في التوجهات الثقافية التي تحسب على النقد الثقافي ما بعد الحداثي من قبيل: المادية الثقافية، التاريخانية الجديدة، ما بعد الكولونيالية، دراسات التابع، بعده الوقوف على أثر كل من دوغلاس كلنر وميشيل فوكو وإدوارد سعيد في التحولات التي شهدها النقد الثقافي منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي، كما أنه يقدم قراءة مقارنة بين تجربتين مؤسستين للنقد الثقافي في المدونة النقدية العربية، ممثلتين في تجربة عبدالله الغذامي ونادر كاظم.
يراهن المؤلف في متن هذا الكتاب، على أنه لا يسعى نحو نزوع موسوعي أو استعراض كمي للمرجعيات، بل يسعى جاهدًا عبر جهد معرفي نحو انتقائها من حيث إسهامها المباشر في صياغة مفهوم النقد الثقافي بصيغتيه التأسيسية وما بعد الحداثية، بغية إمكانية اقتراح مداخل نقدية جديدة لفهم النقد الثقافي وأجرأته عند مقاربة النصوص.

أسئلة الكتاب
يجيب، المؤلف إذن، عن مجموعة الأسئلة والإشكالات التي تكون المنطلقات الرئيسية، وهي: ما حدود مساهمة مدرسة فرانكفورت ومثقفي نيويورك والدراسات الثقافية البريطانية في صوغ مفهوم النقد الثقافي؟ ما تأثير كل من ميشيل فوكو وإدوارد سعيد في بروز الصيغة ما بعد الحداثية للنقد الثقافي؟ ما الحدود القائمة بين النقد الثقافي، وتوجهات «المضلة»، من تاريخانية جديدة ومادية ثقافية وما بعد كولونيالية ودراسات التابع؟ ما طبيعة «المنهج» في النقد الثقافي؟ هل يمكن العدول عن النسق الثقافي الذي صاغه عبدالله الغذامي لاقتراح مداخل نقدية ومفاهيم إجرائية جديدة؟
بعد هذا التأصيل العلمي للنقد الثقافي، يقترح المؤلف متن الكتاب في فصلين؛ حيث خصص الفصل الأول لـ«النقد الثقافي والدراسات الثقافية»، أما الفصل الثاني، فقد عنونه، بـ«النقد الثقافي والمضلة».

بنية الكتاب
يتناول المؤلف في الفصل الأول من الكتاب مفهوم النقد الثقافي من خلال تتبع التطور الذي عرفه «النقد الثقافي»، باعتباره فعالية فكرية ومفهوم «الدراسات الثقافية» عبر الغوص في الأنساق الفكرية لمدارسه النقدية، من قبيل: ما ذكرت سلفًا؛ من مدرسة فرانكفورت و«مثقفي نيويورك»، والدراسات الثقافية البريطانية، حيث يعمل المؤلف من خلال هذا الفصل ليس على عرض تصورات مفكري هذه المدارس فحسب، بل يبحث في صيرورة تشكل المصطلحين (النقد الثقافي، الدراسات الثقافية)، من خلال قراءة موسعة وناقدة، بغية بناء تصور واضح بشأن العلاقة القائمة بين هذين المصطلحين.
أما في الفصل الثاني، فيعمد المؤلف فيه إلى تجاوز مشكل التصنيف بين مفهومي النقد الثقافي والدراسات الثقافية عبر اقتراح مفهوم «المضلة» (Umbrella)، وهو مفهوم نقدي ابتكره معهد برمنغهام للدراسات الثقافية البريطانية، ونشره في صحيفة أوراق عمل عام 1971م، إذ إنه مفهوم متكامل يحوي تحته مجالات متعددة: (نظرية الأدب والجمال والنقد والتفكير الفلسفي وتحليل وسائط الإعلام والثقافة الشعبية والتحليل النفسي وعلم العلامات والنظرية الاجتماعية والأنثربولوجية...) بمعنى مفهوم ديناميكي على شكل مضلة، لذا استثمره المؤلف في مساءلته للنقد الثقافي ومعالجته للقضايا الرئيسية التي يطرحها النقاد الثقافيين في مقاربتهم للنصوص.
إذن حسب المؤلف، فمفهوم المضلة يتيح لنا وفرة منهجية من خلال منظورات متعددة ومتكاملة، تسعى إلى إضاءة جوانب معينة في النصوص وسبر أغوارها عبر مداخل متعددة ومتنوعة، تكمن أهميتها في كشف ما هو مضمر وخفي في الخطابات والنصوص التي تتخذ من المركز والرئيسي منطلقًا لها عوض الانطلاق من الهامش والجزئي في تناولنا للقضايا التي تهم مجتمعاتنا العربية الإسلامية.

خاتمة نقاشية
ختامًا، يُحسب للمصباحي مساءلته للمرجعيات النظرية المؤسسة للنقد الثقافي، من خلال العودة لمضامينها وأسسها عبر منظور تفكيكي ومقاربة «يقظة» تجاه ما تتخذه هذه المدارس الفكرية من منطلقات فكرية واختيارات منهجية، وما ترفعه من شعارات وما تتخذه من استراتيجيات بغية استقراء النصوص وتأويليها.
إن «المصباحي» في هذا الكتاب يعي جيدًا أهمية مساءلة النصوص مساءلة علمية هادئة، تتوخى الانفتاح على مناهج متنوعة وابتداع مداخل تفكيكية واعتماد منظورات أكثر رحابة في كشف النصوص وما تنطوي عليه من مفارقات وتناقضات وتداخلات في مختلف جوانب الحياة.
إن كتاب «النقد الثقافي قراءة في المرجعيات النظرية المؤسسة» يتناول قضايا نظرية غاية في التعقيد، تدل على اهتمام صاحبه بالنقد الثقافي تنظيرًا وممارسة، وأنه يحمل مشروعًا طموحًا في التأسيس للنقد الثقافي نظريًا ومنهجيًا عبر عدة مفاهيمية وإجرائية جديدة، على غرار مشروعي الناقدين عبدالله الغذامي ونادر كاظم، بغية تكريس ممارسة نقدية في تناولنا لقضايا الهامش والمنسي في ثقافتنا العربية والمضمر والمخفي في الخطابات والنصوص عبر اقتراح مفاهيم إجرائية. 
ويعكس الجهد المبذول في الكتاب ثقافة الباحث الموســوعية وأهليته للإضافة العلمية فـــي هـــذا الحقـــل المعرفـــي المثيل للجدل والتناقضات ■