انتظروا الكريل على موائدكم!

تختزنُ محيطات وبحار الأرض قرابةَ %80 من التنـوع الأحيائي في العالم؛ وثمة تقديرات تشير إلى أن مساحاتٍ هائلة من أعماق المحيط، التي لم يصل إليها أحد بعد، يعيش بها عشرة ملاييـن نــوع من الكائنات الحية، لا نعــرف عنها شيئًا.
     إن علاقة البشر بالمحيط ضاربة في أعماق التاريخ؛ ولم يحدث، على طول هذه العلاقة، أن بخل المحيط على بني البشر، بل كان عطاؤه جزيلًا. إن هذه المسطحات الشاسعة من الميــاه المالحة، التي تغطي ثلاثة أرباع مساحة سطح الأرض، سوف تقدم لنا قائمة طعام متنوعة، تكفل لكل فم حظه من الطعام. وســتشــتمل هذه القائمة على الأنواع التي خبرها الناس كطعام تقليدي، من أسماك وقشريات كبيرة ورخويات، أو – على الأقل – أنواعًا كانت خبرة الناس بها محدودة، مثل الطحالب البحرية. كما نتوقع أن ترتفع أسهم بعض أنواع اللافقاريات البحرية، وأن تنتشر كطعام مقبول في عدد أكبر من بلدان العالم، وفي مقدمتها مجموعة من الكائنات القشرية الصغيرة يطلق عليها، عمومًا، اسم (الكريل). إن – KRIL   -  كلمة نرويجية، تعني السمكة الصغيرة؛ وقد غيَّر الصيادون النرويجيون هجاءها، فجعلوها (krill)، لتشير إلى هذه الكائنات شبيهة الروبيان، أو(الجمبري) الصغير، وهي ليست نوعًا واحدًا وإنما مجموعة تضمُّ 85 نوعًا، يصل طول بعضها إلى بوصتين.
     ويقدَّر المخزون الطبيعي للكريل، في بحار ومحيطات العالم، بخمسمائة مليون طن. وهذه الكائنات هي الغذاء المفضَّل للحوت؛ ويبلغ شغف الحيتان بها إلى حدِّ أن الوجبة اليومية للحوت الأزرق الواحد، من هذا الطعام الشهي، تزن 3 أطنان. وتشير الإحصائيات إلى حقيقة مؤسفة، هي أن تجمعات الحيتان الزرقاء – أضخم الكائنات الحية المعاصرة، على الإطلاق، والمستهلك الرئيسي للكريل – قد تناقصت أعدادها، حتى أصبحت تعدُّ بالعشرات، بعد أن كان تعدادها، قبل تقدم صناعة صيد الحيتان، يجاوز 150 ألف حوت أزرق؛ وهو الآن يتصدر قائمة الكائنات الحية المهددة بخطر الانقراض الوشيك. فإذا نظرنا للوجه الآخر من هذه الحقيقة البيئية المؤسفة، تبين لنا أن «مائدة الحيتان» أصبحت عامرة بالطعام الفائض، وبصفة خاصة، بعد أن امتد جــوْرُ أنشطة الصيد إلى أنواع أخرى من الحيتان آكلة الكريل... أي أننا لن ننافس الحيتان أكلتها المفضَّلة، فالكريل يفي باحتياجات الجميع!
     وبالإضافة إلى المحيط الجنوبي، حول القارة القطبية الجنوبية (الإنتاركتيكا)، وُجدت حشود من الكريل بين كوريا واليابان، وفي جنوب ولاية كاليفورنيا، وعلى طول السواحل الشمالية الشرقية، بين الولايات المتحدة الأمريكية وجرينلاند؛ وفي البحار الشمالية، وفي سواحل النرويج. غير أن أشد مناطق تجمُّع الكريل كثافةً تقع حول جزيرة الأفيـــال، في المحيط الجنوبي، حيث بلغت 600 ألف كائن قشري في الياردة المكعبة من ماء المحيط!
     والكريل غني بالعناصر الغذائية (بروتينات – فيتامينات أ، د، ب)، مع انخفاض نسبة الدهون، مما يجعله غذاءً مثاليًا؛ غير أن ثمة ثلاث مشاكل تعوق تصنيع هذا الغذاء، وتحول بينه وبين أن يكون بمتناول الكتل البشرية الجائعة. أولى هذه المشاكل سرعة تحلله وفساده بعد صيده؛ والثانية، احتواء قشرته القرنية على نسبة من مركبات الفلورايد، أعلى مما تسمح به المعايير الصحية؛ وهذا يستدعي نزع قشرة الكريل، وتلك هي المشكلة الثالثة، فحجم حيوان الكريل صغير جدًا، ويصعب التعامل معه بالآليات المتاحة؛ ويحتاج الأمر لتقنية مستحدثة، تفصل قشرة الكريل، دون إفساد اللحم، ليصلح للتسويق والتصنيع.
     وبالرغم من هذه الصعوبات، فقد تحققت بعض المحاولات، في نطاقات محدودة، لتصنيع مأكولات من الكريل... إذ أنتج الروس (عجينة) الكريل، وهي مصنوعة من (عصير) الكريل الطازج، الغني بالبروتين، والذي يغلَّظ بالتجميد، ويضاف إلى لحوم الماشية، في صناعة (السجق)، وفي إعداد الحساء. كما نجحت (شيلي) في تحويل الكريل إلى (أصابع مخبوزة)؛ ويضاف الكريل إلى لحم سرطان البحر المعلَّب، في كل من ألمانيــا والسويد؛ كما يؤكل نيِّئــًا ومطبوخًا في اليابان. وقد اعتمد الجرّاح الفرنسي (ألان بومبارد) على الكريل كغذاء، وذلك خلال مغامرته الشهيرة التي عبر خلالها المحيط الأطلنطي على ظهر قارب مطاطي؛ وكان يحصل على وجباته البحرية الطازجة مستخدمًا شبكة من نسيج حريري، كان يجرها خلف قارب.
     وعلى أي حال، فإننا واثقون من أن تكنولوجيا القرن الواحد والعشرين لن تخذلنا، نحن البشر، مع الكريل، وسوف تجد طرقًا لتوصيله إلى موائدنا، في صورة مقبولة، كطعام آدمي مفيد ولذيذ!