المُلَح الأدبية من كُتب الحماسة إلى مجلة العربي

يتراءى للناظر في قوس الطيف الواصل بين تراثنا القديم والمعاصر، ذلك الخيط الممتد من النوادر والـمُـلَح والطرائف الأدبية، في ثراء تنوّعه وسطوع جمالياته، ويتعلق به حرص المنشئين على إبداعها في شتى المواقف، وتوق المتلقين إلى الإنصات إليها، بأريحية ظاهرة.
وعلى أثر ذلك، اكتنزت المكتبة العربية التراثية، خزانة كبيرة من المصنفات المعجبة في هذا الباب، حتى يقع في الحسبان، أن العربية لغة النادرة والفكاهة والإطراف، وتتقاطع العناوين فيها وتتشابه، على نحو يبدو مقصودًا، مثل: (جمع الجواهر في المُلَح والنودار) للحُصري القيرواني، و(لُمَح اللُّمح) للحظيريّ، و(سَفَطُ الملح وزَوح التَرَح) لسعد الله الدجاجي، و(الملح والنوادر) لابن النجار الكوفي، و(نوادر الملح في الأدب) للخطيب العمري، و(الملح والطُرف من منادمات أرباب الحرف) للبلبيسيّ.
وإذا كانت هذه الأمثلة من العناوين علامة على محتواها وغايتها، فإن مصنفات أُخَر، يفوتها العد والحصر، لم تنص عناوينها على شيء من ذلك، لكنها ضمّت فصولا مطولة، وأجزاءً مفصلة لهذه الفنون القولية، و(حدائق الأزاهر) لابن عاصم الأندلسي (ت. 829هـ) مثال بارز في هذه السبيل، ولم يفت ذلك أكثر الكتب علمية وجِدية، حتى ذهب الحُصري القيرواني (المتوفى 453هـ) صاحب «زهر الآداب» إلى أن الهزل يأتي من الجِدّ، وأنه «قد يُستجلب من الجِديّات الصريحة، ظرائف الهزليّات المليحة».
وعلى الدرب الوسيع نفسه، مضى أدباؤنا في العصر الحديث، تأليفًا وتصنيفا وتحقيقا، وواكبت الدوريات الثقافية هذه الجداول المتدفقة للملح والنوادر، في عروق الأدب العربي عبر عصوره المتطاولة، فاتخذت منها روافد تَعْمرُ بها الزوايا والصفحات، وتُسعد بها القارئين والقارئات.
ومجلة العربي التي تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت، وتقترب من عقدها السابع بخطى وثّابة، مَثَل يغني عن أمثلة؛ فقد حرصت منذ عددها الأول (ديسمبر 1958م) على أن تُطرف قراءها، وأن تستروح نفوسهم المتطلعة للمعرفة، بنماذج متنوعة من الملح والطرائف، وهم في خضم الموضوعات المعمقة الجادة، فكان عنوان الباب - في أول ظهوره - دعوة صريحة للفكاهة والابتسام، وهو «اضحك تضحك الدنيا معك»! وقد استند بصورة رئيسة على طرائف الأقوال المؤلفة والمستجلبة، في اشتباك وتناغم مع ثقافة تلك الحقبة من عمر المجلة.
ثم كانت «واحة العربي» في إصدارها الجديد بعد التحرير (1991م)، واستمر الباب بهذا العنوان حتى وفاة محرره الأديب محمد مستجاب (2005م)، وفيه رسم بالكلمات لوحات قلمية ساخرة، لا تخلو من جد ومعرفة، وتتوسّل بالمفارقة الجامعة بين المؤتلفات والأشتات، واللمحة الذكية، يقول عن اليد ذات الأصابع العبقرية في العزف والذبح والخطف والرسم الجميل:
«تعتبر اليد أخطر جهاز تنفيذي في الإنسان وبعض الأحياء الأخرى، وهي بأصابعها تختصر سماته الأساسية من جمال وشراسة ونظافة ونعومة وخفة وذكاء، تحدد المجال الجغرافي الذي يمكن للإنسان أن يعمل فيه.
وعبقرية اليد في أصابعها، ولها سحرها في الرسم والنحت والتدوين وكتابة الخط الجميل، وفي النشل من الجيوب، وفي التشبث بالصيد، وفي حياكة الملابس والمؤامرات وخدع السحرة والذبح والسلخ وخلع ذوي المناصب الكبرى...» (واحة العربي، سبتمبر 1993م).
تمتد ظلال الواحة، وتستقر في بابين متتابعين يصلان الحاضر بالماضي، عبر «طرائف عربية»، و«طرائف غربية»، تترسم ملامحها من خلال التهذيب والإيجاز والإمتاع، وهي الملامح ذاتها التي تتقاطع مع بعض سمات «العربي» عروس المجلات العربية.
لم يكن الاشتغال النقديّ بهذا اللون الأدبيّ بالقدر الكافي، وظلت الأسئلة الباحثة عن: الكتاب المؤسس لهذا الباب، والقِيم التي تحملها النوادر، والخصائص التي تتميز بها، قائمة وتحتاج مزيدًا من الدرس، ومن هنا تأتي أهمية كتاب الدكتور محمد سيد عبدالعال «المُـلَح بين المتن والهامش»، في تحقيقه لهذه الأسئلة البواعث، وفي استقصاء واف لأبعاد الظاهرة الأدبية.
وإذا كان الأدب شعره ونثره يقتسم مصطلح (الـمـُلَح)، فإن الدلالة الإيجابية تغلب عليه، وإن اشتركت لفظيًا مع (المِلْح) الذي يطيب به الطعام، فنجد الحُسن في الكلمة المليحة، والملاحة في الوجه، والمليحة جارية نقية البياض، وهكذا يجمع بين الـمُلَح والـمِلْح البياض في اللون، وحضورهما المهم، حين يستخدمان بقدر موزون، ومما ينسب إلى عيسى ابن مريم عليه السلام قوله للحواريين: أنتم مِلح الأرض؛ فإذا فسَد الشيء دُووِي بالملح؛ فإذا فسد الملح، فبأي شيء يُداوى؟!».
وعلى أساس مما تنطوي عليه الـمـُـلحة من متواليات دلالية متآزرة، ومتضادة أحيانًا، يحدد المؤلف مفهوم المــُـلْحة في كونها نصًّا: «يختلط فيه الجِد بالهزل، وقد يكون ظاهرها الهزل والعبث وباطنها الجِد، وهي من الأهمية بمكان بحيث تتراوح بين الأصل الذي لا يُستغنى عنه، والهامش الذي يمكن الاستغناء عنه». وبهذا أيضًا، تتشعب القراءة النقدية لخطاب المُلح والنوادر، بوصفها نوعًا أدبيًا مستقلاً من جهة، وتردد موقعها بين متن المصادر وهوامشها من جهة أخرى، وتستقر كلمة «الـمُلح» عنوانًا لباب مستقل، لأول مرة عند الشاعر الناقد الشهير أبي تمام حبيب بن أوس الطائي (ت. 232هـ) في حماسَتَيه (ديوان الحماسة) و (الوحشيات)، فكان عمل أبي تمام مؤسّسًا لهذا النوع، وقد «اقتفى أثره كل أصحاب الحماسات والمختارات من بعده»، عدا حماسة الشاعر البُحتريّ.
يتخذ كتاب «الملح بين المتن والهامش» من النوادر والملح في كتب المختارات عامة، وفي الحماستين الكبرى والصغرى لأبي تمام خاصة، مادة رئيسة، يُراعي في قراءتها السياقات الاجتماعية والثقافية والسياسية المحيطة بها، ويحرص في الوقت نفسه على الربط بين الإبداع والتلقي، والإفادة من معطيات جمالية يمنحها النقد الثقافي، وانطلق إلى معالجة الفن الأدبي العريق، من حيث كيفية إنتاج الملحة، وطبيعة نوعها بين الإثبات والنفي، وتأرجحها بين التلقي النخبوي والشعبي، وهو ما ألقى عليها طوابع محددة، منها القصر، والتبادل مع أهلها، والتزامها بعض عناصر الأداء الشفوي، واكتنازها لقدرات تمثيلية فائقة، وقد وضع الحصري القيرواني شروطًا لقائل النادرة والملحة أو المؤدّي، ومنها أن يكون:
- خفيف الإشارة - لطيف العبارة - ظريفًا رشيقا لبقًا.
- خاليًا من العنف والجهل – يَلْبس لكل ملحة لُبوسها.
فضلاً عن ذكاء المؤدي وفطنته وقوة حيلته، وسرعة بديهته، ويعطي مثالًا على ذلك بطُرفة أو مُلْحة يذكر فيها أن «الفَتح بن خاقان خرج مع الخليفة المتوكِّل في صيدٍ؛ فرمى المتوكل عصفورًا فأخطأ الرمي، فقال الفتح: أحسنتَ!
فغضب المتوكل، ونظر إليه شزرًا، فاستدرك الفتح سريعًا على البديهة: إلى الطائر يا أمير المؤمنين!
فضحك المتوكِّل».
على أن أبرز ما يمكن الوقوف عليه في قراءة الملح والنوادر، ويتشوّف التلقي للوقوف عليه، هو الفوائد الكامنة أو القيم المهيمنة - بتعبير رومان جاكبسون - لهذا الفن وأمثاله من فنون القول الطريف، وإن كنت لا أذهب مذهب المؤلف في وصفها «بالبرجماتية» لما تتضمنه من النفعية المادية وجلبة السوق، والفن على اختلاف أنواعه، سعي نحو الرفعة والسمو. ويمكن إجمال أهم هذه القيم، كما وردت في كتاب «الملح بين المتن والهامش» في: صَرْف الخوف عن الخائف، وإنقاذ الملهوف، فقد روي في ذلك أنه «لما ظَفَر سليمان بن حسن الجنّابي يوم الهبير بالحُجّاج، وقتلَهم فأخذ أموالهم، كان في جُملة ما أخذ أَحْمال فيها من رَفيع البَزِّ وظريف الوشي وما أعجبه وأبْهتَه. فقال: عَليَّ بصاحب هذه الأحمال. قال صاحبُها: فأتيتُهُ فقال: ما منعَكَ أن يكون ما جئتَ به أكثر من هذا؟ فقلتُ: لو علمتُ أن السوقَ بهذا النّفاقِ لفعلتُ. فاسْتَظرفَني ودفع إليّ مالًا وجميعَ ما أُخِذَ لي، وأرسلَ معي من يحفظُني حتى وَصلْت!».
يتصل بذلك من القيم التي تمنحها الـمـُلح الأدبية، تحقيق المطالب ورفع قدر صاحبها، بل شأن قومه وأهله، ومنها تجديد الأُلفة، فصاحب الملحة قريب لا يستثقل ظله، وتعديل الصورة الذهنية، فللطُرفة قدرتها الخاصة على تعديل تلك الصورة، وإزالة الجفوة، فكم من مرة أحالت الطرائف الجفوة إلى صفاء واستلطاف. ولها القدرة أيضًا على مواجهة الأحزان والانكسارات، وكأنها لون من ألوان المقاومة المعنوية لأزمات النفس وآلامها، تأخذ بيد الحزين، وتُسرّي عن الـمُبتلَى.
وهي المرآة المبينة عن الوجه الآخر للأديب، وللمجتمع في حال استرواحه وأنسه، وسعة حيلته، تكشف المسكوت عنه وراء أسوار القصور، وبين ثنايا المجالس «تلتقط ما يختبئ، وتكشف هذه الطبائع المستورة نقدًا وسخرية وتوجيهًا»، حتى ذهب عبدالعزيز البشري (ت. 1943م) الأديب الساخر إلى أن الأدباء الظرفاء أصحاب الملح والطرائف «يتدسَّسون في التقصّي إلى مداخلهم، فيتَلقَّطون ما عسى أن يقع من هذا وراء الجُدُر، مما يضنُّ أصحابُ المروءات به على الابتذال، إلا الصفوة الصِّحاب، ولقد زخرت كتب العربية بهذا إلى الحدّ الذي لا أحسبُ أمّة قد انتهتْ فيه مُنتهى العرب». ليس هذا فحسب، فإن للنادرة والملحة والطرفة قدرة على دفع الملل والسأم عن مجالس العلم، فترهف الآذان، وتشحذ الأذهان، وتعيد إلى الأنفس النشاط بعد فتور، فتصير أقوى على الجدِّ وطلب الحق، يقول الشاعر كَشاجم (محمود بن الحسين ت. 360هـ):
عجَبي ممنْ تعالتْ حالُهُ
وكَفاه اللَّهُ ذَلاّتِ الطَّلَبْ
كيف لا يَقسِمُ شَطْرَيْ عُمرَه
بين حالين نَعيمٍ وأدبْ
ساعةً يمتِعُ فيها نفسَه
من غذاءٍ وشرابْ مُنتَخبْ
ودُنُوٍّ من دُمىً هُنَّ له
حين يشتاقُ إلى اللهو لُعَبْ
فإذا ما نالَ من ذا حظَّه
فنَشيدٌ وحديثٌ وكُتبْ
ساعةً جِدًّا وأخرى لعِبًا
فإذا ما غَسقَ الليلُ انْــتَصَبْ
إنها في خلاصة التجلّي، خلاص من هلاك محتمل: حيث يمكن أن تخلِّص الـمُلحة الظريفة الخطاب، المليحة الجواب صاحبها من الموت، أو تُسلّمه من الأذى، كما يُروى عن الأصمعي: أن الحجاّج بن يوسف خرج متصيدًا، فوقف على أعرابيّ يرعى إبلًا وقد انقطع عن أصحابه، فقال: يا أعرابي، كيف سيرة أميركم الحجّاج؟ فقال الأعرابي: غشوم ظَلوم لا حيّاه الله ولا بيّاه. قال الحجّاج: فلو شكوتموه إلى أمير المؤمنين؟ فقال الأعرابي: هو أظلم منه وأغشم، عليه لعنةُ الله! قال: فبينا هو كذلك إذ أحاطتْ به جنودُه، فأومأَ إلى الأعرابي فأُخذ وحُمل، فلما صار معهم قال: مَنْ هذا؟ قالوا: الأمير الحجّاج، فعلِم أنه قد أُحيط به، فحرّك دابّته حتى صار بالقرب منه، فناداه: أيها الأمير: قال: ما تشاء يا أعرابي؟ قال: أحبُّ أن يكون السرّ الذي بيني وبينك مكتومًا؛ فضحك الحجاّج وخلّى سبيلَه!
وخرج مرة أخرى فلقيَ رجلًا، فقال: كيف سيرة الحجاج فيكم؟ فشتمه أقبح من شتمِ الأول حتى أغضبه، فقال: أتدري من أنا؟ قال: ومن عَسيتَ أن تكون؟ قال: أنا الحجّاج، قال: أو تدري مَنْ أنا؟ قال: ومن أنت؟ قال: أنا مولى بني عامر، أُجنُّ في الشهر مرتين هذه إحداهما. فحك وتركه! ■