خارج السرب

خارج السرب

ليس كتاب المفكر العربي الدكتور فهمي جدعان: «خارج السرب، بحث في النسوية الإسلامية الرافضة وإغراءات الحرية»،2010، كتابا في تاريخ الأفكار، مع انه يستعين بالتاريخ، وليس كتابا نظريا مجردا، مع انه يقدم مفاهيم جديدة، وإنما هو كتاب في تشخيص حاضر الإسلام والمسلمين، وفي تفحص مستقبلهم ومصيرهم.

مما لا شك فيه أن أسبابا كثيرة تقف وراء هذا الاهتمام الخاص بالحركة النسوية، والنسوية الرافضة على وجه التحديد، وربما من بين تلك الأسباب ما يشير إليه المؤلف في كثير من دراساته واصطلح عليه بمصطلح «الإسلام الطارد»، وما يطرحه من مشكلات بل من معضلات سواء في دار الإسلام أو في دار الهجرة، وعلى رأس تلك المشكلات، مشكلة المرأة التي يعتقد أغلبية الدارسين والمهتمين بالشأن الإسلامي، أن الموقف منها يحدد مستقبل البلدان الإسلامية. وفي هذا السياق يأتي كتاب الدكتور فهمي جدعان كعلامة فارقة تؤذن بقدرة الفكر الإسلامي في الألفية الثالثة على التناول العلمي والنظري والأخلاقي الملتزم، ولتثبت أن بالإمكان قيام إسلام مستنير سمح وقادر على مواكبة العصر، ولتعلن عن عودة الروح لفكر قضى عليه النزاع العقائدي ونظرية المؤامرة والخوف من الحرية والهاجس المرضي بالهوية الذي نخر ملكات الفهم السليم والتمثل النقدي لقيم العصر.

صنف الدكتور فهمي جدعان موضوع النسوية في أربع مراتب، وهي النظرة السلفية والإصلاحية، والنسوية التأويلية والرافضة، وخص هذه المرتبة الأخيرة أو الرافضة بأربعة فصول شكلت محور ومدار الكتاب، مع فصل أول خاص بتاريخ النسوية في الثقافة الإسلامية، وفصل أخير حول النسوية والتنوير، يعتبر من وجوه عديدة بمنزلة فصل المقال.

والقارئ المتمعن لفصول الكتاب يدرك الجوانب العديدة التي تميز هذا الأثر العلمي والفلسفي على السواء، ومن هذه الجوانب ما هو خاص بالمادة العلمية وما تميزت به من غنى وثراء في المعلومات والتحليلات والخلاصات والإشارات والنتائج، ومنها ما هو خاص بالجانب التاريخي المتمثل في التأريخ للحركة النسوية الإسلامية على العموم والنسوية الرافضة على وجه التحديد، ومنها ما هو خاص بالجانب الفلسفي المتعلق بفلسفة الدكتور فهمي جدعان القائمة على أطروحة المصير والمستقبل والتقدم والترقي والخلاص والمآل، متخذا من مآل النسوية الرافضة نقطة تعيين لما يمكن أن تؤول إليه المرأة المسلمة في الألفية الثالثة إذا لم يحسن الفكر الإسلامي تقدير عواقب الانغلاق والتصلب والتحجر والتعصب والرفض لبديهيات العصر، وهو في ذلك لا يختلف في تقديرنا، عما ذهب إليه في كتابه السابق: «الخلاص النهائي»، عندما نظر في الاتجاهات الفاعلة في الثقافة العربية من جهة حلولها النهائية.

ومن الناحية التحليلية فإن الدكتور فهمي جدعان، وبعد أن قدم في الفصل الأول ما يمكن أن نصطلح عليه بحديث في المنهج حيث ميز بين مستويات الخطاب النسوي، رسم لنا أربع لوحات في أربعة فصول خاصة بالنسوية الرافضة وهي: «مرافعة امرأة غاضبة» في الفصل الثاني وكان حول «تسليمة نسرين» البنغالية، و«قفص العذارى» في الفصل الثالث وكان حول «ايان حرسي» الصومالية، و«تلفزيون شاذ...» في الفصل الرابع وكان حول «إرشاد منجي الأوغندية»، و«العروس الغريبة..» في الفصل الخامس وكان حول «نجلاء كليك» التركية، وانتهى في الفصل السادس إلى الفصل في «معركة التنوير».

الحرية الفكرية

يعتمد المفكر العربي الدكتور فهمي جدعان على أطروحة أساسية، وهي: أن الحرية الفكرية ليس لها «من راد سوى الحرية الفكرية النقدية». من هنا فإن المنهج، وبخاصة عندما يتعلق الأمر بالإسلام ومشكلاته، يجب أن يكون منهج «الجدل النقدي والمكاشفة» بديلا عن «الإفتاء الحاد الأقصى، والتحريم، والاحتقار، وإقصاء المخالفين أو مناصبتهم العداء الذي لا يرحم».

وإذا كانت مادة كتاب: «خارج السرب» عبارة عن: «مقالات صحفية وكتابات أدبية مؤلفة من الرواية والشعر، وبعض الدراسات» وهو ما سهل الأمر نسبيا على المفكر الذي دأب على مناقشة النصوص الفلسفية القديمة والحديثة، كما يظهر ذلك جليا في دراساته التراثية، وبخاصة في كتاب: «المحنة جدل الديني والسياسي في الإسلام»، 1989، ودراساته الحديثة، وبخاصة في كتاب: «أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث»، 1979، وفي كتاب: «الخلاص النهائي: مقال في وعود الإسلاميين والعلمانيين والليبراليين»، 2007، فان هنالك في المقابل جهدا كبيرا بذله الدكتور فهمي في ترجمة نصوص النسوية الرافضة. والحق فإن النصوص الشعرية والأدبية التي ترجمها تعبر عن تمثُّل عال، وعن كفاءة لغوية فائقة طوعت معاني النسوية الرافضة، وقربتها للقارئ بحيث يشعر كأنها نصوص أصلية وليست نصوصا مترجمة. وهو ما يسمح للقارئ بتشكيل صورة مناسبة عن هذه الجماعة التي يصعب النظر إليها نظرة حيادية. وهنالك العرض والتحليل، إذ لم يتوان الدكتور فهمي في عرض أفكار هذه الثلة النسوية بما في ذلك الآراء الغريبة، وقدمها بأسلوب مميز فرض صرامته على موضوعات تصيب الوجدان الثقافي العربي والإسلامي، وتوقف بالتحليل عند أهم وأكبر قضايا هذه النسوية الرافضة، وتساءل أكثر، بل نستطيع القول إنه اكتفى في كثير من الأحيان بالسؤال، وذلك بقصد خلخلة البديهيات والمسلمات والمتفق عليه، وهذا بلا شك أسلوب فلسفي بامتياز.

وإذا كانت مادة الكتاب سهلة نسبيا، فإن المواقف التي عبرت عنها هذه النسوية الرافضة ليست هينة بالمرة، ويحسب للدكتور فهمي قدرته على إيجاد الخط الناظم لمواقفه من هذه النصوص وعرضها وتحليلها والرد عليها حينا والتعاطف معها حينا آخر من دون إسراف أو شطط في التحليل أو الحكم، بل كان في كل ما قدمه مثالا للصبر والأناة والحلم والإنصاف والتسامح والحس الفني والفهم الدقيق والإدراك الصحيح لمشكلات هذه النسوية الرافضة.

ولقد حمل كتاب «خارج السرب»، جديدا في المصطلح لا تخطئه العين، ودعوة صريحة إلى التأويل ونقدا حاسما للمقاربة «الذرية»، وإشادة واضحة بمنهجية النسويات المؤولات، وبخاصة منهج «أمينة ودود» المسمى بالمنهج الكلي/الشمولي، لأنه «يعزز الحرية الفردية للمرأة، ويؤكد المساواة بين الجنسين»، ومنهج «رفعت حسن»، ومعاييرها وبخاصة المعيار الأخلاقي ومؤداه: رفض «أي استخدام للقرآن من أجل تعزيز الظلم، لأن الله عادل». ويعتبر في تقديري، ما بينته هذه المفكرة النسوية بخصوص المساواة بين الرجل والمرأة مثالا للبرهان السليم والصحيح والمناسب لروح الإسلام (ص 71). من هنا، نفهم في تقديري، إعجاب الدكتور فهمي بهذه النسوية الإسلامية التأويلية.

وعملا على تحقيق الوضوح المنهجي في مختلف المسائل الشائكة التي تميز النسوية الرافضة، فإن الدكتور فهمي جدعان أجرى تمييزا بين الإسلام السلفي التقليدي ونظرته إلى المرأة، والإسلام الإصلاحي أو «الإصلاحية الإسلامية»، وقدم في هذا السياق أحد أهم مفاهيمه الجديدة ألا وهو مفهوم «المجموع الفقهي النسائي» كما قال بـ «النسوية الإسلامية التأويلية» في مقابل النسوية الإسلامية الرافضة، وهذه مفاهيم تضاف إلى سلسلة مفاهيم الفيلسوف فهمي جدعان كمفهوم العقل النظري والوجداني، والوظيفة، والعلاقة، والفعل، الخ.

تحليلات خاصة بالنسوية الرافضة

وبناء على هذا الوضوح المنهجي، قدم الدكتور فهمي تحليلات عديدة خاصة بالنسوية الرافضة، منها ما هو سياسي متصل بسياسات الغرب وبخاصة بعد أحداث سبتمبر 2001 وانتشار خطاب الإرهاب، ومنها ما هو نفسي ويتجلى في تحليله لسِِيِر النسويات الرافضات، ومنها ما هو اجتماعي ويتمثل بشكل بارز في المجتمعين الأبوي الذكوري وقهره وسطوته وعنفه، والمجتمع الغربي الحر ومخاطره ومخاوفه، ومنزلة الأقليات المسلمة فيه وما تواجهه من صعوبات في التأقلم والتكيف والاندماج، ومنها ما هو إعلامي متصل بشكل خاص بصورة الإسلام في الغرب، أو بالأصح ما آلت إليه صورة الإسلام في الغرب والتي هي صورة ما اصطلح عليه بـ «الإسلام الطارد»، وبخاصة أن بعض هؤلاء النسوة يعملن في قطاعات الإعلام، ومنها ما هو ديني وما يتسم به من غلو وتصلب، وبخاصة في موضوع الفتاوى المتعلقة بالمرأة. ومنها ما هو استراتيجي، ويتمثل في التلاعب الذي يحدث لبعض هؤلاء النسوة الرافضات من قبل بعض الدوائر الغربية وتياراتها المناوئة للإسلام والمسلمين، وهو معطى حاضر بشكل جلي في تحليل الدكتور فهمي.

يقول حول إيان حرسي: «ألم تكن نظرتهم إليها صادرة عن منظور سياسي، من جهة أنها فولكلور إسلامي في أعين كثيرين منهم يمكن استخدامها لمقارعة الأصولية الإسلامية بأصولية علمانية ليبرالية؟ وهل يبعد عن ذلك كثيرا سلوك «المحافظين الجدد» الذين استقبلوها وروجوا لها في أمريكا؟ بحيث بدت في هذا السياق كأنها إحدى أوراق «الحرب على الإرهاب الإسلامي»!. كما يقول عن إرشاد منجي «وليس يَبْعد أن يكون لديانة رئيسها المباشر في القناة التي كانت تعمل محررة فيها اثر في ظاهر هذا الانحياز». وهنالك أخيرا ما هو متصل بالمصلحة والمنفعة والنجاح، وذلك بسبب انتمائهن إلى مؤسسات إعلامية واجتماعية واقتصادية وثقافية ورغبتهن في الاندماج الاجتماعي والسياسي في المجتمعات الغربية وتحقيق النجاح بل والشهرة أيضا.

التحليل الجمالي

وبالإضافة إلى كل هذه الوجوه التحليلية، فإن هنالك وجها جديدا، يبدو لي أننا نقرأه لأول مرة في كتابات الدكتور فهمي جدعان ألا وهو الوجه الفني والجمالي والشاعري، يؤكد هذا عنوان الكتاب الذي يتحدث عن السرب والخروج من السرب، وعن القفص أو داخل السرب. ولعل في اختيار الطيور وأسرابها مسحة جمالية وفنية واضحة، أبعد بكثير لو أطلق عليها تسمية نيتشوية تصفهن بالقطيع، وما يؤكد هذه المسحة الفنية النصوص الشعرية والأدبية التي ترجمها المؤلف، وأكثر من هذا الروح العامة للكتاب التي وقفت عند معاناة وآلام هؤلاء النسوة وقساوة تجاربهن التي تعد بحق تجارب حدية وقصوى. والذي لا شك فيه هو أن هذه الثلة من النساء اللائي يمثلن النسوية الرافضة يعبرن عما يعرف في الأدب والفن بالتجارب الإنسانية القصوى. والحق، فقد نقل إلينا الدكتور فهمي صورا لهؤلاء النسوة يصعب تحمل بعضها.

ومن هنا لا يتردد الدكتور فهمي في الأخذ بالجانب النفسي فيما يتعلق بالمسار الشخصي الشقي لهؤلاء النسوة. وبالفعل، فلقد كان مسارا صعبا ومؤلما وحادا في الوقت نفسه، لذا فإنه وعلى الرغم من النقد الذي يوجهه لهؤلاء النسوة، إلا أن القارئ يدرك بيسر تعاطف الكاتب مع هذه الشخصيات المعذبة.

ولكن، وعلى الرغم من تعاطف الكاتب مع هذه النسوية الرافضة، إلا أن الكتاب في مجمله قد كان، في تقديري من أكثر كتب الدكتور فهمي جدعان نقدا بالمعنى المباشر والصريح، ولقد قدم نقدا متعدد المستويات لهؤلاء العصبة من النساء، فهنالك نقد لتصورهن للإسلام، ونقد لطبيعة حجاجهن، ونقد أخلاقي لمواقفهن كرفض العنف اللفظي ضد النساء، واستعمال أشنع الألفاظ في حق الإسلام، ونقد لخلفيتهن المعرفية الخاصة بالإسلام، وبخاصة عند الصومالية والتركية، ونقد لمسلكهن المتمثل في النفاق الظاهر عند بعضهن، ولذا نجد الدكتور فهمي لا يتردد في إقرار ما اعترفت به «إيان حرسي» من أنها تمتلك فن الكذب، ليقول: «حقا «تمتلك فن الكذب» مثلما تقول».

ولا يتوقف نقد الدكتور فهمي عند مقولات النسوية الرافضة، وإنما يشمل نقده المجتمع المعاصر وثقافته، وبعض مظاهره الظالمة والمنحازة، ومن ذلك الإجراءات السلطوية المتمثلة في فرض التقدم بقوة العسف كما جرى في التجربة السياسية الحديثة لتركيا وتونس، وذلك لأن هذه التجارب «تنتهي إلى أن تضفي على الديمقراطية العلمانية اسما غير ديمقراطي على الإطلاق». كما يرفض الطرح العقلاني الأحادي قائلا: «إن «الإنسانيين العلمانيين» الذين يشجبون الدين ويزعمون انه «لا عقلاني» يغفلون عن حقيقة ظاهرة هي أن العقلانية ذاتها يمكن أن تلبس لبوس الأرثوذكسية الدغماطية».

ومن وجوه هذا النقد توظيفه لمصطلح جابر عصفور وهو مصطلح «إسلام الصحراء»! وعلى الرغم من هذا النقد الشامل، إلا أننا نتلمس في مقاربة الدكتور فهمي إنصافا لبعض مواقف هؤلاء النسويات الرافضات، ومن هذا إشادته بموقف «إرشاد منجي» القائم على الاقتناع بالإسلام، وما تقترحه من برامج عملية تهدف إلى ترقية المرأة المسلمة، كالانخراط في الأعمال التجارية ودعم المشاريع الاقتصادية للنساء المسلمات دعما يفضي إلى التغيير.

 

 

 

تأليف: د. فهمي جدعان