ماذا سيكتب الأدباء عن حرب غزة؟

بينما كنت أكتب حديث الشهر في موضوع مختلف عن الحرب الدامية في غزة، أعلن في وسائل الإعلام توقيع اتفاق وقف إطلاق النار، والبدء بتبادل الأسرى بعد مباحثات طويلة وشاقة وحرب مدمرة استمرت لـــ 471 يومًا، حينها قلت حان الوقت لاستخراج المقال الذي أجلت نشره لمرحلة ما بعد الحرب في غزة، لكي يواكب بعض جوانبها على المدى الطويل.
لقد ساهم الأدباء الذين كتبوا عن أهوال الحروب، إلى جانب مجموعة من العوامل الأخرى، في صنع وعي مناهض لشهوة التوسع وشن الحروب، لذلك نجد أن القارة التي أشعلت في العالم حربين عالميتين، وهي أوربا، هي أكثر المناطق سكونًا ونأيًا عن الدخول في حروب مباشرة.
أدب الحرب هو أدب الدفاع عن الحياة، وقد يبدو صوت صرير القلم خافتًا أمام دوي المدافع، ويبدو الكاتب واهن القوى أمام الجنود المدججين بالسلاح، لكن كتاباته هي ضرب من الفن الذي يبقى عبر الزمن، فهي توثق السعي الإنساني المرير لمنع تكرار هذه التجربة المميتة متمسكًا بكل أهداب الحياة.
ففي وسط هذا الأتون يجد الكاتب نفسه مستعدًا للتضحية بقيمة الحياة من أجل الهدف الذي يؤمن به، فالأعمال الأدبية التي يمكن أن نطلق عليها صفة أدب الحرب هي نتاج تجربة هائلة تترك في النفس جروحًا لا تندمل، وحتى عندما يستخدم خياله كما يفعل بقية الكتاب فهو لا يبتعد كثيرًا، فهو يحاول دائمًا أن يقدم صورة مطابقة للواقع الذي عايشه، فالمعارك هي شهادته على الظروف التي جعلته ينجو من الموت، بينما فرض الموت على الآخرين الصمت.
شهادات شحيحة
لقد كتب الكثيرون عن الحرب، لكن أكثر ما يمثل أدب الناجين هي رواية «كل شيء هادئ في الميدان الغربي» للمؤلف الألماني إريك ماريا ريمارك، فقد وصف أهوال الحرب العالمية الأولى كما عاشها في الخنادق الموحلة والطين يهمي فوق رؤوسهم وصوت القذائف لا ينقطع، وبلاده ألمانيا على وشك الهزيمة، كانت هذه الحرب مذبحة حقيقية، فقد تطورت أسلحة الحرب والدمار دون أن تتطور وسائل الطب والعلاج، المأساة نفسها التي عاشتها «غزة»، فالعدو الصهيوني المتجبر يستخدم أحدث تطبيقات الذكاء الاصطناعي ليغتال من يشاء داخل بيوتهم، أو يستهدف الجموع من النازحين العزل، لذلك ستكون شهادة الناجين شحيحة لأن الموت يطال الجميع.
الشاعر أسيرًا
أحد الناجين من مثقفي غزة وهو الشاعر «مصعب أبو توهة»، عاش أيامًا صعبة وهو يشاهد الدمار يطال كل شيء من حوله، وكان أهله وجيرانه يتساقطون تباعًا تحت وطأة غارات العدو الصهيوني، وبلغ عدد الذين سقطوا من عائلته وحدها أكثر من ثلاثين شخصًا، وأصبح أطفاله الثلاثة على وشك الموت، لذلك قرر أن يرحل.
أبو توهة البالغ من العمر 32 عامًا يتمتع بمكانة دولية، فهو شاعر حاز على عدة جوائز دولية، ونشرت له صحف ومجلات في الولايات المتحدة أشعاره ومقالاته، وحصل على زمالة «هارفارد» للباحثين المعرضين للخطر. كما أنه أسس مكتبة «إدوارد سعيد» العامة في غزة، وهي الأولى من نوعها باللغة الإنجليزية.
وفازت سلسلة مقالاته وتقاريره في مجلة «نيويوركر» بجائزة نادي الصحافة لما وراء البحار، واتسمت كتاباته بلغة نثرية سهلة ومباشرة وحافلة بمشاهد لا تُنسى، موثقًا فيها حياته وتجربته هو وزوجته وأبنائه الثلاثة عندما خاضوا رحلة قاسية من «بيت لاهيا» وسط أنقاض المنازل المدمرة والجثث المتناثرة في كل مكان، والخوف من الطائرات التي يمكن أن تنقض عليهم في أي لحظة.
لم يصدقوا أنهم وصلوا للمعبر ووقفوا في طابور طويل، كانت هناك نقطة تفتيش قد أقامتها إسرائيل قبل المعبر المؤدي إلى مصر، أوقفه الجنود، سمحوا للزوجة والأولاد بالمرور، لكنهم وجّهوا أسلحتهم نحو صدره، قيدوه ونقلوه بعيدًا مع عشرات المحتجزين، كان الجنود غاضبين لدرجة أنهم لم يكفوا عن ضربهم، لم يعرف كم يومًا مر عليه وأسلحتهم موجهة نحو صدره، متوقعًا أن يطلقوها عليه في أي لحظة، ولكن هذا الأمر انتهى فجأة، فكوا قيده وأمروه وقالوا له: ارحل!!!
وخرج من المعبر وهو غير مصدق، لم تكن هذه نوبة كرم إسرائيلية، ولكن زوجته في الخارج كانت قد اتصلت بكل الذين يعرفون زوجها، كل الذين يملكون رأيًا مؤثرًا، لقد حكى أبو توهة تجربته في ندوة أقيمت في مكتبة جامعة هارفارد، كانت القاعة مزدحمة عن آخرها وجمهور الطلبة يستمعون لشهادته، كما نشر مقالات عن التجربة نفسها في صحيفة «نيويورك تايمز»، كانت لغته شاعرية رغم أنها تتحدث عن قسوة وبشاعة الحرب، ولم تتوقف البشاعة مع الأخبار التي تتوالى مع عدم توقف المذبحة وارتفاع أرقام الضحايا.
يوميات الصمود والموت
ناج آخر يقدم لنا شهادته عن حرب غزة، وهو «عاطف أبو سيف» الذي كان وزيرًا سابقًا للثقافة في السلطة الفلسطينية، كان قد جاء هو وابنه في زيارة خاطفة لغزة ولكنه وجد نفسه محاصرًا، لم يكن يفكر في الكتابة، ولكن مع بداية العدوان وجد نفسه مدفوعًا لذلك، ليخلد ذكرى الأصدقاء الذين كان يفقدهم كل يوم.
بدأ أبو سيف يكتب يوميات الحرب، كان يجيد الإنجليزية، ومع كل اعتداء تشنه إسرائيل على غزة كانت هناك دائمًا يوميات، عن صمود وموت العزل وامتلاك الجانب الآخر لكل أسلحة الدمار المتفوقة، لقد ساعدته خلفيته الأدبية في أن يجعل من يومياته صوتًا لكل المعزولين تحت ضراوة القصف، انسحب كل الصحفيين الأجانب ولم يبق إلا هو، وجعله هذا يحس بالمسؤولية من أجل إيصال صوت الناس الذين يعرفهم قبل أن يغتالهم الموت، وما كتبه كان مؤثرًا لدرجة توجع القلب، وقد نشرته العديد من الصحف الأجنبية، وكان عليه أن يسير مسافات طويلة حتى يجد مكانًا آمنًا بعض الشيء، وفيه كهرباء لشحن جهاز الكومبيوتر، وعلى مدى 85 يومًا كشف عاطف عن جرائم حرب الإبادة، فأنتج كتابًا كبير الحجم يمكن أن نطلق عليه الحكي الحقيقي في مواجهة الحكي الرسمي المزور.
شباب العالم يحتج
نماذج قليلة من أعمال كثيرة سوف تأتي عندما يكون هناك ناجون آخرون، وللمرة الأولى تقريبًا يشهد العالم جانبًا حقيقيًا من طبيعة الكيان الصهيوني، الذي أدمن الاحتلال واغتيال أصحاب الأرض الحقيقيين، لقد اكتشف الجزء الشاب من العالم أكاذيب وكالات الأنباء التي دأبت على تغطية جرائم حربها، وثار شباب الجامعات، ثار الأدباء والفنانون، امتلأت الشوارع بالمعارضين ضد إفناء غزة، أصدروا جميعًا بيانات الإدانة وطالبوا بوقف الحرب، ولم تستجب حكومات الدول الكبرى، خاصة التي تزود الصهاينة بالسلاح، وفوق ذلك كله أدانت المحكمة الجنائية الدولية رئيس وزراء الكيان الصهيوني ووزير دفاعه بالجرائم التي ارتكبوها ضد الإنسانية، وتبدو الحرب بلا نهاية ولكن بلا أي تعاطف مع إسرائيل، فماذا عليها أن تفعل؟
دموع التماسيح
صورة غريبة تداولتها وسائل الإعلام عن جنود الجيش الإسرائيلي، كانوا يجلسون بلا خوذات حربية ولا مدافع رشاشة، ولكن بثيابهم العسكرية وفوق رؤوسهم «بيرهات» حمراء داكنة، على وجوههم علامات التأثر، كانوا بعيدين قليلًا عن زهو الانتصار، بعضهم يجهش بالبكاء، كانوا يودعون واحدًا من رفاقهم الذين ماتوا في الحرب التي دخلت عامها الثاني ضد المدنيين العزل في قطاع غزة، صورة لم نتعود عليها، أن نرى جنودهم في تلك اللحظة من الضعف الإنساني، كانت صورتهم النمطية على مدار السنوات السابقة وهم يحملون المدافع الآلية، ويجوسون وسط أنقاض المدن التي دمروها، وفوق جثث الأطفال والنساء الذين اغتالوهم، أو يحاصرون الأسرى العرايا ويضربونهم دون رحمة، لكن نشر هذه الصورة كان مقصودًا، فقد أرادوا أن يبينوا أن الجندي الصهيوني ليس مجرد أداة للقتل، لكن تلك الصورة وحدها لا تكفي أو تبرر تلك الوحشية، فهذا العنف وتلك الوحشية تخفي خلفها مخاوف وهواجس الكيان الصهيوني يطرحها على نفسه، متعلقة بمستقبل هذا الكيان، وقدرته على حشد التأييد في مراكز القرار العالمي، ومدى صلابة جهته الداخلية؟
نحو العزلة
الكيان الصهيوني المسمى إسرائيل هو المشروع الاستيطاني الأخير في العالم، يتجه رغم الدعم الغربي له نحو العزلة في أوساط الضمير العالمي، بدليل تزايد خروج الأصوات المناهضة له من أماكن عديدة، ومن معاقل مؤيدة له لم تكن بالحسبان، مثل ثورة الجامعات في أمريكا وأوربا، ناهيك عن السياسيين والبرلمانيين الغربيين وحكومات أوربية لم تعد تحتمل استمرار العربدة الصهيونية ضد الشعب الأعزل في غزة وكامل الأراضي الفلسطينية المحتلة.
مهام وأدوار
في معركة الإعلام لم تكن الأمور تسير لصالحنا، أو على الأقل لنا نصيب جيد فيها، لأننا ببساطة لا نملك قنواتها المؤثرة ولا لغة التفاهم مع العالم الغربي، وفي معركة الإعلام الجديد، انكشفت أمامنا بعض المنصات الرقمية التي تخصصت في حذف أي محتوى مناهض للجرائم الصهيونية، ولولا بعض الاختراقات والمواقف الجريئة التي أدانت تلك الجرائم، وضغط الشارع بالتحركات الصريحة على الأرض وتصاعد حدة الجرائم الصهيونية ضد الأطفال والمدنيين، لكانت المعركة الإعلامية محسومة بالكامل للصهاينة.
إذًا لم يتبقَ في أيدينا الكثير من الأوراق، ولعل الأدب والإبداع الفردي هو القادر على تحقيق الاختراق لمناطق يصعب الوصول إليها.
هي معركة مختلفة عن الأعمال الأدبية التي تهدف إلى منع تكرار قيام الحروب، لأنها معركة توصيل الصورة المغايرة للقضية الفلسطينية إلى عقول تشربت من الضخ الإعلامي الذي جعل الضحية في موقع المجرم، وهنا علينا أن نستغل نهم القراءة لدى الشعوب في عواصم اتخاذ القرار، لوضع بذرة الحق في عقول أجيال قد تنحاز إلى الحق الفلسطيني وتصنع موجة رأي عام نابعًا من محيط مختلف عنا في كل شيء.
في الختام، أود التأكيد على أن هذه المهمة لا تقل أهمية عن بقية المهام في معركة الحق الفلسطيني في استعادة أرضه المحتلة، والعالم الذي نعيشه اليوم وبما يحفل فيه من أدوات جديدة في التواصل ونقل المعلومات والبيانات، يتيح لنا فرصًا جديدة للتحرك في نشر قوالب أدبية وفنية متنوعة قادرة على سرد القضية الفلسطينية بطرق غير متوقعة وربما تنتقل إلى مضمار عالم السينما، وهي الأداة الساحرة في نطاق تأثيرها وانتشارها ■