الكاتبة الكويتية والفنانة التشكيلية بزة الباطني: الكتابة غوص داخل الذات والرسم أسهل وأهون

يدرك المتابع للمسيرة الأدبية والبحثية التي بدأت منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، واستمرت حتى اليوم من دون توقف، أن المبدعة والباحثة والفنانة التشكيلية الكويتية بزة الباطني من بين أبرز الأسماء الكويتية التي نحتت اسمها في المشهد الثقافي الكويتي خاصة والعربي بشكل عام، مما منحها التميز على المستوى الإبداعي والبحثي على السواء.
لم يأت هذا التميز من فراغ، بل من خلال ما راكمته من تجربة إبداعية وبحثية متعددة، فقد وزعت اهتماماتها الإبداعية والبحثية على عديد من المجالات: الإبداع السردي والشعري (قصص الأطفال، القصة القصيرة، والرواية)، والبحث المعرفي والميداني (التراث والثقافة الشعبية)، كما ولجت محراب التشكيل من بابه الواسع، لتلتحق بكوكبة الفنانين التشكيليين محليًا وعالميًا، مما جعل منها ذلك الواحد المتعدد. لكن هذا المتعدد، لم يولد دفعة واحدة، بل على دفعات، تم من خلاله فتح مسارات إبداعية وفنية وبحثية. راكمت بزة الباطني من خلال هذه المسارات تجربة خصبة وغنية، ففي مسار الإبداع القصصي، أصدرت القاصة مجموعة من الأعمال، نذكر من بينها: السيدة كانت (قصص) 1998م، «هذا» (مجموعة قصصية) 2011م، أما بخصوص المسار الخاص بالسرد الروائي، فأصدرت رواية «النقطة الأضعف» 2019م، أما في مسار الدراسات في التراث والثقافة الشعبية، فنذكر منه على سبيل المثال لا الحصر: «طرائف وحكايات نسائية من التراث الشعبي الكويتي» 1985م، «المشموم في ثقافات الشعوب» 2024م، كما أن مجال الكتابة الخاصة بالطفل، غني ومتعدد، نذكر منه على سبيل المثال: «كلنا اليوم كبرنا - مجموعة مسرحيات للأطفال» 1996م، «البيت الكبير- قصة للأطفال» 1997م، «في مكان بعيد - قصة للأطفال» 1999م... إلخ. أما في مجال الفن التتشكيلي، فقد كانت تجربتها غنية، حيث شاركت في العديد من المعارض التشكيلية المحلية والعربية والدولية. لذلك، كان من الطبيعي أن تظفر بالعديد من الجوائز على مستوى قصص الأطفال (جائزة مكتب التربية العربي/1997م)، وجائزة لجنة التحكيم (الفن التشكيلي) 2016م، وغيرها من الجوائز الوطنية والدولية. تواصلنا معها، فكان هذا الحوار الذي حاول النبش في خبايا تجربتيها السردية (القصصية والروائية)، والتشكيلية، وكذا أبحاثها في مجال التراث الشعبي، ومساهماتها العديدة والمتنوعة فيه، مما جعلها من بين أبرز الأسماء التي أغنت (ولا تزال) الساحة الثقافية الكويتية خاصة، والعربية عامة بشكل لا تخطئه العين، وفي ما يلي تفاصيل الحوار:
● شكلت المسارات المتعددة، نوعًا من الغنى والتنوع في التجربة الفنية والبحثية للمبدعة بزة الباطني، لتجعل منها ذلك الواحد المتعدد، فما هو الخيط الرفيع الذي يجمع بين هذه المسارات المتعددة؟
- القواسم المشتركة هي أنها كلها إبداع وابتكار وجهد وثقافة. هي خلق الجمال بالفرشاة والألوان والأقمشة والخيوط والمواد الأخرى وخلق الجمال بالكلمات والأوزان. كلها تعبير عن الذات. الرسم تعبير مرئي والكتابة تعبير مقروء، وكلها أساليب للتواصل مع الآخرين والتعريف بالذات.
الكتابة غوص داخل الذات
● أمام هذا التعدد على مستوى الإبداع بكل تفريعاته (القصة، الرواية، أدب الطفل، الحكاية الشعبية)، والبحث في ميدان التراث والثقافة الشعبية، والفن التشكيلي، وغيرها، أين تجد المبدعة بزة الباطني نفسها بشكل بارز بين هذه المجالات المتعددة؟
- لوحاتي كتابات وكتاباتي صور وصوري دمى ولعب. حين أكتب أحب أن أصف المشاهد بدقة فيشعر معها القارئ بأنه يرى ويكاد يلمس الأشياء في قصصي أو أنه متواجد حقًا في المكان الذي يدور به الموقف وتقمص الشخصيات. أحب أن أصمم أغلفة كتبي بنفسي ليظهر العمل كوحدة متكاملة. في كتاباتي عن التراث الشعبي زينت كتبي برسومات توضيحية كثيرة هي ذاتها بحث جانبي آخر أقرب بها القارئ إلى الحياة والشخوص في الماضي وأبين له تفاصيل المكان والمقتنيات التي يضمها والأنشطة التي يمارسها الناس قديمًا خاصة المرأة، حتى الحركات مثل حركة غسل الثياب أو الأواني وحلب البقر والكنس والطبخ وهكذا. أكتب وأرسم بقوة وبصدق وبحرارة. متعب أن يوهب إنسان مجموعة من القدرات المختلفة. إنني أتنقل بين الأعمال الفنية والكتابية أحيانًا فجأة، فأتحول من إنسانة إلى أخرى. الكاتبة لها عادات وتقاليد وشخصية وأساليب حياتية مختلفة، وحتى ثياب وأطعمة مختلفة عن الفنانة في داخلي. حين أكون في حالة كتابة أهجر تمامًا ما له علاقة بالرسم. أنظر إلى الأشياء في الورشة من فرش وألوان وغيرها كأنها لإنسانة أخرى ولا يمكنني أن ألمسها، وذات الحالة حين أرسم، فالكاتبة تتقهقر ولا أعود أعرفها، لكن تتحدان حين تتحدث الفنانة عن أعمالها بشاعرية الكاتبة وتصور الكاتبة أحداث قصصها بريشة الفنانة. أنزعج كثيرًا حين يطلب مني الكتابة وأنا في حالة الرسم أو أن يطلب مني أن أرسم وأنا في حالة كتابة. لا يفهم كثيرون صعوبة ذلك. إن هجرت أحدهما من أجل أداء آخر، فقد لا أعود إليه وسأحتاج لفترة قد تمتد لشهور لأتحول وأعود لأكمل العمل وأحيانًا يبقى كما هو لسنوات وأبدأ عملاً جديدًا.
الرسم أسهل وأهون ويساعد على الهدوء النفسي والاسترخاء. أنا أكثر مرحًا وفرحًا باعتباري رسامة لأن الرسم بصري والألوان لها تأثير جميل على الروح، والعمل اليدوي عوائده النفسية والعملية مباشرة ويشعرك بالقوة. يمكنني أن أرسم وأنا أستمع للموسيقى، أو وأنا أتحدث إلى أبنائي وحفيداتي وأصدقائي. أما الكتابة فهي غوص داخل الذات ونبش لكل ما يحاول الإنسان دفنه من آلام وتجارب وكل ما يحاول الإنسان مقاومته من أفكار والتعبير عنها بطريقة مختلفة لتجميلها أو تخفيف حدتها أو السباحة الفضائية في عالم الخيال حيث شخوص وأحداث ما لها وجود. أعزل نفسي حين أكتب وأخاف وأمرض وأحتاج لوجود الناس حولي لكن من بعيد دون أن أعيش عالمهم. هذه الحالة أيضًا متعبة ومزعجة لمن يعيش مع مبدع دون أن يفهمه. نشرت قصة كاملة عن فنانة في مجموعتي القصصية الأولى (السيدة كانت) بعنوان (هكذا يفضلها أبي). القصة على لسان ابنة الفنانة نعرف بها كيف يرى الناس طبيعة الفنان الغريبة بالنسبة لهم. بطلة الرواية (النقطة الأضعف) أيضًا تكتب وترسم، وقصة (امرأة تتغير) تصور حالة التحول.
● عاشت بزة الباطني فترة ليست بالقصيرة خارج الكويت بالمملكة المتحدة، فهل يمكن أن نعتبر هذه الفترة لحظة اغتراب عاشتها الذات المبدعة، وساهمت بشكل كبير في تشكيل ملامح الإبداع القصصي والروائي لديها، لأن الاغتراب يخلق نوعًا من الحنين والنوستالجيا للوطن التي قد يتمظهر على مستوى الإبداع وتفجير مكنونات الذات بشكل أو بآخر تبعًا للاهتمامات الخاصة؟
- هجرتي إلى بريطانيا كانت مع الأولاد لغرض الدراسة وبقيت هناك حتى تخرجهم بشهادات عليا والحمد لله. قضيت هناك ما يقارب 15 عامًا. خلال هذه الأعوام وعن بُعد كتبت بعض الأعمال التلفزيونية والإذاعية، واستمر نشاطي الثقافي في دول الخليج والمشاركة في الملتقيات والمؤتمرات واللجان، منها لجنة أمناء مسابقة الدولة لقصص الأطفال في دولة قطر، ولجنة أمناء المسابقة الدولية لقصص الأطفال التي تنظمها الأمانة العامة في وزارة الأوقاف في الكويت، حيث كتبت خلال تلك السنوات مجموعتي القصصية الثانية وأكملت رواية (النقطة الأضعف) التي بدأتها في تسعينيات القرن الماضي. لكن أهم ما قمت به خلال تلك الأعوام هو تركيزي على أعمالي الفنية. كنت دائمًا أرسم وأزين بيتي بلوحاتي، لكن لم يسبق أن ركزت على الرسم كما حدث خلال إقامتي في بريطانيا لأطلق العنان للرسامة في داخلي. الحي الذي عشت فيه في بريطانيا كانت تكثر فيه محلات اللوازم الفنية ومشاغل الخزف الذي اشتهرت به المدينة عالميًا. أنجزت أكثرمن 100 لوحة عرضت مجموعة منها في معرض أقمته في لندن بعنوان «لحظات ثمينة» عام 2005 م. قبل هجرتي إلى بريطانيا عام 2000م عشت في فرنسا ولبنان ومصر خلال سبعينيات القرن الماضي، وحاليًا أعيش بين الكويت والبحرين منذ 2010م. البيئات المختلفة التي عشت فيها والثقافات التي تقربت منها منذ بداية حياتي وتجاربي القديمة والحديثة فيها بالإضافة إلى خلفيتي كامرأة شرقية، عربية، كويتية وأم ومعلمة سابقة وكاتبة تمدني بالإلهام الذي يوقد مخيلتي في الكتابة والرسم. أحد النقاد وصف كتاباتي بأدب الرحلات، وآخر قربها من أدب المهجر.
الثقافة العربية بخير
● يشهد العالم اليوم تطورًا سريعًا للتكنولوجيا، وهو ما يجعل الثقافة العربية (باعتبارها تمثل الهوية العربية) تواجه تحديات في مجال الحفاظ على هذه الثقافة وتطويرها، من أجل الحفاظ على الثقافة والهوية والتراث العربي وتعزيزها للأجيال القادمة. من خلال هذا التصور، كيف ترى المبدعة بزة الباطني، واقع الثقافة العربية اليوم، في ظل هذه التحولات الجارفة إن صح التعبير؟
- الثقافة العربية بخير بدليل البرامج الثقافية والصحف والمجلات ومنصات الشبكة العنكبوتية وبرامج التواصل الاجتماعي. الثقافة في أي مكان هي في حالة نشاط دائم خاصة في الوطن العربي حيث التقارب والنقل والانتشار أقوى مما هو عليه عند شعوب أخرى التي لا تربطها أواصر الانتماء واللغة والتصاهر والتاريخ والأهداف. المثقف العربي وظف التكنولوجيا لنشر ثقافته على اختلاف أنواعها، أدبية، تاريخية، تراثية ودينية وعلمية في بيئته المباشرة دون أن يغادر بيته أو مكتبه كما انطلق بها إلى أقاصي الأرض.
● إذا كانت الثقافة العربية اليوم تعيش العديد من الإكراهات، تبعًا للتطورات المتلاحقة (كما أشرنا سلفًا)، فإن تبني الشأن الثقافي باعتباره صناعة تقود إلى التنمية المستدامة للإنسان العربي على جميع المستويات. وذلك من خلال إعطاء الشأن الثقافي العربي بعدًا مؤسساتيًا، يمنح الشأن الثقافي العربي قوته. نستحظر في هذا الإطار، التجربة الرائدة للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت، وكذا دائرة الثقافة بحكومة الشارقة، ومعهد الشارقة للتراث بدولة الإمارات العربية المتحدة، التي ساهمت في خلق نقلة نوعية في المجال الثقافي العربي. لهذا، نتساءل: ألم يحن الوقت بعد لتعميم تجارب أخرى، مثل هذه المؤسسات الثقافية في مختلف أرجاء الوطن العربي، على الرغم من التباين بين قطر عربي وآخر؟
- لعبت هذه المؤسسات التي ذكرتم دورًا قديرًا في المجال الثقافي العربي خاصة في المجال الأدبي والتراث الشعبي، والوطن العربي يزخر بمؤسسات كثيرة مماثلة وغيرها من المؤسسات المختصة بمجالات مختلفة لها إسهامات لا تقل شأنًا كالمؤسسات العلمية والبيئية والجغرافية والتاريخية والطبية والفلكية والدينية التي تثري الثقافة العربية والعالمية وإن ربما ليس لديها الميزانية المالية لعقد المؤتمرات والندوات الموسعة التي بالتأكيد ستوفر لها شهرة أوسع مع حاجة هذه المؤسسات لتسليط الضوء عليها أكثر إعلاميًا.
الثقافة مفهوم شامل
● كانت لكم تجربة غنية على مستوى الاهتمام بالتراث والثقافة الشعبية من خلال مجموعة من الأعمال كان آخرها كتاب «المشموم، في ثقافات الشعوب» (2024م). كما أصدرتم مجموعة من الأعمال التي تناولت مختلف جوانب التراث العربي (الحكاية الشعبية، الأزياء الشعبية، الطرائف والحكايات...إلخ)، حيث منحتم لهذا التراث الشعبي (شأن مجموعة من الباحثين) أبعادًا متعددة، مما يجعل طرح الملمح الشعبي للثقافة بهذه الأبعاد، يوسع من دائرة الثقافة ويمنحها قوة أكثر. لكونها تأخذ مفهمومًا شموليًا، يرتبط بمجموع ما ينقل الإنسان بالوراثة والممارسة والتربية والتعليم. وما يكتسب بقصد وبدون قصد من معارف وخبرات وقدرات، تهذب طبع الإنسان وتربي عقله وترهف إحساسه، وتحدد ملامح شخصيته وتخدمه في حاضره وتنير له آفاق المستقبل. لا فرق أن تكون مدرسية أو شعبية. من هذا المنظور، هل يمكن القول إن مفهوم الثقافة قد تميز اليوم بنوع من الشمولية، متجاوزًا بذلك تلك الثقافة العالمة التي كان محصورًا فيها سلفًا؟
- مفهوم الثقافة بحد ذاته هو مفهوم شامل لكل المعارف المتوارثة والمكتسبة. ثقافة أيضًا تعني حضارة. حرصت قدر الإمكان في إصداراتي ونشاطي في مجال التراث الشعبي أن أحفظ ثقافة الإنسان في الكويت وإبداعاته في مجالات كثيرة وتوثيقها وإحيائها وتوظيفها في كتاباتي للطفل وفي وسائل الإعلام، وبدأت منذ سنوات تتبع أصول وجذور كثير من الحكايات والمعتقدات والفنون والعادات التي اكتشفت أن كثيرا منها يعود إلى آلاف السنين وتواصل إلينا واستقر وأخذ طابعًا محليًا وبكتاباتنا نعيده للعالم بطابعه الجديد. الثقافات لا تفتأ تغذي بعضها بعضًا. تعد الثقافة الشعبية إحدى المباحث الأنتروبولوجية المركبة التي ظلت تعاني الإهمال والتشكيك في أهميتها وجدوى دراستها، إذ لم تتمكن من احتلال مكانها ضمن الدراسات الثقافية والاعتراف بها كمبحث مستقل قائم الذات إلا في منتصف القرن العشرين، حيث توالت العديد من الأبحاث والدراسات التي اهتمت بها. إذا ومنحت تلك القيمة المضافة لهذا الجانب من الشأن الثقافي العربي اليوم وما يعيشه من تحولات.
القصة والرواية
● إصداراتكم على مستوى جنس القصة القصيرة أكثر من جنس الرواية، وعلى الرغم من ذلك، فإن روايتكم الأخيرة (النقطة الأضعف) الصادرة في طبعتها الأولى سنة 2019م، جاءت متميزة وغنية (حسب وجهة نظري على الأقل). سواء على مستوى البناء السردي، أو على مستوى اشتغال مختلف العناصر السردية (الشخصيات، الفضاء، الزمن...إلخ)، فهل يمكن القول إن تجربتكم القصصية منحتكم تجربة سردية قوية، جعلتكم تلجون عالم الرواية بكل ما منحتكم القصة من قوة فنية وأسلوبية؟
- إصداراتي في مجال الكتابة القصصية صار من الصعب أن أطلق عليها قصيرة وأكتب على الغلاف (مجموعة قصص)، قصة من 12 صفحة أو أكثر بقليل ليست قصيرة، فهي أقرب إلى رواية قصيرة كما سمعت من أحد النقاد أن الحس الروائي لدي أكبر. أعترف أني مقلّة في مجال الكتابة الأدبية كالقصص والروايات لأنها تحتاج إلى وضع نفسي خاص أخشاه دائمًا وأتجنبه حتى يلح علي إلحاحًا لا يمكنني إلا الخضوع له كما بينت سابقًا، أو يكون بتحريض كأن يطلب مني كتابة قصة. كتابة قصص الأطفال أسهل بالنسبة لي وإن كانت الأصعب على الإطلاق وأستمتع بها. هناك مشكلة وهي أن اسمي ارتبط بالتراث الشعبي أكثر من كوني أديبة وروائية. في آخر ثلاث قصص كتبتها وإن شاء الله تكتمل مجموعة جديدة وظفت فيها جوانب من تراثنا الشعبي، مثل الأمثلة وبعض العادات والتقاليد.
● كتبتم القصة القصيرة، وبعدها الرواية، هل يمكن اعتبار ذلك نوعًا من التحول في مسار تجربتكم الإبداعية من السرد القصير إلى السرد الطويل، أم أن المسألة عادية، خاصة وأن بعض التجارب الإبداعية العربية اليوم، تتأرجح بين القصة والرواية، وحتى الشعر أحيانًا. هل هذا التأرجح بين مختلف الأجناس الأدبية ظاهرة صحية حسب تصوركم؟
- إنه تطــور طبيعي، بــدأ مـنذ طفـولتي في رواية الحكايات الشعبية والسيـــر العربيــــة. وأول قصــة متكــاملــة كتبتـها كنـت فـــي الصــف الأول المتوسـط وهــو الصــف الخامس. كـــان موضـوع إنشاء: (كنت مسافرة في دولة أجنبية وأنت تسيرين في شوارعها، لمحت علم بلادك. صفي شعورك). قلت في القصة بعد مقدمة عن أسباب السفر، إنني حين رأيت علم الكويت غمرني حنين للوطن ورحت أتخيل البيوت والناس والبحر والمراكب والأغاني وتنبهت من شرودي على صوت أبواق سيارات لأكتشف أني صرت بوسط الشارع. كنت أتحرك وأنا أتخيل أنني أمشي في شوارع الوطن. اشتهرت هذه القصة في المدرسة. لم تتصور المدرسات أن طفلة تستطيع كتابة قصة مماثلة. دفتر الإنشاء دار على كل المدرسات والناظرة، وكل مدرسة احتياط تدخل الصف تسأل من بزة وحتى المفتشات. كما ذكرت سابقًا القصة تفرض نفسها علي ولا أستخرجها استخراجًا لكم، هناك دائما محرض مثل كلمة سمعتها أو عبارة أو شعور أو حدث أحتاج أن أعبر عنه ولا أحدد جنسه قصة قصيرة أو رواية.
الكتابة للأطفال
● تعد الكتابة للطفل، من بين المجالات الإبداعية التي انصبت عليها تجربتكم الإبداعية، حيث أصدرتم العديد من قصص ومسرحيات الأطفال. كيف ترون واقع الأدب والفن الموجه للأطفال في العالم العربي اليوم؟
- أختار دائمًا الكتابة للأطفال من سن 6-9 وربما 12 سنة، رغم أن الأمر بدأ يصعب حيث إن أطفال اليوم يختلفون عن أطفال الأمس. في طفولتنا كنا نعيش ونتغذى على الكتب ويبهرنا ما تزخر به. طفل اليوم مثقف ثقافة تكنولوجية عالية تفوق الآباء والأجداد رغم تعليمهم العالي. الدنيا كلها تحت يديه بلمسة إصبع وهو متابع جيد لما يدور في العالم. من متابعتي لبعض ما يكتب للطفل اليوم وجدت أنه لا يتناسب مع المستوى التعليمي والثقافي اليوم، خاصة في المجتمعات المتطورة، مما يضع الكتاب في حيرة الوطن العربي وخارجه. كثيرون يستسهلون الكتابة للأطفال ويلجأون إليها دون موهبة كتابة أصلاً، ورغم ذلك يجدون من ينشر ويوزع هذه الكتب التي لا تمتع ولا تعلم ولا ترقى لأن تكون أعمالاً أدبية. نص القصة للطفل يجب أن يكون نصًا انسيابيًا يمكن أن يحفظه الطفل عن ظهر غيب ويمكن أن يردده لجماله وقربه من القلب بغض النظر عن الأحداث وشخصيات القصة.
● ولجتم عالم الفن التشكيلي من بابه الواسع (كما أشرنا سلفًا) من خلال تجربتكم الطويلة في هذا المجال، يبرز ذلك من خلال مشاركتكم في العديد من المعارض المحلية والدولية، فهل هناك ما يميز الحركة التشكيلة العربية اليوم، وما موقعها ضمن الحركة التشكيلية العالمية؟
- لا أتابع صراحة الحركة التشكيلية العربية أو العالمية، خاصة مع ما يدور في عالمنا العربي اليوم من مآسٍ رغم أنها ألهمت كثيرًا من الفنانين وحملت رسائل لا يستهان بها عن واقعنا إلى العالم بأسره رغم الظروف القاسية. الحركة التشكيلية العربية نشطة وبخير، الفرق هو أن في العالم الآخر الجمهور يتابع ويقتني الأعمال الفنية للاستثمار، ووظيفة الوسطاء الفنيين وظيفة معترف بها وتدر أرباحًا على الفنان والوسيط وملاك صالات العرض وحتى صالات المزادات. ولعل هذا ما لا يتمتع به الفنان العربي على اختلاف مواد أعماله من رسم أو نحت أو خط أو غيره.
● إذا افترضنا جدلاً أن الحركة التشكيلية العربية قد تميزت بنوع من النضج على جميع المستويات، فما رأيكم في حركة النقد التشكيلي العربي اليوم، هل حقق النضج نفسه، أم لا يزال متأخرًا بالمقارنة مع الحركة الفنية؟
- حركة النقد قد يصيبها الركود كشأن كثير من جوانب الثقافة، بسبب ما يدور في واقعنا. النقاد في الوطن العربي يتأثرون بهذا الواقع، ولا يمكنهم كسب الرزق من هذه المهنة أو القدرة أو الموهبة. الناشرون في الغرب يعتمدون اعتمادًا كبيرًا على النقاد في الدعاية لكتاباتهم. النص يرسل للناقد قبل النشر للتقييم وللدعاية، كما أنه يكتب بمكافآت مجزية. النقاد في الوطن العربي ما زالوا يساهمون في إثراء المكتبة العربية بدراسات نقدية للكتب العربية والعالمية مع حركة الترجمة النشطة وإجادة كثير منهم للغات أجنبية رغم كل الظروف.
● أمام هذا التعدد الذي أغنى تجربتكم الإبداعية والفنية والبحثية، هل يمكن الحديث عن أوجه التأثير والتأثر التي أحدثها كل مجال من هذه المجالات في الآخر حسب تصوركم؟
- الكتابة تثير حاجتي للرسم لأعبر عن الفكرة بأكبر قدر من الصدق إلى القارئ، والرسم كثيرًا ما يثير في داخلي الرغبة في الكتابة، وبين الرسم والكتابة أقوم بصناعة الدمى واللعب والمجسمات من الطين فهي ملهم آخر. وصفت هذه الحالة في قصة في مجموعتي القصصية الثانية بعنوان (هذا): «أكتب حين أكون سعيدة وحين أتألم أعجز تمامًا عن التعبير بالكلمات، فتنتشلني الفرشاة حتى أعبر التجربة المريرة وإن كانت طيف منام مزعج» ■