متلازمة العلاقات السُّريَّة والألم في «سكين النحت» لأفراح فهد الهندال

تأتي الومضات السردية في نصوص «سكين النحت» للكاتبة الكويتية «أفراح فهد الهندال»، لتشهد على كاتبة تعتنق نحت كلماتها/ عالمها المختزل في شاعرية حميمة دالة وموحية، عبر أبواب ولوجها لهذا العالم الثر، والتي انطلقت منها بابًا وراء باب لتؤسس بها لإعادة الذات إنتاج ذاتها من خلال صور ومشاهدات وتراكمات ذاتية/ ذهنية تصنع عمق شخصية مبدعة تقف خلف تلك الومضات بروح الشاعر، وبسلاح الفنان الذي ينحت لوحته/ جدارية أيامه، والتي ربما أفادت من العنوان كعتبة أولى دالة ومؤكدة على البعد التشكيلي في الفضاء النصي الذي تصنعه كتابة مفتوحة ومنفتحة على سماوات الذات وملتحفة برجاء وأمل في معادلات وجود تستند إلى تاريخ حميمي ونفسي مع الذات، وما يتعالق معها، وما تتعلق به من علاقات سُريَّة تضرب في عمق تاريخها وتستلب لحظات حاضرها استلابًا ربما كان محببًا لها، كإشكالية وجود، وكثنائيات حياة متضادة تنحت بها الكاتبة/ الساردة نصها الذي يضرب في أعماقها.
فمنذ عتبة الإهداء «إهداء يلهج للسماء»، ذلك الارتقاء إلى الأعلى والأمثل، والتي يتقاسمها الأم والأب في إحالة إلى حميمية علاقة وجودية تصبغها بصبغة نفسية شفيفة معبرة عن حالة وجدانية مرتبطة، مع لغة رامزة موحية مفجرة لطاقات الكلمة والكتابة لديها، مع تجسيد تلك المعاناة الداخلية التي تؤكد على هذا الانشطار أو الدفع لحالة الكتابة الممغنطة بالحنين، وهي التي تجمع بينهما بتلك الجملة العبقرية: «بفيضكما... أحتضن السماء والأرض»، وهو الفيض/ المدد من ناحية، ومن خلال السياق التأويلي الذي يصنع تلك العلاقة الروحانية/ الصوفية مع الماضي وشخوصه ورموزه وأشيائه في نوستالجيا لا تنتهي، وترتبط بالأبواب/ النصوص، ارتباطًا عضويًا يحمل سمات التوحد، فمن خلال تعدد للأبواب التي تفتحها الساردة تنتقي بها الحالات الوجدانية النفسية المتعلقة بحضور الذات في هذا الطقس الإنساني الحميمي، لتفيض شاعرية اللغة، وتطفح على تلك النصوص المعتمدة على حالة التقطير: الاختزال والتكثيف، كسمة للتوحد/ الفهم العميق لدلالات النص القصصي، مع اتكاء على تلخيص التاريخ الخاص بوليد تتعلق به أهداب القلب، امتدادًا لتلك الحالة السُريَّة التي ربطت الساردة/ الكاتبة سابقًا بالأم والأب من خلال عتبة الإهداء، لتنتقل إلى امتداد طبيعي في حالة وليد مرتبط بتلك الذات الأنثوية بالرباط السري ذاته.
فالجملة السردية هنا تشي بالتحكم الشديد في الإيقاع القصصي، بانتقال مباشر من مرحلة طفولة إلى مرحلة نضوج واكتمال مع الحاجة الشديدة للنبع:
«قمت متثاقلة وأنا أحاول كف مخاوفي، فتحت الباب ببطء، أحاطني بقوة ذراعيه، انهار في النحيب، تكومت في صدره، لن أتناول المزيد من الدواء، أخيرا تخلصت من الأرق».
حيث تبدو من خلال السرد علاقة الابن بالأم أو علاقتهما معًا بالصورة التي تقوي هاجس الخوف والألم المتواري في جسد هزيل ما زال يعاني من المرض، ولكن الشفاء هنا يأتي من سر تلك العلاقة الحميمة التي يتم تدويرها وتبادل الأدوار/ تناقلها من خلال رباط سري ممتد بين أم ووليدها، أو تكرار العلاقة مع والديها بشكل عكسي، وحتى إن كان مر بمراحل الحياة بنظرة إنسانية فلسفية ارتبطت بعتبات النصوص من خلال الإهداء، من خلال افتقاد تلك العلاقات السُرِّية والتأسيسية للوجود ما يعكس رؤية النصوص/ الكاتبة للحياة.
كما تنعكس سمة القلق كسمة وجودية، تدفع إلى معافاة النوم والتقلب على جمر الأرق، هذا الألم المرتبط دومًا بالوجود من خلال مساحات يرتادها وعي الشخصية الساردة ويبحر بها في لجة عميقة تلقي بظلال المشاعر والأحاسيس المحتبسة داخل الذات، والتي تصر على الغوص في الوعي الباطني لجذور شخصية ربما أطلت من ثقوب الذاكرة ومن خلال لغة ملتحمة بحس نوستالجي مقيم في الذات والوجدان، إلى تلك الدروب القديمة كما في نص «احتراقات متكسرة» الذي يمتد فيه السرد في مساحات الوعي لتلتقط خيط الزمكان المشتبك مع الواقع الآني للذات، وذلك من خلال استهلال نصي:
«مشيت حافية تحت لظى الشمس من قبل، كانت المرة الأولى قبل ثلاثين عامًا، وهأنذا أستعيد معنى الخروج غاضبة من البيت لسبب آخر، لا لعبتي المكسورة».
حيث تأتي الإحالة على تلك الفترة الزمنية المرتبطة بالمكان/ التاريخ الملتصق بالذات الساردة، والذي يمثل انطلاقًا وتمردًا ينبثق من وعي مختزن من فترة طفولة مؤسسة لذلك الارتباط الضمني من خلال حالة الهروب أو اللجوء أو النفور من المكان إلى مكان، تتعمق من خلال هذا التنقل فلسفة هذا الهروب والإحلال من جديد في مكان جديد بعفوية، ربما كان يتملك الغضب والارتباط بتلك اللعبة المكسورة التي تبدو دلالاتها النفسية المتشرب بها الوعي، والقائم فيه هذا الوجود المؤجل والقلق امتدادًا لحالة من الأرق ربما رصدها وأكد عليها النص السابق، مع زيادة تلك الجرعة السردية/ الصورة المشهدية المتكاملة لتجسيد حالة من الألم مرتبطة بالوعي ومتجذرة به، وربما كانت متخلقة بشكل ما آخر في حالة تخيل سريالية عميقة تتنفس من خلالها الأشياء الجامدة وجودها الحي الموازي لوجود الذات في هذا الآتون الصعب للألم:
«عثرت للعبتي المكسورة على عين في البحر، القوقعة الزرقاء كانت تشبه دموعها، وعلى الطريق مررت بوجوه كثيرة حلت قواقع زرقاء في حدقاتها، مفاصل السرطانات تكسرت على الطريق، الورق اليابس على الرصيف يتكسر تحت قدمي، مسحوق الورق يطير مع الهواء، لعله - إلى البحر - يمضي لعناق موجة متكسرة، الموجة التي أفضت بطفلة نجت من غرق مركب مهاجرين دون أهلها، عرفت الحكاية التي تلقفتها أخبار العالم من صورتها، بنظرات ذاهلة، متشبثة بلعبة لم تجففها الشمس بعد...».
يبدو تشكيل المشهدية دالاً على حالة تورط نفسي تقع فيها الساردة في أسر التشكيل ونحت النموذج المعبر عما يعتمل بداخلها استنادًا على حالة من اللاوعي الظاهر، الذي يحمل وعيًا داخليًا بالألم وتجسيداته التي تصنع تلك الصورة وتبث فيها الروح، وهو ما يؤكد على الالتباس الضمني الذي يلعب عليه النص في إعادة تصنيع/ إنتاج هذه الذات من رحم وجودها السابق سواء على مستوى الواقع أو الخيال أو مستوى صناعة المشهد/ الحالة السردية المتوحدة، تلك التي تصنع تاريخًا موازيًا متخيلاً للعبة المكسورة/ الذات.
سكين النحت ومحاولة تشكيل الواقع الجديد
هي ذات السمة التشكيلية التي تنتهجها الكاتبة في نص العنوان المخاتل والقوي «سكين النحت»، الذي يعيد تشكيل الذات/ الشخصية من خلال التقنية الفنية التي تصنع من خلالها الذات بيدي نحات/ رمز القوى الخارجية الضاغطة على الوعي والتي تسهم إلى حد كبير في تشكيله على مستويي الواقع الخارجي/ المظهر، والواقع الداخلي/ الجوهر الذي ينال الجانب الأهم في تلك المساحات النفسية التي يتسع لها الداخل، فيما تخفي لمسات هذا النحات/ المرغوب في عمله، كل ما اعتور هذا الداخل من ندوب ليمحوها على مستوى الظاهر:
«النحات الذي سمّرني على الكرسي، شكل وجهي من جديد: عينان، أنف، وجبين بلا ندوب. أتقن تسوية ذقني بأصابعه، كان يكشط زوائد الطين ويربت عليها، أدهش الحضور المتحلق حولنا برأس رطب ولين بلا فم، فمي بين كفيه مسحه بردائه، تحولت لطخات الطين إلى كلمات لم يتمكن من مجاراة مديحهم».
تلك السمة التجريدية لذلك النحات الذي يصنع السمات الجديدة، حتى ليكاد هذا المقطع في حد ذاته أن يكون قصة قصيرة جدًا مكتملة في حد ذاتها، ووجودها المؤسس للواقع الخارجي لتجسيد هذا الواقع الجديد الذي يخفي الداخل المصطرع تمامًا كآية للكمال الفني واستنساخًا مغايرًا تمامًا لما عليه الداخل من حقيقة واقعة ومن رغبة في تأكيد الذات الشاعرة التي ربما تمخضت عن ألم انحباسها في هذا الإطار الجديد ومحو كل علاقاتها القديمة مع الواقع ومع الشعور.
«تركوا طينًا لازبًا على كتفي، بينهما فوهة أكابد للخروج منها، خلعت عن نفسي ما تبقى، نازعت نصف الجسد الذي حبسني متثاقلاً، حاولت الصراخ، فقدت صوتي، خارت قواي وأنا أزحزح الكتل المتروكة وسكاكين النحت، فوضى أياديهم وأصواتهم المترامية، تذكرت قصيدتي، رددتها وأنا ألقي نظرة بعيدة، تستنجد رأسي الممرغ على الطاولة».
يبين النص إلى حد بعيد تلك العلاقة المنبتة مع الواقع الذي تواجهه النصوص من خلال عمليتي محاولة إعادة الإنتاج ومحاولة توجيه الحياة إلى جانبها العدمي الذي لا تفيد معه محاولات إعادة إنتاج الذات والشخصية والخروج بها من ربقة الشعور بالانحباس والألم، والدوران في فلك الأسئلة المشبعة بالعدم، والتي تصاحب الذات وتلتبس بأنات آخرين قد يلوحون في الأفق، استنادًا إلى وحدة مهمة من وحدات العمل السردي، وهي التوجه الذي يلتزمه كاتب النصوص تجاه قضايا وجوده الملحة والتي تكتمل صورها بمعانقة ومراقبة صور الآخرين، فالعين الراصدة الساردة لا تتوقف في سعيها الحثيث عن مراقبة هذا الحس/ الشعور في كل ما يدور حولها أو يعن لها من تجسيد آلام الآخرين، وتشكيل متلازمات الألم فيهم، ففي نص «جذور الوصية»:
«نسي وصية والده القديمة: أشجار السدرى تقلع. بعد أن أطبقت مصيدة العصافير على قدمه وهو يحاول اقتلاع شجرة البيت... تذكرها مذ ذاك صار «الأعرج» يظن أن كل حبة نبق يجدها عند النافذة «مغفرة» يتناولها دون أن يغسلها، يجمع حبتها العارية إلى البذور المجففة بعد أن يلفظها فمه، يدفنها معًا».
العالم لا يتوقف عن الهذيان
تبدو مصيدة الحياة لمن يحاولون الابتعاد عنها مدعاة لاجتذاب الألم ومجاراته والتعايش معه، لتمثل تلك العقيدة ثابتًا من الثوابت التي تتعلق بها الذات من تاريخها السري وتعالقه مع الألم، ومع تلك الإطلالات التي تبدو من شقوق تلك الذاكرة لتصنع/ تجدد للآبقين آلامهم وتشكلاتها من سكين الحياة التي تطبع سلخاتها على جلودهم وتوشمهم بها لتصنع فلسفة وجود وآلية تعامل مع الحياة... ذلك الذي يجعل الاستدعاءات تتوالى على جسد الكتابة التي لا تعدم ذاك الحبل السري مع الطفولة البارقة والأشد التصاقًا بالوعي، كما في نص «حياكة الصمت» لتتعاطى السرد مع نموذج أكثر عنقا وأكثر تغورًا في التاريخ الخاص بالمسرود عنه من خلال العلاقة مع الجدة التي تضع هنا وهجًا تأسيسيًا للعلاقة مع الوجود من خلال مفهوم النسيج كمعادل تشكيلي تتجاور فيه الألوان مع تقنيات ارتباطها من بعضها، ما يقرب تلك الوشيجة الفنية من نسيج الحكايات:
«علمتها جدتها الكتابة بمغزلها، كانت تنسج سيرة وامضة، حديثًا يناجي طفولتها البعيدة، تجهز نولها الخشبي طويلاً ممتدان كما تريد لسجادتها، تراعي خيوط الصوف وتفتلها برقة وجلال لا يقطع حبل أفكارها، تلفها على ذراع المغزل بإحكام، ثم تردد القصائد القصيرة والأمثال ساحرة الإيقاع لتتبدى الخيمة والنخلة ويتوالى تشكل الكائنات المدهشة».
هكذا تتوازى الكتابة مع الحكاية مع الأشكال التعبيرية المنسوجة والتي تنتمي إلى عالم التشكيل الذي يميز أجواء تلك الكتابة التي تميل إلى الصمت لكل التداعيات التي يحدثها الوجود والإنصات لها وتحويلها إلى حيز تشكيلي تعبيري مرتبط بالوجدان وبالذاكرة وبالحركات الصامتة التي يكون فيها التركيز في أعلى درجاته ليحاول التغطية على آثار مختزنة للألم واختزالاً للشكوى مما يعترض الوجود، تبرزه الساردة:
«استرسلت البنت طويلاً في الكتابة، تحول العراك خطوطًا متوازية، تترك للشكوى نقاطًا ملونة، تشيد ارتباك هواجسها بنص قصير، وتكتب الشخوص مجسمات مؤولة».
فيما يتغير هذا الواقع التخييلي في ذات أخرى تناجيها الكاتبة بضمير مغاير هو المخاطب الذي تكتمل به دائرة الضمائر السردية التي توالت على سلس قيادة السرد في النصوص، وفي عالم لا يتوقف عن إفراز صوره وإن كان من خلال هذيان الكتابة ذاتها، التي تنمو هنا الكتابة على ما ورائها:
«تعترف لظلك على الحائط، تخبره عن الوقت التائه منك، تطلب منه أن يقاوم ويحاول تزجية الوقت بتحريك المصباح لعل الوقت يتسارع، تحتج باللحاف الرث، المرايا المكسورة، وانعكاسات الزمن المتأرجح كساعة قلقة. تحطم المصباح، لكن العالم لا يتوقف عن الهذيان».
تأتي الأشياء الحميمة بعلاقاتها القديمة لتوسوس للسارد بتفاصيلها وصورها الجديدة المنطبعة على الحاضر من خلال أطياف الاختزان بالذاكرة والتشبع بها لتتعدد صورها، تنقل ذات التوتر والقلق، واستعادة الصور المنعكسة من مراياها القديمة المكسورة/ الذات، تصبغ صورتها على الأشياء التي تدخل في حيز أنسنتها لتشارك الوجدان هذه الحالة المستعادة والمستنسخة من النوستالجيا ومتلازمة العلاقات الأساسية المتوارثة والألم ■