لماذا اخترت هذه القصص؟

فن كتابة القصة القصيرة لا يعتمد على السعي لامتلاك الأدوات الفنية فقط؛ فهو يتطلب كذلك الدّربة على التقاط فكرة والنسج عليها بإيجاز لحياكة ثوب مكتمل فنيًا لقصة ناجحة بما يناسب الذائقة الأدبية المعاصرة المتغيرة بسبب التطور التكنولوجي المتسارع، والواقع المعيش الذي بات أكثر تعقيدًا، وليطمح لأن ينافس بذكاء الشاشات الآسرة، تلك التي تحوط المتلقي وتسرقه لعوالمها الملونة.
كتابة قصة قصيرة قادرة على جذب انتباه المتلقي، بلغة أدبية دونما غموض، وبمنأى ما أمكن عن التقريرية المباشرة، وترك بصمة ولو صغيرة في ذاكرة المتلقي وذائقته، هو ما تميزت به القصص المختارة للفوز، والتي تدل على امتلاك كتّابها من جيل الشباب الأدواتِ الفنية إلى حدٍ كبير، ما يشكل أساسًا لبدء المسير في درب «القصة القصيرة» الممتد لآفاق إبداعية لا متناهية.
المرتبة الأولى: قصة «شخصان» لبلال الخوخي/المغرب
الراوي في القصة يراقب الحي من أمام بيته، ويرسم صورًا لحياة يتوق ليكون مشاركًا بها بفعالية، لكنّ عجزًا ما يمنعه من ذلك، ربما هو التقدُّم في السن أو لوجود علة ما لم يوضحها الكاتب، وهو يراقب شيخًا لم يبرح مكانه لساعات «عيناه تخترقان كل شيء إلى اللاشيء، كأنما تاه في عوالمه الداخلية، تلك العوالم المتراكمة في جوهر الإنسان، المصفدة إياه»، ربما يحمل في داخله تجربة مؤلمة لم يستطع التصالح معها أو التشافي منها أو تصييرها خبرة حياتية تقوّيه وتزيد وعيه وقدرته على الاحتمال في رحلة الحياة غير الوردية، أو «لعله يبحلق في فراغه الداخلي»، الفراغ المتأتي من كون الداخل غير مؤثث بأمنيات ومحبة وحياة، أو حين ينضب الانتظار؛ انتظار أي شيء حتى لو كان تفتح زهرة!
إضافة إلى اكتمال العناصر الفنية فإنَّ ما يميز هذه القصة اللغة الأدبية التي صوغت بها دونما تعقيد أو غموض غير مبرر، يمتلك الكاتب لغة جميلة ينقش عليها المعاني، ويوصلها بسلاسة للمتلقي ما يجعله مشاركًا في بناء الحدث والاستدلال على المعنى المخفي بمهارة خلف الكلمات الموحية، مثل قوله «السماء تعانق الأرض» دلالة على المطر، و«المرأة الهاربة من الشبح» إشارة لسرعتها في السير.
القصة نابضة بالوصف والحركة ورسم المشهد بمهارة، حتى تحس أنَّ المتلقي يراقب مع الراوي ما يحدث، ربما الراوي يتأمل نفسه!
«شخصان» كلمة واحدة منكرة وفّق الكاتب في اختيارها عنوانًا لقصته المتميزة، وإن نقصها إضافة بعض التفاصيل الصغيرة لتقنع المتلقي بسبب طول التأمل والجلوس الصامت لهذين الشخصين في القصة.
الشيخ يراقب اللاشيء، ربما لأنه تعرَّض لصدمة قوية في حياته، خيانة أو فقد مفاجئ، والتأمل واعتزال التعاطي مع الحياة لفترة تمنح الفرد فرصة للتشافي إن هو امتلك الإرداة لمواصلة طريق الحياة لا الهرب منها.
الراوي يتأمل في كل شيء؛ فهو حبيس جسده العاجز، لكنه يتوق للتعاطي مع الحياة، وفي داخله عطش يحاول أن يروي بعضه بالـتأمل.
المرتبة الثانية: قصة «فرق توقيت» لآلاء أحمد عبدالسلام/مصر
تتناول القصة حكاية امرأة أمضت سنوات طويلة وهي تنتظر في محطة للقطارات، وضعت الكاتبة المتلقي في تحدٍ منذ الجملة الأولى «كانت تعلم أنها تنتظر قطارًا لن يأتي»، فلماذا تواصل الانتظار مادام الذي تنتظره لن يتحقق؟ تنجح الكاتبة بإثارة الأسئلة لدى المتلقي كي يواصل القراءة للمشاركة في كشف سبب انتظارها؛ فهل كانت تنتظر مرحلة جديدة في حياتها تتوق إليها أم تنتظر من يعود إليها؟ وبطلة القصة تدور في حلقة مغلقة من الانتظار لا تملك بديلاً أو ربما لا تبحث عن بديل.
«كم شهرًا انتظرت؟ بل كم سنة؟»، التدرُّج في إيصال المعلومة كأنها ريشة فنان يرسم لوحة تتضح معالمها مع كل لمسة مضافة.
اللغةُ الموحية بالمعنى باستخدام المفردة الدالة لإشراك المتلقي في فهم الحدث وبنائه، أسلوبٌ ذكي استخدمته الكاتبة دونما غموض يُربك القارئ، مثل قولها «رحلت إلى دار لا يذهب إليها أحد إلا مجبرًا» إشارة إلى موتها.
ثمة توظيف للوصف الخارجي ليخدم بناء الشخصية بطريقة ذكية، مثل «ينظر لها العامل باستهزاء وهو يكنس شيئًا لا مرئيًا على الأرض فكأنما يكنس سنوات عمرها».
المفارقة أنّ الرجل الذي كانت تنتظره منذ عمر قاحل وصل في اليوم ذاته الذي ماتت فيه، لنكتشف بأنَّ «الست تحية» هي زوجته، وبأنّها أصيبت في عمر مبكر بفقدان للذاكرة، وقد كرَّس حياته للبحث عنها.
وفّقت الكاتبة في اختيار «فرق توقيت» عنوانًا لقصتها، فبمجرد انتهائه من القراءة يجد المتلقي تفسيرًا مقنعًا لهذا الاختيار. لكن لم تكن خاتمة القصة - برأيي - موفقة تمامًا، فيها انهزامية غير مبررة؛ فالرجل حاول البحث عن زوجته سنوات طويلة لكنَّ القدر سبقه إليها، ولم يكن له يد في ما أصابها، وانتحاره لا يتوافق مع روح التصميم التي تسكنه، المتلقي يحتاج إلى من يرسم له شمسًا في عتمة الواقع، لا أميل للنهايات التي لا تترك ضوءًا في نهاية النفق.
المرتبة الثالثة: قصة «سنحيا بالخير» لكنزة لخلوفي/الجزائر
يكمن السر في تميّز هذه القصة في أنها تحمل رسائل مهمة، منها: التروّي في اختيار الصديق، والوعي بأصناف البشر المحيطين بنا بين محبٍ وكاره وداعمٍ وحاقد، والسعي الواعي لتحويل المصاعب والتحديات لحافزٍ للإنجاز. اعتمدت الكاتبة أسلوب الراوي بضمير المتكلم بلسان طالبة جامعية مجدِّة لا تحبّذ التغيُّب عن الدّروس، لكنها تضطر للغياب عن مادة من المواد الجامعية، بسبب المرض، وحين تطلب دفتر الدّروس كي تسجل ما فاتها من معلومات تواجه بالتسويف المقصود الهادف لعرقلة حصولها على المعلومات قبيل الامتحان، وتُصدم بكمية الحقد والرغبة الدفينة لدى بعض زميلاتها في رؤيتها فاشلة؛ فتقرر النجاح والتفوق وتحقيق مبتغاها. العناصر الفنية للقصة القصيرة مكتملة، ونجحت الكاتبة في إيصال فكرتها بوضوح، ولكن ما يؤخذ على الأسلوب هو المباشرة والتقريرية في الطرح؛ فمفتتح القصة - مثلاً - هو أقرب لأسلوب المقالة منه للقصة القصيرة من حيث عرض فكرة تمهيدًا لشرحها ومحاولة إقناع المتلقي بها، كما أنَّ اللغة خلت تقريبًا من الصور الفنية المحببة في الفنون الأدبية عمومًا، مثل هذه الملاحظة يمكن للكاتبة تجنبها مستقبلًا بالمران وتراكم التجربة في الكتابة القصصية خاصة بوجود موهبة أدبية واعدة.
المرتبة الأولى: قصة «شخصان» لبلال الخوخي/المغرب
لم يبرح مكانه منذ ساعات، وجهه ملبد باللاحياة، المعنى الوحيد الذي يمكن قراءته على جبهته خليط بين الريبة والغضب، لا أدري كيف نفرق بين تجليات الأحاسيس، ربما الحدس هو العامل الأول، أو ربما شيء تلقننا إياه الحياة قبل الخروج إليها. السماء تكتسي وشاحها الرمادي منذرة بزخات قادمة، امرأة تعجل خطاها على الرصيف المجاور كأنها هاربة من شبح، خلفها طفلتان تلهوان بالحبل وقد وضعتا محفظتيهما على عتبة باب خشبي لم يسلم من الخدش، الخدش يحمل تاريخًا وقصة أبطالها - في الغالب - ما عاد لهم وجود في الواقع أو في الذاكرة، شاب يمر بجوارهما، يتهادى مع إيقاعات سماعتيه غير واع بما تحتويه الكلمات. والشيخ بين كل المتغيرات، لا يزال جالسًا، عيناه تخترقان كل شيء إلى اللاشيء، كأنما تاه في عوالمه الداخلية، تلك العوالم المتراكمة في جوهر الإنسان، المصفدة إياه حتى تصير أشد عليه من عالمه المرئي، أو، لعله يبحلق في فراغه الداخلي، وهذا يختلف عن العوالم الداخلية في كل شيء عدا تصفيده لروح الفرد، لذلك لا يمكنني أن أفرق في أيهما تشخص عيناه. تعانق السماء الأرض فيختبئ معظم من بالحي خشية البلل، يدخلون منازلهم أو يأوون إلى مظلات الدكاكين والسقائف. أحمل كرسيّي وأتقهقر داخل منزلي دون أن أن تضيع زوايا الحي عن عينيّ، أشفق على الرجل الذي لم يحرك ساكنا، من يخبره أن الماء لا يملك أي قدرة على إخفاء التجاعيد ولا على غسل الذاكرة؟ الطفلتان محتميتان بالباب المخدوش، لكنهما تتدافعان وتتضاحكان، تحاول كل منهما دفع الأخرى نحو المطر، إحداهما تحمل محفظة الثانية مهددة إياها بأنها ستمدها كي تتبلل، تجرها وتمنعها عن ذلك، تنهرها بشدة، ثم تعودان إلى التدافع والتضاحك. أتُرى الشيخ يراقبهما؟ يروي ظمأ حنينه إلى الطفولة؟ كيف ننتقل - بسرعة البرق - من الطفولة إلى الكهولة؟ كيف تتقوس أظهرنا في غفلة عن كل شيء في الدنيا؟ أرى المرأة الهاربة من الشبح عائدة تحمل مظلة سوداء، تهرول الفتاتان نحوها وتحضنانها ثم يذهبن جميعًا محتميات بالمظلة. الرجل محملق في الباب المخدوش، أفكر في أن الخدش ما هو إلا نتيجة لطول الحملقة، كأن خيطًا خفيًا مربوطًا بين الباب وعيني الرجل، يشدهما بقوة متوازنة كالقوة الجاذبة بين الأرض والقمر. تقترب امرأة منه، تربت على كتفه وتبتسم، لا ينظر إليها، يساورني شك فظيع، إن الرجل أعمى، الرجل أعمى وأنا أحيك حوله القصص، بيد أنه يبدد شكي إذ يستدير نحو المرأة ويتمتم لها فتنسحب، ثم يعيد عينيه حيث كانتا على نفس الخط المستقيم مع الباب. أفكر في أن أنادي على المرأة وأطلب منها أن تجلب له مظلة على الأقل، لكني مجرد رجل عاجز عن فعل حركة غير توزيع عينيّ على الجنبات، أما كلماتي فمصيرها سجن أبدي خلف لساني. الماء يتخذ مساراته على جنبَيْ الطريق متجها نحو فتحات المجاري، وبعضه يحط على الرجل محيلا إياه إلى شلال، خليط الريبة والغضب لم ينجل عن ملامحه، لكنه لا يبالي بتاتًا، إذ يظل كما هو، جالسًا، يراقب اللاشيء، وأظل أنا، جالسًا، أراقب كل شيء.
المرتبة الثانية: قصة «فرق توقيت» لآلاء أحمد عبدالسلام/مصر
كانت تعلم أنها تنتظر قطارًا لن يأتي... ليس له في لوحة المواعيد ميعاد وصول... قطارًا انطلق من مكانٍ مجهول وذهب إلى مكانٍ مجهول... ومع ذلك تنتظر.
الانتظار أمل من يأس من الأمل... الاختيار الوحيد لمن جرب طرقَ الأبواب كلها ولم يُفتح له باب...
كم شهرًا انتظرت؟! بل كم سنة؟
- لقد قال إنه سيعود... لا أعلم في أي قطار ولكنه سيعود... مَن هو؟! لا أذكر ولكن قلبي يذكر أن أحدهم وعدني بالعودة، ينظر لها العامل باستهزاء وهو يكنس شيئًا لا مرئيًا على الأرض فكأنما يكنس سنوات عمرها... الست تحية، بشالها البني الذي تضعه على كتفيها في كل فصول السنة وجلبابها الذي لا يتغير إلا لمامًا.
أصبحت من علامات المحطة... مثلها كالعواميد والحوائط ... حتى القضبان تغير مسارها وهي لا تتغير أبدًا.
نزلت يومًا من إحدى القطارات القادمة من الجنوب، الاحتمالات كثيرة، ربما أتت من أسوان أو سوهاج أو قنا... في البداية حاولوا طردها، فتركب أي قطار متجه إلى أي مكان وتلبث أيامًا في رحلتها ثم تعود في النهاية إلينا، لذلك اعترفوا بوجودها كشيء لا غنى عنه.
يثرثر معها العمال والحمالون والبقالون والمسافرون أيضًا... كل من ابتغى إزاحة همومه عن صدره جلس ليسكبها لديها، وهي تتلقفها دائًما بنفس طيبة وصدرٍ رحب... كان شعرها في البداية أسود اللون تتخلله خصلات بيضاء ثم أصبح أبيض كله... تغير الناس ولم يعد يعرفها إلا القليل ممن شابوا معها من القِدام.
كانت قصتها تبدو وكأنها بدون نهاية، ولكنها في يومٍ ما رحلت إلى دار لا يذهب إليها أحد إلا مجبرًا.
وفي هذا اليوم بالذات نزل من أحد القطارات راكب يسأل عنها بصورة قديمة تظهرها أيام شبابها، لم يتعرف على الصورة أحد إلا عم عطية لأنه رآها حين كانت أصغر... قال للرجل ببساطة إنها ماتت اليوم.. تهاوى الرجل العجوز على ركبتيه، بكى بكاءً تتفطر له القلوب.
- بعد كل هذه السنين، لقد سخرت عمري للبحث عنها... كانت زوجتي، حدثت لها حالة عجيبة من فقدان الذاكرة المبكر، تاهت مرة ولم أعلم شيئًا عنها سوى أنها ذهبت لمحطة القطار، لم أكلّ يومًا وأنا أبحث عنها في كل المحطات واليوم أجدها ميتة! لم تتلاقَ مواعيدنا ولو لمرة!
لم يستطع أحد منا أن يواسيه، قام ذاهلًا ومشى بخطواتٍ مرتعشة إلى حيث لا نعلم.
في اليوم التالي حين وجدوا الجثة المشوهة تحت عجلات القطار لم نعرفه إلا من الصورة التي بقيت معه...
لم يعرف أحد إذا كانت الحادثة انتحارًا أم لا... ولكني عرفت أني لن أفعل شيئين ما حييت
البحث عن الراحلين والانتظار.
المرتبة الثالثة: قصة «سنحيا بالخير» لكنزة لخلوفي/الجزائر
تُعتبر الجامعة البوابة نحو المستقبل، ولكن قبل وُلوجها، على كل طالب أن ينتبه لكلّ عقليات الطلبة فمنهم الطيّب والحاقد والمُشجّع والفاشل ولك الحرّية الكاملة في اختيار صديقك.
عن نفسي، عندما انتقلت إلى الجامعة كنت أحرص دائمًا على الحضور بشكل يومي ولا أُحبّذ أبدًا فكرة التغيّب عن الدروس حتّى لا أُشتّت فكري بأيّ عامل خارجي، ولكن مع الأسف بسبب المرض تغيّبت في أحد الأيام عن مادة من المواد، فطلبت من نغم، وهي إحدى زميلاتي الرائعات قلبًا وقالبًا، دفتر الدروس حتّى أُسجّل ما فاتني من معلومات، وبكلّ لباقة قالت لي إنه عند رندة، ويمكنني أن أُنسّق معها لتُعيرني إياه.
انتظرت أسبوعًا كاملاً لكنّ ضيق الوقت جعلني أذهب عند رندة لطلبه منها مباشرة، فقالت لي بكلّ لطف: غدًا سأُحضره لك.
في الغد أعدت طلبه فقالت لي إنها لم تستطع نقل الدّرس وستحضره غدًا... وهكذا استمرت لثلاث أو أربع مرات، وفي المرة الأخيرة قلت لها حاولي إحضاره غدًا كأقصى حد لأنّ الامتحانات في الأسبوع الموالي، ويجب أن أكتب الدّرس وأُعيد الكرّاس لصاحبته حتى تراجع دروسها كذلك، وفجأة تفاجأت جدًا بصراخها في وجهي وقالت لي: أنت دائمة القلق على أشيائك!
في الحقيقة لم أستوعب وجهة نظرها آنذاك، باعتبار أنّني لم أطلب يومًا دفتر زميل أو زميلة في الجامعة، أُحرجت جدًا من موقف صراخها لأن زملاءنا في القسم كانوا في نفس المكان، ونظرًا لاحترامهم لي تدخّل أحدهم وقال لها باستهزاء «هل ستأكلينها؟».
ثم أجبتها بكل هدوء: لن أقبله منك وسأتصرف من جهة أخرى، ثم انصرفتُ.
تغيب - للأسف - في تلك الحصة الكثير من الطلبة فلم أجد سوى دفتر طالبة معنا في القسم من النوع الذي لا يهتم بالتفاصيل، ولم تكتب سوى رؤوس أقلام لم تتعد نصف الصفحة، عكس زميلتي نغم التي كانت تهتم بكل تفصيلة يقولها الأساتذة وفي كل المواد.
لكن ما كان يهمني جدًا هو معرفة موضوع ذلك الدّرس حتى يتسنّى لي البحث بمفردي عن تفاصيله.
جاءت الامتحانات السداسية، والمفاجأة هو كون كلّ تفاصيل الامتحان حول ذلك الدّرس فقط، لم أرتبك بتاتًا وأجبت بما بحثت عنه وجادت به أفكاري، وبعد خروجي مباشرة تقدّمت رندة نحوي مهرولة وقالت لي: لقد كان الامتحان حول الدرس الذي لم تكتبيه، فكيف كانت إجابتك؟
(وكأنّها كانت تنتظر خيبتي بفارغ الصّبر).
فقلت لها: أجبت بما عرفت!
بعد أسبوع بالضبط علّقت الأستاذة النقاط والمفاجأة أنّني تحصّلتُ على أعلى علامة في المدرّج وليس في الفوج (أي على مستوى أربعة أفواج).
مشيت في الرواق والفرح يغمرني، وأنا في طريقي للخروج من الكلية وجدتها فتقدّمت نحوي بوجه بائس وقالت لي: أصحيح أن الأستاذة علّقت ورقة النقاط؟
فقلت لها: نعم.
فقالت: وهل أغلب الأفواج تحصلت على علامات كارثية تحت المعدل؟
فأجبت بنعم.
فقالت: وكم هي علامتك؟
فقلت لها: أحسن علامة في الدفعة.
فذهبت تجري في حالة يرثى لها، فأغلب الظّن أنّهم أخبروها بأنها تحصّلت على سبعة من عشرين.
في الحقيقة، في اللحظة التي أخرجت فيها رندة كرهها لي دون سبب ظاهر قرّرت النجاح والحصول على أفضل علامة دون الدخول في مناوشات عقيمة، لأنها لا تمثّل سوى نموذجًا عن الأشخاص الذين يراقبوننا بأعين الحاسدين لا بأعين المُحبّين. لكن نغم تحصلت على علامة ثلاثة عشرة من عشرين وأثبتَتْ للجميع بأنّنا لن نحيا إلاّ بالخير وبه سنحقّق النّجاحات الباهرة ■