اعتناق العزلة وحتميّة الاغتراب في رواية «في الهُنا» لطالب الرفاعي

اعتناق العزلة وحتميّة الاغتراب في رواية «في الهُنا» لطالب الرفاعي

يضع الروائي الكويتي طالب الرفاعي في روايته «في الهُنا» الصادرة عن دار الشروق، المتلقي طرفًا أساسيًا في خلق التخييل السردي، ليكتب معه روايته الجديدة القائمة على اللحظة الراهنة والمكان؛ الزمكان، اللذين يتواجد فيهما السارد، ولذلك وضع اسم الرواية «في الهُنا» مفتتًا سرده إلى العديد من البؤر السردية العديدة والمشتتة؛ أي السرد الذي جاء على لسان الرواه؛ سواء كان الكاتب نفسه متجسدًا بصفته الاعتبارية كونه روائيًا يقوم ببناء سردي ما بعد حداثي، أو صفته الشخصية كونه طالب الرفاعي الموظف في المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الذي يرتبط بعلاقة أسرية مع بطلة الرواية وأسرتها.

 

  إن تحول الرفاعي إلى شخصية في الرواية ثم إلى راوٍ يصنع الإيهام والتخييل اللذين تتطلبهما عملية السرد، بينما يمثل ظهوره بصفته الشخصية يكسر هذا الإيهام ويحطّم ذلك التخييل. إن تعدد الرواة في رواية «في الهُنا» خلق حالة من التجريب الروائي الذي يستند على خبرة الرفاعي لوضع المتلقي في خِضّم عملية البناء السردي الذي أكّد على التصريح به منذ البداية، لكونه لن يستطيع كتابة الرواية بنفسه لأنه يعاني من آلام مبرحة في ظهره، تلك الشراكة القائمة على قطبيّ العملية السردية؛ السارد والمتلقي هي أساس فلسفة ما بعد الحداثة. ربما حاول، بمبادرته تلك، أن يخلق حالة من الفوضى في السرد، محاولًا إقناع المتلقي بوهم الوحدة والانسجام مع العزلة التي توفّر حالة الإبداع التي تتطلبها روايته الجديدة، لكنه ما يلبث أن يوقظ وعي المتلقي، بظهوره بشخصيته الحقيقية تارة وشخصيته الاعتبارية كونه روائيًا تارة أخرى، ليؤكد له أن ثمة عملية سردية قائمة لم تنته بعد.
يؤكّد الرفاعي على كلمة «الهُنا» وهو لفظ مطاطيّ يعني المكان الموجود فيه الرواي؛ سواء كان هو أو بقية الرواة، ليقوِّض الحدود القائمة بين الواقع والخيال، مستعينًا بالضمائر التي سوف يعتمد عليها سرده من خلال الرواة ومن خلاله هو شخصيًا. يستخدم الرفاعي الراوي بضمير المخاطب وضمير المتكلم، كما يعتمد على تقويض السرد، أي كتابة رواية عن كوثر، فيمزِّق ما كتبه ويعيد كتابته، كما ينقض الآراء التي ترد بوصفها غير يقينيِّة، مستخدمًا سيرته الذاتية في السرد بوصفه شخصية واقعية في خضّم التخيلي من وقائع وشخصيات في المجتمع الكويتي، فضلًا عن وجود عالم الإبداع بشكل عام؛ كتّاب، فنانين تشكيليين... إلخ، في حياة المؤلف أو والد كوثر، ذلك المثقف الليبرالي، فنجده، أي الروائي، يقوم بالبناء المشوش وغير المتماسك كضرورة لإيقاظ وعي المتلقي، والتلاعب الواعي بالبنى الروائية واضعًا آليات صياغة الخطاب السردي الذي يستخدمه في رواية «في الهُنا»، فضلًا عن تعددية التأثيرات والخطابات بغية توليد الدلالات التي يريد إيصالها للمتلقي كونه شريكًا في عملية البناء، أو عقلًا يسعى للوصول إليه لتبليغ خطابه الروائي. 

حالة اللايقين
إن عدم الاستقرار الذي يعاني منه الروائي، كراوٍ أو شخصية حقيقية، وكذلك ارتباكات وعدم الاستقرار النفسي الذي تعاني منه كوثر يضع المتلقي في حالة اللايقين ومن ثم بلوغ هدفه بكتابة رواية ما بعد حداثية تستند إلى كل التقنيات التي تم ذِكرها.
«هُنا، كتبت مجموعتي القصصية «سرقات صغيرة»، وهُنا فكرت وخططت واتصلت بأصدقائي».
إن «هُنا» هي بمثابة التأكيد على أهمية المكان أو زمنه وربما الاثنين معًا، لدى الكاتب، لأنه يمثل البوتقة التي تخرج منها روائعه، معتنقًا العزلة، فخرج من ذلك المكان عمله القصصي «سرقات صغيرة»، فضلًا عن كونه الجو المناسب الذي يجب أن يتوفر لكاتبٍ ليكتب عمله السردي الجديد، وربما تلك اللحظة التي كُتب فيها العمل، بالإضافة إلى أهميته في كسر الإيهام حينما يوقف إحدى شخصياته عن الحكيّ، ليفكر ويخطط ويتصل بأصدقائه. 
تنظم الـ «هُنا» أيضًا العلاقة بين طرفيّ المعادلة التي يحتاج إليها السرد في تلك الرواية؛ الراوي والكاتب، كما أنها تُعتبر منطلقًا لتذويب ما قد يلتبس لدى المتلقي من معانٍ أو تخييلات تنطلق من الراوي فيأتي الكاتب، بظهوره بشخصيته الحقيقية، ليفكّك الصور التي تلاحقت وتشعبت في لاوعي المتلقي فيحطمها ويعيد إليه الوعي كونه مشاركًا في صناعة الحدث.
يحكي الكاتب أو الراوي بأنه يعمل في مبنى المدرسة القبلية التابعة للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، مبينًا أنه يعاني من آلام في ظهره نتيجة لانكبابه على الكتابة، يستمتع بسماع المطربيَّن، محمود الكويتي وخميس الشمري، وبسبب الشجن الذي انتابه من استمتاعه بالغناء جاءته فكرة كتابة رواية جديدة، وفي خضّم الانفعالات المتولدَّة من اللحن ظهرت «كوثر» بطلة الرواية وقامت بزيارته في مكان عمله، كونها ابنة صديقه، برغم أن الكاتب يحاول أن يسرد قصتها منذ طفولتها، لكنها تمسك بنسيج السرد لتغزل جزءًا من الرواية كونها السارد بضمير المخاطب، لتكشف جزءًا من شخصية حبيبها مشاري، لندرك تلاشي الحد الفاصل بين الحقيقة والخيال، السرد والمتخيل وكتابته والواقع، ما سيُكتب في الرواية وما هو حقيقي في حياة السارد، وسرعان ما تبدأ البطلة أو الراوية مستخدمة ضمير المخاطب «أنت» فتسرد حكاية عمتها «ألطاف» بوصفها مرادفًا لحالتها، إذ حدثت ارتباكات في العائلة نظرًا لاختلاف المذهب لتكشف لنا الارتباك الاجتماعي القائم على الصراع المذهبي غير المعلن الذي تعيش فيه كوثر وعائلتها، تلك الارتباكات النفسية يقوم الرفاعي بتقنيات سرده بتذويبها تمامًا حتى تتلاشى في عقول الشخصيات ومن ثَّم في عقل المتلقي، نجد أن مشاري لم يذكر في أي مرة أنه سنيّ وكوثر شيعيّة وكأنه ينطق بلسان الكاتب لإبلاغ خطابه الروائي، نجد أن تلك القضية قد ناقشتها الشخصيات بشكل تدريجي وصولًا إلى نقطة أن تلك الاختلافات لا يمكن أن تقف حائلًا أمام النمو الأنثربولوجي أو إقامة مجتمع يعيش فيه مواطنو المذهبيّن معًا جنبًا إلى جنب أو حتى الانصهار ليخلقا مجتمعًا جديدًا مستنيرًا.
تخوض كوثر منذ البداية حربًا نفسية في كل الاتجاهات وتحاول إثبات ذاتها التي بدأت منذ وصولها لمنصب رفيع في أحد البنوك، ثم سعيها خلف الشخص الذي وجدت أن قلبها يميل إليه، إن محاولة الوصول إليه هو بمنزلة الهدف الذي يجعل لها قيمة في المجتمع القائم على الفكر الذكوري، مما جعلها تشعر في كثير من الأحيان بالاغتراب، وفي خضم سعيها نحو الهدف وجدت الكثير من العقبات لتحاول تخطيها شيئًا فشيئًا لكنها وجدت نفسها غارقة في بركة الاغتراب.
«أن تتخطى فتاة حواجز وخطوطًا بائسة شيَّدها المجتمع». 
«للنبذ في المجتمعات المتزمتة متعة تفوق متعة الحلال».
«هل نحن الذين نمشي تجاه أقدارنا؟»
«إن تلك الجلسات والقراءات والأحدايث ستلعب بحياتي وتغيرها، وتسم شخصيتي بطابع مختلف جعلني أشعر بالغربة والألم أينما ذهبت».
تمثل «الهُنا» بالنسبة للسارد، العزلة التي وضع نفسه فيها هروبًا من الواقع، مبتعدًا عن الآخرين في غرفة مكتب مكيفة، بينما الهُنا بالنسبة للآخرين يحسدونه عليها، ظنًا منهم أنه ينعم بالهدوء والتفرغ للكتابة، تظل الارتباكات النفسية تراوده كلما قطع السرد وعاد بشخصيته إلى الواقع ليفصل ما بين الخيال الذي يصنعه كونه الراوي والواقع الذي يؤكد عليه كونه الروائي، لكنه يؤكد في لحظة تجلٍ أن «الهُنا» تلك تمثل الانعتاق من ضيق النفس والخلاص من فداحة الواقع الذي يحاول إعادة بنائه ومأزق الخيال الذي يقوم بتفكيكه.

أنماط مختلفة
تضعنا تقنية تعدد الرواة في رواية «في الهُنا» أمام أنماط مختلفة من الشخصيات لخلق حالة من الزخم السردي الذي يقوم بتخصيب الخيال في عقل المتلقي؛ فيروي الكاتب حاله في الوظيفة بضمير المتكلم، بينما يروي مشاري بضمير المخاطب «أنتِ»، وتروي كوثر بضمير المخاطب «أنتَ». إن الهُنا تمثل شيئًا ما لكل شخصية، وفي نفس الوقت يؤكد المؤلف حينما يقطع السرد للتأكيد أنه يقوم بكتابة رواية؛ «الكتابة الآن هي خلاص روحي»، «وحدي أمضي ساعات يومي، هُنا» «أنا سجين الهُنا»، «انتقالي إلى هُنا أدخلني في حالة نفسية جديدة»، «كنت جالسًا في الغفلة هُنا».
إن انفتاح الرواية وإنكارها للحد والحدود ما بين الواقع والخيال يجعلها قابلة للتأويل المستمر وينجم عن ذلك لانهائية النص ولامحدودية المعنى وتعدد الحقائق بتعدد القراءات، فضلًا عن الغياب والتشتيت وتحطيم القواعد الجاهزة.ِ 
تقوم الرواية على كسر التماسك واستبداله بمنطق التفكيك، وهذا ما قام به الرفاعي إذ لم يقدم لنا نصًا جاهزًا بل حدد لنا منذ البداية إنه يحاول أن يكتب رواية عن أشخاص حقيقيين، وذوبان الحدود الفاصلة بين الضمائر، وانتقال الراوي من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم وبالعكس بخلق تكنيك الكولاج. وينزع الرفاعي إلى نفي الإيهام ليوقظ وعي المتلقي ليقارن ويحلل ليصل إلى مدلولات معينة.
يدرك الرفاعي أن حياة المواطنين في الكويت مرتبطة، بشكل ما، بالبلاد العربية، وجدانيًا، فحينما قامت ثورة يناير في مصر تأثّر بها، ومن بعدها سورية وليبيا وقبلهم تونس؛ «سورية تتدمر، مصر تغلي، بيروت تعيش هاجس الانفجار، وتونس والجزائر وصنعاء»، «وطن عربي واحد»، «هل كان مآل الحراك الشعبي العربي مخيبًا لرجل عاش يحلم بوطن عربي واحد. إن التفكك الذي نجده في شخصيات الرواية يعتبر معادلًا موضوعيًا للتفكك الذي وصل إليه حال العرب.   
تتطرق كوثر لمسألة النسوية بشكل عام وصورة المرأة عند الرجل وكيف يتعامل مع قضاياها، تدرك أنها تواجه مجتمعًا ذكوريًا بدءًا من الوجه الآخر للرجل حينما يصطدم مع أحلام المرأة وتطلعاتها، لاحظت ذلك في عمها الذي تصدى لها حينما أبدت رغبتها في الارتباط بمشاري. الآخر الذي يضع مصلحته في المقام الأول ثم ينظر إليها هي، ويمثل مشاري أيضًا الآخر الذي يضع في حسبانه صورته لدى الآخرين ووضعه مع زوجته وأبنائه دون أن ينظر إلى حال كوثر، ذلك الآخر هو ما يسبب أزمة نفسية شديدة لها.
«هذا ما يخيفني يا مشاري، أنا بعت أهلي وغيرت حياتي من أجلك، فهل ستبيع وتغير حياتك مثلي...».
لم تكن كوثر تدرك أن ثمة تغييرات اجتماعية قد تُغيّر قناعات البشر، ترى في أبيها الشخص المستنير، الليبرالي الذي ينظر إلى الأمور بشكل منطقي وتقدمي، لكنه أمام مشكلة الاختلاف المذهبي تغيرت قناعات الرجل وكأن الاستنارة تعني أشياء دون أشياء آخرى، رأت فيه الرجعية وكأن قناعاته هي مجرد قشور قد تقتلعها رياح الواقع في أي لحظة.
«هل تغير أبي؟ هل انتكس الرجل الليبرالي المتحرر بقناعاته وأفكاره؟».
«كان يرى أن الوطن العربي الموحَّد قادم مهما وقفت الظروف الصعبة بوجهه».
«الأحزاب الأصولية قفزت على السلطة، سرقوها».
إن تجزيز (إن جاز التعبير) الأحداث أو البناء المتقطّع عن طريق رواة هو جُلّ السرد ما بعد الحداثي، وهو بالضبط ما قام به الرفاعي حينما استعان بالرواة وإيهام المتلقي بأنهم قريبون منه؛ قامت كوثر باستخدام ضمير المخاطب لكي تحدث خلخلة في السرد وصولًا إلى حالة من الشك وعدم اليقين، مركزًا على ذهنية البطلة وما يشوبها من ذهول واختلال برغم تظاهرها بالثبات في كثير من المواقف. 
«مشاري، إذا سارت الأمور كما خططنا لها، فغدًا لن أكون هُنا، سأشرب قهوتي وأتناول فطوري معك في جزر المالديف، لماذا أنا خائفة؟».
يكسر الرفاعي الإيهام بظهوره في بعض الفصول ليؤكد أنه ثمة كتابة تتم في لحظة التلقّي، كما يعمد إلى تغييب الزمن وبعثرته وتفكيك المكان ودمجهما في لحظات استثنائية ليكونا وحدة واحدة وهي الزمكان، كما اهتم بالصورة الصوتية السيكولوجية للبطلة، وكذلك أبرز التوتر الاجتماعي عن اختلاف المذاهب والظروف الاجتماعية مما كان له أثر في ارتباكات البطلة ومعاناتها وراحت تنظر للآخر بوصفه سببًا حقيقيًا في معاناتها وأزمتها النفسية، كما عمد إلى تفكيك النص وخلخلته ليحيّر المتلقي ويثير فضوله ليبحث عن خفايا النص ومدلولاته.
تخلَّى الرفاعي عن سلطته في استخدام راوٍ عليم ليسرد من خلاله روايته، كما نأى بنفسه عن مغبَّة أن يكون لديه مؤثرات أيديولوجية يسعى إلى توصيلها قد تتسرب في نسيج السرد أو من خلال أبطاله لدرجة أنه تخلّى تمامًا عن رأيه بوصفه شخصية من شخصيات الرواية فيما يخص زواج كوثر من مشاري ليجعلها هي التي تقرر مصيرها وفي نفس الوقت لم يكشف ذلك القرار بل تركه في وعي المتلقي، ليقرر هو وحده، مصير كوثر كونه الأب أو الأم أو الأخ أو كوثر أخرى تمر بنفس الظروف.
«استغربت كيف أن الوعي الإنساني يضعف ويمرض أمام الحب».
يمتاز البناء السردي لرواية «في الهُنا» لطالب الرفاعي بأنه مفتوح ومختلط، فهو مزيجٌ على مستوى الواقع والخيال، والمعقول والسحري، والأمكنة والأزمنة، وعلى مستوى الطبقات الاجتماعية التي تجسِّد عوالمها، والتي تتوجَّه إليها روائيًا، وحضور الرجل والمرأة في المجتمع ونظرة كل منهما للآخر، وعلى مستوى تعدد الرواة، والأنماط السردية التي تتشَّكل في كل مكان أو زمان، والدوائر الحكائية. يقوم الرفاعي في روايته بوضع حواجز بين السرد والمتخيل، والوهم والواقع، عن طريق بناء تخييل روائي، مستخدمًا الكولاج كوسيلة لسرد حدثين أو أكثر في أماكن مختلفة دون الانتقال بسبب التركيز على حالة «الهُنا» التي يكون عليها الراوي سواء كانت المكان أو الزمن متجسديّن معًا أو بشكل منفصل، فتبرز لديه مسألة اعتناق العزلة وتتعاظم لدى بطلته حتميّة الاغتراب. تمثل رواية «في الهُنا» عملًا فارقًا في مسيرة طالب الرفاعي الروائية التي تحمل بصمته ورؤيته وبناءه الروائي المتجدد دائمًا ■