الأدب أفقًا للتفكير

ليس الأدب مجرّد مجال معرفي، وتعبير نوعي مخصوص قائم على لغة خاصة، وتبنيه أساليب ملائمة؛ إنّه نمط فنيّ وجمالي يخلق عوالم متخيّلة، ومِنْها وعَبْرها يبني كونًا إنسانيًا، فتتراءى داخله علاقات وصلات وتفاعلات عديدة. إنّ عوالم الأدب تكشفها نصوصه، بانتماء أجناسي أسّهُ التعدّد، تظهر حاملة لوقائع وأحداث وأفكار، لكن عَبْر وسائط جمالية وتقنية وفنية. لهذا، فإنّ الأدب نشاط فكريّ فنيّ خلاّق، وواقعةٌ تعبيرية خطابية، يرتبط موضوعه وقضيته، في جوهره، بالإنسان في وجوده وامتداداته.
بهذا المعنى، إنّ الأدب، في تعاليه على الشرطية الزمنية والمكانية واللغوية، يمثّلُ أفقًا للتفكير في الإنسان، بواسطة آليات تقنية ووسائط جمالية؛ سواء كان الإنسان فردًا وذاتًا بكينونة خاصة، أم ضمن وجود جماعي اجتماعي بامتلائه الثقافي والحضاري والرمزي. من هنا، نتساءل: ما هي معطيات هذا الأفق الذي يجعل من الأدب إطارًا فنيًّا للتفكير في الإنسان بقضاياه وعناصره المتعدّدة؟ وهل نستطيع أن نحدّد، وبدقة كاملة، ما يمكن أن يشكّل مجالًا للتفكير لدى الأديب؟
يرتبط الأدب، في ماهيته التكوينية، بالتأمل في العالم والتفكير فيه، عَبْر وسائط فنية وأدوات جمالية. لذلك، يظلُّ مُنْشدًّا، بوشائج عديدة، للوجود الإنساني، بما يلائم مقتضيات الكتابة الأدبية، ويناسبُ بناء عوالمها الإبداعية الفنيّة. من هنا، يتجلّى الأدب تعبيرًا مُوَجّهًا بأُسّ فكري فنّي، فتصير قراءته، قراءة خِصْبة، مدْخلًا لإبراز ما يتيحه من إمكانيات عديدة للتفكير الخلاّق في قضايا الوجود الإنساني المركّب والمعقّد. لهذا، فإنّ مواضيع الأدب تمثّل منطلقًا للتفكير في سياقات وجودية متنوّعة، وإضاءة، عبر وسائط جمالية فنيّة ملائمة، علاقة الأدب بالإنسان والحياة والقيم؛ والأهم أنّه يتراءى مجالًا تعبيريًا عن هوية جهوية أو وطنية أو محليّة، في تميّز نوعي عن المجال العلمي الذي تتعذر معه أيّ نسبة لفضاء أو هوية أو جغرافية ثقافية. والمثير للانتباه أنّ الأدب ظلّ إطارًا تعبيريًا خاضعًا لتفكير دائم في ملاءمته للوجود الإنساني في سيرورته التطوريّة. لذلك، فقد أنتج القرن الحالي دراسات نقدية تفكر في أهمية الأدب انطلاقًا من منطق التحولات الكبرى التي مسّت الوجود الإنساني من زوايا متعددّة؛ سواء من زوايا الصلاحية، أم من زاوية الأزمة والخطر. ذلك ما تبيّن، مثلًا، مع كتابات أنطوان كومبانيون «لم يصلح الأدب؟» (ترجمة: حسن الطالب، 2023م)، وتزفتان تودورف «الأدب في خطر» (ترجمة: عبدالكبير الشرقاوي، 2007م)، إنّه كتاب أثار ردود فعل نقدية كثيرة، فأنتج حوارات نقدية يبقى من أهمها، في تقديري على الأقل، كتاب الأستاذ عبدالرحيم جيران «إدانة الأدب» (2008م). أما البحث في الأدب من زاوية الأهمية، فيمكن التمثيل، لا الحصر، بما اقترحه الناقد الجامعي الأمريكي مارك ويليام روش، متسائلًا عن أهمية الأدب في القرن الواحد والعشرين «Why Literature Matters in the 21st Century» (4002م).
أمكن الإقرار، بدْءًا، إنّ الأدب مجالٌ فنّي فكريّ يمتدّ لالتقاط قضايا مثيرة ومحيّرة في حياة الكائن البشري. يبقى في مقدماتها موضوعات تمسّ الإنسان في امتداده الوجداني الداخلي والفكري القيمي، وتهمّ ارتباطه بمكونات محيطه الوجودي.
أداة كاشفة
لذلك، يتراءى التعبير الأدبي مدخلًا لكشف الإنسان في تحقّقه الفردي والجماعي، وإبراز محددات سيرورته التطورية في الوجود الإنساني، وانفتاحه على تحولات فارقة ورمزية في كينونته وعلاقاته. من هنا، يُعدُّ الأدب أداة كاشفة للكينونة الإنسانية، عَبْر تعابير رمزية وأدوات جمالية ووسائط فنيّة، تُسْعفُ القراءة النقدية العالمة المتجّددة في بناء أبعاده المتعدّدة ودلالاته المتنوّعة. بهذا المعنى، فإنّ الأدب إطار تعبيري تشكّله علامات لغوية دالة، فيظهر مفتوحًا على الكثير من الدلالات والمعاني والأبعاد.
يتبدّى الأدب فضاءً رمزيًا قابلًا لتعدّد القراءات، ومفتوحًا على تنوّع التأويلات. لذلك، يمثل منطلقًا لإبراز علاقته القويّة بكشف الإنسانِ، بوصفه تعبيرًا فنيًا بخلفية فكرية. يؤشر هذا على انغراس الفكر في الأدب، ويسمح بتتبع «فكر الأدب»؛ فيتجلى بموجبه أنّ «الأدب ممارسة للفكر» (أنطوان كومبانيون، لم يصلح الأدب)، وبذيله ترجمة حوار أجري حديثًا مع كومبانيون عنوانه «ما يستطيعه الأدب»، ترجمة: حسن الطالب، دار الكتاب الجديد المتّحدة، بيروت، ط1، 2023م، ص 66. لكنّه فكر نوعيّ خاصّ، يقتضي شروطًا تعبيرية وفنية تلائم بناء عالمه الخيالي الرمزي، وتناسب تشكّل مكوناته في نسق دال. لهذا، فالأفق الفكري للأدب يوسّعُ مجالات اهتمامه وقضاياها الإنسانية، ويعمّق الوعي بمضمراتها المحتجبة. هكذا، يمثل الأدب، وإنْ شكلّ الخيال أُسّهُ، «أداة» للاطلاع على مجهول الإنسان، والتعرّف على ما يميّزهُ في سيرورة الوجود وصيرورة الحياة، وما يبرز فرادة كينونته النوعية. كأنّ الأدب كشف عن ماهية الإنسان، في تحقّقه الكوني، وإضاءة لوجوده المُلغز. لذلك، فإنّ الأدبَ يتجلّى تعبيرًا يرسّخ الوعي بـ «الإنسانية الكونيّة»، ويقودُ لإدراك كينونة الإنسان المركّبة، في محاولة الكشف عن مضمراته الوجدانية، وإبراز الخفيّ في علاقته المتعدّدة، وِفق محددات القراءة النقدية المثمرة والخصيبة.
مقاومة الانغلاق
يُرسي الأدب تفكيرًا نوعيًا يهمّ بناء علاقات الإنسان المتعدّدة، ويجسّرُها بما يسمح بمقاومة الانغلاق، ويسهم في تشييد علاقات خلاّقة تصونُ الاختلاف وتدعمهُ. إنّ تفرّد الأدب، بوصفه إطارًا تعبيريًا نوعيًا بأدوات جمالية فنيّة، إذًا، كامنٌ في ترسيخ أفق دلالي فكري غايته بناء علاقات أسّها الاتصال، لا الانفصال. يحتفظ الأدب، في كينونته وتحقّقه النوعي (الأدب الجيّد)، بوظيفة التجسير والتأثير، وخلق صلات التقارب المانح بروز الغيرية بصفتها رمزًا للتعايش، والمانع ظهورها في سياق يوحي بالصراع.
يتوغل الأدب في ملامسة الوجود الإنساني، بأدوات تلائم ماهيته الفنّية. إنّه تجربة إبداعية بضوابط دلالية ومقومات جمالية بنزوع رومانسي يُبْعدها عن واقع الإنسان المركّب ويُصيّرها متعالية عليه، وتقاوم أيّ نزعة عبثية تحجب عمقه الفكري كي تبرزه مجرّد لعب مفرغ القيمة. بهذا المعنى، فالأدب يتحدّد بوصفه كتابة تنويرية، كونه يضيءُ وجودًا إنسانيًا مؤطَّرًا بالتحوّل والتعقيد. بهذا المعنى، فإنّ وظيفة الكشف تمثل المضمر في كلّ عمل أدبي؛ أي رؤية المختلف فيه، وتجاوز سطحه نحو عمقه. إنه افتراض قد يوجّه القراءة الخصبة للأدب، فيتبدّى، بموجبها، مجالًا تعبيريًا لمعاينة عوالم إنسانية، عبْرَ تصور وتمثل توجّهُه البصيرة لا البصر، قصد استجلاء أبعادها الرمزية المختلفة؛ كما أبرزه حديث بورخيس (Jorge Luis Borges) عن تأثير الكتابة على تمثل العالم، فقال، وهو ضرير لا يبصر: «لقد رأيت لندن في مؤلفات ديكنز وتشسترتون Chesterton وستيفنسون Stevenson» (خورخي لويس بورخيس، متعة الأدب: حوارات في الكتابة والحياة، ترجمة: جوهر عبدالمولى، منشورات حياة، ط1، 2023م، ص 41).
ينهض الأدب بمهمّة إضاءة الوجود الإنساني في تحقّقه الجماعي والفردي. إنّه مجال فني دلالي يعضّد الوعي بالذات الإنسانية في كينونتها الفردية المركّبة، فيتراءى «أداة» لكشف المحتجب في أعماقها، بامتداداتها الفكرية والاجتماعية والنفسية. يتبدّى الأدبُ شاسعًا في مواضيعه، ويرسّخُ وعيًا يكشف المعتم في الكينونة البشرية، وحريصًا على فهم تركيبتها المدهشة. هكذا، بيّنَ الأدب، في مساره الطويل، أنّه «أداة» لإظهار الوجود الإنساني، عَبْر سلطة الخيال الخلاّق، بوصفه وسيطًا للتعبير. لذلك، ترسّخَ لدينا، من خلال الطبيعة النوعية للأدب، أنّ به نرى اللامرئي؛ أيْ بالخيال الأدبي نرى ما لا نقدر على رؤيته بالعين (حاسة البصر)، وندرك عمقه وماهيته.
يتراءى الأدبُ كاشفًا المتمنّع على التجلّي في الإنسان، متجاوزًا الانغلاق الدّال على ذات بشرية محدّدة في المكان والزمن. لهذا، فالأدب قد ينقاد، أثناء بناء النص، للتعبير عن ذات فردية، لكنها ذات تظلّ منشدّة، في امتلائها الرمزي المتعدّد، للإنسان في وجوده الممتد والعام. تلك فاعلية الأدب، والفنّ عامة، في إرساء طرق تعبير ممتلئة المعنى، تفضي مسارات تأمله نقديًا لاكتشاف عمقه المعرفي، وتشييد وعي بذات تستغرق عدّة ذوات إنسانية، لتقترن، عبر وشائج جمالية متنوعة، بـ«الإنسانية الشاملة»؛ على نحو ما أقرّه الأديب النمساوي الشهير ستيفان زفايغ، قائلًا: «كلّما أمعن المرء النظر في عمق صور رامبرانت وكتب دوستويفسكي رأى سرّ الأشكال الزمنية والروحية الأخير ينبثق متجلّيًا: إنّه الإنسانية الكليّة» (ستيفان تسفايج، بناة العالم: هولدرلن، دوستويفسكي، بلزاك، ديكنز، تولستوي، ستندال، كلاسيت، ترجمة: محمد جديد، دار المدى، بيروت - دمشق، ط3، 2015م، ص 236).
الصناعة الإبداعية
اقترن الأدب، إذًا، بالإنسان، وكشف الخفي في وجوده وكينونته. وما دام الإنسان معقدًا في تركيبته وعلاقاته وأفعاله...، فقد توسّل الأدب بفروع تعبير متعدّدة، تتراءى في أجناس متنوّعة وأنواع مختلفة، كي يلتقط واقعَ التعقيد الإنساني. كأنّ التفكير في الإنسان عَبْر الأدب، والفن عامة، يظلّ مرهونًا بامتلاك شروط الصناعة الإبداعية. إنّ التنصيص على البناء النوعي للأدب، عبر مقومات فنية ملازمة لوجوده ومُحدّدة لهويته، دليل على التعالق القويّ بين طرق تشييد العمل الأدبي وموضوعه. بهذا المعنى، لا يتحقّق الأدب بالتفكير في الظاهر والمباشر والعادي والمتداول، بل بملازمة الخرق واعتماد الابتكار، ويسمحُ بإضاءة عمق الوجود الإنساني، لذلك، فإنّ تجلّي الأدب يبقى مشروطًا، لزومًا، بوسيط جمالي وخيال خلاّق أسّهُ تجاوز المظاهر الحسيّة في الوجود الإنساني ■