السينما صورة جميلة للفكر

السينما صورة جميلة للفكر

ما يجعل الفكر مرئيًا في السينما هو غرابة الفكر في الواقع، عجزه على مقاومة صورة العدم، وعدم القدرة على تخليق الأفكار وفك أسرها. وبما أنه لم يعد ثمة ما يمكن التفكير فيه من خلال الصورة، فإن الفكر مرهون بصدمة تجعله يكشف استحالة التفكير في ما هو الفكر، وبالأحرى ما السينما؟ فهل يمكن للفكر أن يبدع نفسه كما تبدع الصور السينمائية ذاتها من خلال الحركة؟ هل لأن السينما تجني جوهر باقي الفنون وتورثها؟ ولماذا أن الفكر لا يفكر إلا عندما يصبح الواقع عقلانيًا؟

 

إذا كنا مرضى بالحب، فالحب نفسه مريض، ولعل هذا بالذات ما اكتشفته السينما، ولذلك تحولت إلى باحة للاستراحة والحب تحرض العشاق على الحلم والثمالة بل إلى عبادة الحب ونسيان الألم، هكذا أضحت تساعد الإنسان وتجعله يتحمل المعاناة والمأساة. 
  ثمة أصدقاء مخلصون للسينما ولم يروا فيها إلا فنًا ممتعًا للروح ومدرسة للحب، ولكنهم نسوا بأنها آلة لتوصيل الصدمة وإيقاظ الفكر من سباته الدوغمائي: «كلنا نعلم بأن فنًا من الفنون لو فرض الصدمة أو الرعشة لكان العالم قد تغير منذ زمن طويل ولراح البشر يفكرون منذ أمد سحيق». كما قال الفيلسوف دلوز.
  بيد أنه بوسع الإنسان أن يفكر بصفته يملك إمكانية التفكير، ولكن هذه الإمكانية لا تضمن له قدرته على التفكير، وربما أن هايدغر كان على صواب حين قال: ما يدعو إلى التفكير هو أننا لم نفكر بعد، وبعبارة أخرى إن الإنسانية عاجزة عن التفكير وتركت الفكر في النسيان.
هكذا اختفت الفلسفة وحرضت العقل ودفعته إلى الغروب في شفق الفن وأمسى الفكر متحجرًا ومفككًا ومنهارًا. وما السينما إلا ثقبًا في العالم نطل منه على مأساة الفكر الذي لم يفكر بعد، هذا الفكر العاجز عن استرجاع ماهيته، أي عقله.
وطالما كان هناك إمكانية لربط السينما بالواقع المنهار، طالما كان الفكر هو هدفها، ومن أجل ذلك سلكت المنعطف ذاته مع الفن الجيد وإلا ضاع العالم في الاغتراب، لأن الفن الجيد ليس أفضل حالاً من الفن الرديء، كما أن الفيلسوف ليس أحسن حالاً من السينمائي، ولعل هذا ما يجعل الحمقى يضحكون والبذرة تشق الأرض الصلبة وأربطة المومياء تحفظها في الكفن المقدس والدراجة الهوائية تخلد السينما.
 شيئًا فشيئًا ستتحول السينما إلى سينما مقدسة كما تبدو في أفلام: سرير العذراء والطفل السري ومريم للذكرى وغيرها. والواضح أن الانزياح نحو المقدس أرغم السينما على إدارة ظهرها للفكر في فضاء لا عقلاني ينحفر فيه ممر داخل اللامفكر فيه، كي يتواصل مع الفراغ المعرفي، حيث حلت الفرجة محل التأمل الفكري وكأننا أمام سينما تريد التحرر من الفكر والواقع في نفس الوقت. 
  فبأي معنى كان على السينما أن تذكرنا بجسد مجهول غاب عنا كما غاب اللامفكر فيه في الفكر؟ وكيف تناءت ولادة المرئي عن الرؤية؟ وإلى أين تقودنا هذه السينما التي تريد أن تتطابق مع جوهرها من خلال تطابق المرئي واللامرئي والفكر والواقع؟
السينما أشبه بفكر ينظر في اللامفكر فيه؛ إنها المستحيل الذي لا يستطيع أن يعطي إلا من خلال الإيمان بالحب؛ هل كنت جميلة؟ كلا ولكنني أحببت، هل كنت قيد الحياة؟ ولكنني أحببت. 
قال دلوز: لم نعد نؤمن بهذا العالم ولم نعد نؤمن حتى بالأحداث التي تقع لنا والحب والموت كما أنها لم تعد تعنينا إلا قليلاً. لسنا نحن الذين يصنعون السينما، بل العالم هو الذي يتبدى لنا كفيلم سيئ... والسينما أجمل خدعة على الإطلاق كما قال غودار ذات يوم.

مذاق الصورة ولذة الفكر
السينما عمياء بدون صور والفكر تائه بدون متعة التأملات ولا يدري إلى أين يتجه هل إلى متعة بصرية لا تقاوم؟ أم إلى مشاهدة أفلام مدهشة وقراءة كتب عميقة؟
الفكر لا يتحقق إلا في الفن والحرية باعتبارهما وجهان للمطلق، هكذا تقوم السينما بتصوير الحرية لكي تلمس المطلق ولو بتأملات فلسفية، ولعل هذا ما يسميه دلوز بالسينما الفلسفية التي تحتفل بالفكر والاستيطيقا، ذلك أن الفيلم الجيد هو الذي يعطينا فكرة عميقة عن معنى السينما وينقل إلى الفكر متعة الاستيطيقا، حين تنتقل الروح من المرئي إلى اللامرئي، ومن الفينومين إلى النومين عبر جمالية الصورة، لأن الصورة حركة والحركة زمان والروح أيضًا زمان له بداية ونهاية، ولذلك نجدهما مولعان ببعضهما البعض.
  ومهما يكن من أمر فالسينما تمتلك تجلياتها من اللوحة التشكيلية والقصيدة الشعرية والسانفونية الموسيقية، بيد أن الاستيطيقا هي التفكير بطريقة جميلة، حيث يكون هدفها هو السينما التي تعتمد على شعرية الصورة لتوضح معنى الحياة الجميلة: رأيت في هذا الفيلم صورًا رائعة تخفي صورًا أخرى. لكن بأي معنى تصبح السينما جميلة بدون نقد عنيف؟ وهل يستطيع مخرج الفيلم إبداع عمل استيطيقي بأدوات فقيرة وروح غير مبدعة؟ وهل الفقر الروحي يساعد على التفكير والإبداع؟
أجمل سنوات السينما هي التي واكبتها أعمق سنوات الفكر الفلسفي والنقدي مع رواد الموجة الجديدة في فرنسا والواقعية الجديدة في إيطاليا، هكذا ظهرت مجلة دفاتر السينما ومجلة السينما ومجلة الفلسفة. ثمة صور فاتنة تدعو إلى الشغف الوجودي سواء مع التيار السوريالي في الرسم والشعر والسينما ومفاهيم عظيمة تدعو إلى التأملات الميتافيزيقية مع التيار الوجودي، هكذا تم إنقاذ الإنسانية من أنقاض الحرب ومأساتها.
من المؤكد أن ينبوع الفن لا يمكن أن ينفجر إذا لم يسبقه ينبوع الفلسفة، لأن الفلسفة هي المحرك للجميل في الفن، وبما أن الجميل يعتقل الروح، فإن تحريره يكون بالفكر، ولذلك يصبح براديغم الفكر يحتوي براديغم الفن من أجل بناء حوار الفن والفلسفة.
  هذه الكلمات الناعمة نجدها في تلك السينما العظيمة التي بدأت صامتة ومندهشة إلى أن أصبحت تنمو في جو أزرق ساحر يزدهر فيه برج الاستيطيقا التي تهيمن على الفن والفكر لأنها إمبراطورية لا يغيب نورها على الإطلاق. 
  جاء في كتاب الاستيطيقا لهيجل أن الفن قد مات حين تحول إلى سلعة قابلة للتجارة ومحاكاة هرب منها الجميل، ولعل هذه الحقيقة التي تعلن عن موت الفن قد أدهشت النقاد والمبدعين، كتاب ما أصل العمل الفني لهايدغر، اقترح صيغة جديدة من أجل إنقاذ العمل الفني من الموت، ويلخصها هايدغر في قراءته لحذاء فانغوغ الذي أبدع وجهًا جميلاً للحقيقة في حذاء ممزق وبشع، لأن وضع الحقيقة في العمل الفني هو هدف الفن والحقيقة هي هدف الفلسفة، وبإمكان الفيلسوف أن يطل من ثقب هذا الحذاء على الصمت المكتوم للأرض ومأساة الفلاح الذي يحرث الأرض ويهيء الثمار للإنسان.
لا نريد أن نتيه في هذه القراءة ونبتعد عن الطريق الذي يؤدي إلى الفكر من أجل أن نكتشف سر السينما باعتبارهما معًا مدخلاً لروح الإنسان الذي يعشق الجميل حين يثير المرح والسرور ويطهر من الأحزان: الفن كمحفز على الحياة من أجل تلبية الحاجيات النبيلة للروح.
  فالجمال بلغة مختصرة ليس جمالاً حرًا إلا في الفن الذي تحول إلى مدرسة للذوق تبدع الجميل وتدعونا إلى الصمت والدهشة أمام عالم علم الجمال وإلا تركنا هيجل يقول: «لقد مات الفن، لم يمت فقط؟ بل ترك نفسه للفكر».
لننطلق من هذه الأطروحة التي تقول بموت الفن بعد تورطه في التجارة والتقنية والمظاهر الباهتة، من أجل أن نفهم مسار السينما فلسفيًا، باعتبارها الفن السابع، فالسينما أضحت إمبراطورية ثانية بعد إمبراطورية الاستيطيقا، ولذلك تعلن عن معنى الفن: الفن العظيم لا يكون مقيدًا بمذهب لأنه ينبثق دائمًا ويبدأ من جديد، إنه يجلب معه عالمه الخاص ويطالب بحقه علينا وبلغة غادامير؛ الفن لا ينبغي فهمه على أنه مملكة سحرية خالية يمكن أن نهرب منها، بل يجب مواجهته بالحكمة والحركة كما نفعل مع الرقص والموسيقى». تجلي الجميل يخبرنا بأن الفن لا يمكن الانتماء إليه بل الوجود فيه.
الفن مسكن جديد للإنسان والفلسفة مسكن لعقله فهذه الإقامة المزدوجة تسعى إلى منح الإنسان الفرح بالكينونة والدخول إلى أنطولوجيا الحاضر ولعل هذا ما يساهم في تسيد الذوق على الوعي الجمالي الذي يميز الفن الذي ليس بفن على الفن الحقيقي.
وطالما كانت أطروحة هيجل تريد أن تنبهنا بالسؤال التالي: لماذا كان ثمة عدم الفن في الفن ولم يكن بالأحرى وجود الفن في الفن؟ طالما كانت الغاية هي تأسيس فلسفة الفن التي تسعى إلى إبداع الروح بجوار الجميل، لأن الروح لا تنمو إلا في الفن الجميل والحب العظيم، فالفن هو ما يقاوم الاغتراب في هذا العالم.
  فرسالة الفنان أن يضع الحقيقة في العمل الفني ويبلغ رسالته التي تقول بأن الفن حياة الثقافة ومدخلاً لروح الإنسان عبر الذوق. فمشكلة الفن هي نفسها مشكلة الجميل الذي كاد أن يفقد بريقه عندما اكتشف أنه لم يعد يسرنا.
 والحال أن الوعي التاريخي بإمكانه أن يحررنا من الوعي الجمالي المغترب فمن السهل حب الجميل والانتقال إلى الفن الجميل هكذا سنتعرف على أنفسنا، وخاصة إذا علمنا بأن الفن لا يكون ممكنًا إلا إذا حقق ذاته في الحرية لأنه حدث إنساني ومعاناة إنسانية وإلا لماذا يسرنا الجميل ويعتقلنا؟
متعة الفن الجميل لا يمكن مقاومتها إلا بالحب باعتباره تجربة وجودية يتعلم منها الإنسان بأنه موجود يتحمل عبء وجوده؛ وأن الوجود بدون الآخرين هو نفسه صورة من صور الوجود مع الآخرين، ولعل السينما هي صور من أجل الآخرين فهي تحيلنا على الاحتفال بالوجود والفرح بالكينونة.
فما يجعل هذا العصر عصرًا عظيمًا هو وجود السينما والفكر والحرية. ومع ذلك يبقى الفن هو وضع الحقيقة في العمل الفني ويصبح موجودًا كفكر بفعله ■