النَّمِرُ العَرَبِيّ مُفْرَدةٌ حيَّةٌ تَأْبَى الغِيَاب

يتجاوز النمر - باعتباره رمزًا كونه مجرد حيوان بري - نظرًا لخصائصه الطبيعية وسلوكه المميز؛ إذ مكَّنته قوتُه، وقدرته على التخفي، وهيمنته في بيئته أن يَتَسَيَّد تلك البيئة، وأن تكون له الغلبة بين غيره من الحيوانات المفترسة، ومهما مُكِّن لدونه من الحيوانات في الأرض فجميعها أمامه تتراجع همَّتُها وتتقاصر قوَّتُها وتتضاءل هيبتُها؛ ما جعله رمزًا للقوة والغموض والنفوذ في العديد من الثقافات حول العالم.
وتتمثل قوة النمر في سماته الجسديَّة؛ حيث يُعد أحد أقوى الحيوانات المفترسة في البرية بعضلاته القوية، ومخالبه الحادة، وأسنانه التي تجعله صيادًا ماهرًا، فيستطيع سحب فريسة أكبر منه بأضعاف، ما عزز صورته رمزًا للقوة البدنية والقدرة على التحمل والهيمنة، ويأتي النمر في قمة الهرم الغذائي من قائمة الحيوانات المفترسة، ما يعني أنه لا يواجه أي تهديدات من الحيوانات الأخرى بشكل كبير.
ووُجدت الحيوانات الوحشية بما فيها النمور حول العالم في الغابات؛ حيث هيَّأ لها هذا الجو التنامي والتكاثر، وفي الجزيرة العربية نظرًا «لقلة الغابات فيها قلَّتْ حيواناتها الوحشية، وإن كان يوجد في جبالها النمر والضبع والذئب وابن آوي، كما يوجد في صحاريها الحمار الوحشي والنعام والغزلان، وبقر الوحش والظباء».
ومع وفرة بعض تلك الحيوانات بين الكثرة والقلة، فقد شهدت الجزيرة العربية تناقصًا وتراجعًا كبيرًا في وجود النمر العربي، على الرغم من تاريخه الكبير والممتد الذي عبقت به كتب التراث العربي؛ حيث مجّدت بطولاته وخلَّدت خطواته وذكرياته. وكما مارس النمر نفوذه بين الحيوانات المفترسة فإنه كذلك قد تصدَّر المشهد الثقافي العربي أيضًا منذ عصور العرب الأولى؛ حيث جاء في ثنايا أحاديثهم وأشعارهم وقصصهم البطولية، وتوارثتها العصور العربية؛ حتى بقيت صورته في أذهاننا أكثر رسوخًا.
إطْلالةٌ مُعْجَمِيَّة
أجمعت المعاجم اللغوية على أنّ النمر يتميز عن غيره من الحيوات بحزمة من الممكنات الجسدية والخلقية أو السلوكية، وقد صار يُشبَّه به كلّ (من) أو (ما) كان على شاكلته؛ فقالت العرب: «(نَمِرَ) - نَمَرًا، ونُمْرةً: كَانَ على شبْه النمر، وَهُوَ أَن تكون فِيهِ بقْعَةٌ بَيْضَاءُ وبقعة أُخْرَى على أَي لون كَانَ... و- وَفُلَانٌ: غضِبَ وساء خلُقه فَصَارَ كالنمر؛ لِأَنَّهُ لَا يُلفى إِلَّا غَضْبَانَ. فَهُوَ نمرٌ... (نَمَّرَ) فلَانٌ: غضِب وساء خُلُقُه وَ- وَجهَهُ: غَيَّره وعبَّسه. و- الشَّيْءَ: لَوَّنه بلون النَّمر. يُقَال بُرْدَةٌ مُنمَّرةٌ... (تَنَمَّرَ): تشبَّه بالنَّمر فِي لَونه أَو طبعه. وَيُقَال: تنمَّر لفُلَانٍ: تنكَّر لَهُ وأوعده. و- مدّد فِي صَوته عِنْد الْوَعيد. (الأَنْمَرُ): مَا فِيهِ نُمْرةٌ بَيْضَاء وَأُخْرَى على أَي لون كَانَ. يُقَال: فرسٌ أَنْمَرُ، وثوبٌ أنمرُ. وَهِي نَمْرَاءُ. (ج) نُمْرٌ. (المُنَمَّرُ): مَا فِيهِ نُقَطٌ سودٌ وَأُخْرَى بيضٌ».
«والأَنْمَرُ من الخيل: الذي على شِيَةِ النَّمِرِ، وهو أن تكون فيه بقعةٌ بيضاء وبقعةٌ أخرى على أيِّ لونٍ كان. والنَعَمُ النُمْرُ: التي فيها سوادٌ وبياض، جمع أَنْمَرَ. الأصمعيّ: تَنَمَّرَ له، أي تنكَّرَ له وتغيَّر وأوعده، لأنَّ النَمِرَ لا تلقاه أبدًا إلا متنكِّرًا غضبان. وقول الشاعر:
قَوْمٌ إِذَا لَبِسُوا الْحَدِي
دَ تَنَمَّرُوا حَلَقًا وَقِدّا
قَالَ ابنُ بَرِّيّ: والنَّمِرُ من أَنْكَرِ السِّباعِ وأَخْبَثِها، يُقَال: لَبِسَ فلانٌ لفلانٍ جِلْدَ النَّمِرِ، إِذا تَنَكَّرَ لَهُ، قَالَ: وَكَانَت مُلُوكُ الْعَرَب إِذا جَلَسَتْ لقَتْل إِنْسَان لَبِسَت جلودَ النَّمِر، ثمَّ أَمَرَتْ بقتلِ مَنْ تُرِيدُ قَتْلَه. (وسَمَّوْا نِمْرانَ، بِالْكَسْرِ)، ونُمَارَة، بالضمّ... (والأَنْمَارُ: خُطُوطٌ على قَوائمِ الثَّورِ)».
«يُقَال:ُ طيرٌ مُنمَّراتٌ وَبُرُدٌ مُنمَّرةٌ. (النَّامِرَةُ): حَدِيدَةٌ لَهَا كلاليب تُجْعَل فِيهَا لحْمَةٌ يُصاد بهَا الذِّئْب. (النَّامُورُ): الدَّمُ. (النَّمِرُ): حَيَوَانٌ مفترسٌ أرقط من الفصيلة السِّنَّورية ورتبة اللواحم. (النِّمْرُ): النَّمِرُ. (النَّمِرَةُ): أُنْثَى النَّمِر. و- القطعةُ من السَّحَاب المكون من قطعٍ صغَار متدانٍ بَعْضُهَا من بعض. (ج) نَمِرٌ. و- كسَاءٌ فِيهِ خطوطٌ بيضٌ وسودٌ. (ج) نِمار. و- النَّامِرَةُ». و«(الفَزَارَةُ): أُنْثَى النَّمِر. (الفِزْرُ): ابْنُ النَّمِر. وَ- ابْنُ البَبْر».
مِنْ أَسْمَاءِ النَّمِر
تعددت أسماء النمر، ومنها: الأَبْرَدُ، الأَرْقَطُ، الكَثْعَمُ. وجاء في العين، أنَّ «الضَّرْجَع: اسم من أسماء النَّمِر خاصّة»، وجاء أيضًا «العُسْبُر: النَّمِر، والأنثى بالهاء». ومن أسمائه السَّبَنْتَى، وهو «الجريء المُقدِم من كلّ شيء. والسَّبَنْتَى: النَّمِر»، ولعله يُطلق على الأسد أيضًا، وقد أنشد أبو عبيدة، والبيت للخنساء:
مَشْيَ السَّبَنْتَى إلى هَيْجَاءَ مُفْظِعَةٍ
لَهُ سلاحَانِ: أَنْيَابٌ وأَظْفَارُ
وقال ابنُ زيدون، يصف الأسد بالسبنتى:
وَلَئِنْ أَمسَيتُ مَحبُو سًا
يَلْبُدُ الوَرْدُ السَّبَنْتَى
فَلِلغَيْثِ اِحتِباسُ
وَلَهُ بَعدُ اِفتِرَاسُ
فِي وَصْفِ النَّمِر وَذِكْرِهِ وَرُؤيَتِهِ
قالوا عن النَّمِر: إنَّه «سَبعٌ أَخْبَثُ من الأَسَدِ. ويُقال للرَّجلِ السَّيىء الخُلُق: نَمِرٌ، وقد نَمِرَ وتَنَمَّرَ. ونَمَّر وَجْهَهُ، أي: غبّره وعَبَّسَهُ». «والنَّمِرُ من السِّباع لُونُه أَنْمَرُ»، ويُقال: «خَرَّ النَّمِرُ خريرًا، وخَرْخَرَ يُخَرْخِرُ خَرْخَرةً، ويُقال لصوته أيضًا: خَرير، وهَدِير وغَطِيط، و«فيه شبه من الأسد، إلا أنَّه أصغرُ منه، وهو منقط الجلد نقطًا سودًا وبيضًا».
وجاء في وصف طبائعه: أنَّه «أخبثُ من الأسدِ، لا يملكُ نفسَه عند الغضبِ حتى يبلغ من شدةِ غضبِــه أنْ يَقتـــلَ نفْسَهُ». ويقــول الجاحـــظ بعد أن عدَّدَ ضروبًا من العداوات: «وعداوة النمر للأسد والأسد للنمر مخالفة لجميع ما وصفنا»، ومن دلائل قوته ما ورد في معرض حديث الجاحظ عن فرس الأرض: «فإن كان فرس الأرض لا يقوى على الأسد ولا على النّمر ولا على البَبْر، فإن ابن عمّه وشكلَه في الجنس قد قوي على التّمســاح وهو رئيــس سكان الماء».
وقد حفلت كتب التراث العربي لا سيما نثر العرب وشعرهم بكثير من النماذج التي اتخذت من النَّمِر مثلًا ومُشبَّهًا به، في المكر والدهاء، والتنكر، والعداوة، ومنها قول امرئ القيس:
أحَبُّ إلَيْنَا من أُنَاسٍ بِقُنّةٍ
يَرُوحَ عَلى آثَارِ شَائِهِمُ النَّمِرْ
وجاء من «باب إظهارِ العداوةِ وكشفِها، قال أبو عبيدة: من أمثالهم في هذا قولهم: لَبستُ لَه جِلدَ النَّمِر».
وقال عمرو بن معد يكرب الزبيدي، وكان شاعرًا فارسًا سيدًا:
وَعَلِمْتُ أَنِّي يَوْمَ ذَا
قَومٌ إِذَا لَبِسُوا الحَدِيـ
كَ مُنازلٌ كَعْبًا ونَهْدًا
ـدَ تَنَمَّرُوا حَلَقًا وَقِدًّا
«والمراد بقوله: تنمروا أنهم تشبهوا بالنمور في أفعالهم في الحرب، أو أن الحلق والقد تختلف ألوانها اختلاف لون النمر».
ومما ورد من قول امرئ القيس في الإشارة إلى هيئة النمر:
لهَا مَتْنَتَانِ خَظَاتَا كمَا
أكَبّ عَلى سَاعِدَيْهِ النَّمِرْ
ومن التشبيه بعين النمر في اتقادها، ما جاء في قول المرار بن منقذ:
وعَظِيمِ المُلْكِ قد أَوْعَدَنِى
حَنِق قد وَقَدَتْ عَيْنَاهُ لِي
وأَتَتْنِي دُونَهُ منهُ النُّذُرْ
مثلَ ما وَقَّدَ عَيْنَيْهِ النَّمِرْ
ومما جاء في وصف أحد الشعراء لقوم قوله:
القومُ أمثالُ السّباعِ فانشَمرْ
فَمِنْهم الذّئبُ ومنهم النَّمِرْ
وجاء في تفسير الأحلام أن «لبن النمر إظهار عداوة»، وقد جاء أن «(النمر) يجري مجرى الأسد وهو أيضًا رجل فجور حقود كتوم لما في نفسه، مسلط خائن، وعدو ظاهر العداوة... والنمرة أيضًا تجري مجرى اللبؤة، ودخول النمر دخول رجل فاسق».
وبعد فإنَّ ما سبق هو بعض من سيرة النمر العربي الذي سيَّطر وتمكَّن وتسيَّد، واستطاع أن يحافظ على مكانته ومكانه بين الحيوانات المفترسة، وليس هذا فحسب بل إنَّه كما تمكَّن من ذلك استطاع أن يستحوذ على الذاكرة العربية، من معاجمها وأشعارها وقصصها وأمثالها ومعتقداتها، ومن أجل كل هذه الممكنات لم تتراخ الجهود العربية في محاولة الإبقاء على هذا الإِرث البيئي الذي صار مفردة حية ترفض الغياب.
الجهودُ العربيةُ والدوليةُ في الحافظِ على النَّمِر العربيّ
نظرًا لتراجع أعداد النمر بشكل حاد بسبب فقدان الموائل والصيد غير المشروع، بُذلت جهود عربية ودولية مكثفة للحفاظ على هذا الحيوان الفريد، منها على سبيل المثال، جهود دولة الإمارات العربية المتحدة في الحفاظ على النمر العربي من خلال، عدة مبادرات، منها تعاون هيئة البيئة – أبوظبي مع الصندوق العالمي لحماية الطبيعة؛ لتنفيذ عدة برامج للحفاظ على النمر العربي في جبال الحجر، كما شملت تلك البرامج مراقبة ورصد النمور، ودراسة تأثير الأنشطة البشرية في مواطنها، وتوعية المجتمع المحلي بأهمية الحفاظ على هذا النوع المهدد. ومن تلك الجهود أيضًا تأتي (محمية وادي الوريعة)، بهدف توفير موطن آمن للنمر العربي وتعزيز برامج التوعية البيئية حول أهمية الحفاظ على التنوع البيولوجي، كما يتم تنفيذ برامج للحفاظ على النظام البيئي الطبيعي وتحسين ظروف الحياة للنمر العربي.
وعلى المستوى المؤسسي العربي أيضًا «يرعى صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، أنشطة جمعية النمر العربي التي تتخذ من متحف التاريخ الطبيعي بالشارقة مقرًا لها، وتهتم بالحفاظ على هذا الحيوان النادر المهدد بالانقراض والذي يقتصر وجوده في الإمارات على سلسلة الجبال الممتدة من رأس الخيمة في الشمال الشرقي إلى حتا في الجنوب الغربي».
هذا بالإضافة إلى بعض الجهود العربية الأخرى، كما في المملكة العربية السعودية، وسلطنة عمان، واليمن، ويأتي على مستوى التعاون الإقليمي والدولي، اتفاقيات التعاون بين الدول العربية والمنظمات الدولية مثل الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة، والصندوق العالمي للطبيعة؛ لتعزيز جهود الحفاظ على النمر العربي، وتسهم البحوث والدراسات المشتركة، حول النمر العربي وموائله الطبيعية في تحسين استراتيجيات الحفاظ عليه ■