البستان

بستان بلا أسوار... على حافة نهر جارٍ، عند سهل جبلي، ترعاه الذئاب والعقارب، وقليل من الحياة. في القلب منه... شجرة «تفاح» لا تثمر. وقف «سفيان» وبكفيّه الفأس، يتصبب عرقًا، وشرع في اجتثاث الشجرة، قبل أن ينتبه المارّة على الضفة الأخرى، أو حتى جدّه إلى خطيئته البكر.
كانت زوجه «صفيّة» تدرك تمامًا مدى سوء المصير الذي ينتظرها؛ إن هو اقتلع «التفاحة» قبل أن تثمر، فالأشجار العقيمة لا مكان لها في بستان سفيان... وقطعًا كذلك هي!
وما بوسعها أن تفعل...! وقد جربت كل الوصفات الشعبية، حتى الاغتسال (بغُسل الميت)، أو ابتلاع عصافير حية، بعد دهنها بالعسل، لتنزل في جوفها، تنقر حتى الموت... وأيضًا ذهابها إلى المدافن؛ كي يستخرج لها حفّار المقبرة، جثة طفل لم يتحلل بعد؛ لتنظر إليه، والدود المائل للون الأصفر، برؤوس سوداء، ترعى في أعضائه الصغيرة! ولم تُقصر يومًا في زيارة الأضرحة والمقامات، ونذر النذور... من أجل أن تنجب له خليفة، لهذا البستان... (عطيّة جدّه) بعد مقتل والديّه، دفاعًا عنه، حين هجم لصوص من الجبل ليلًا، ولم يتركوا بشرًا ولا زرعًا إلا أبادوه، سوى سفيان الذي كان في مهده نائمًا، فـ(المطاريد) لا تروع الصغار... وحملوا كل ما وجدوه، وعادوا من حيث جاءوا.
ولما جاء الصبح، ونظر الجدّ من نافذة قصره المنيف، المطلّ على البستان، والذي لا يفرق بينهما سوى النهر، ركب (العبّارة) إلى البستان، ليجد كل شيء قد انتهى... وجثة ابنه وامرأته عند شجرة التفاح، التي استبقاها (المطاريد) لتظلّ شاهدًا على المأساة. وكان صوت بكاء سفيان خافتًا تارة، ومدويًا أخرى... من شدة الجوع.
فأخذ حفيده بين يديه، وعاد به إلى القصر، حيث تربى سفيان تحت عين جدّه، ولمّا بلغ أشدّه، زوّجه من صفيّة... والتي لم تكن غير طفلة لقيطة، وجدها يومًا في حوزة (مطاريد الجبل) بعد أن أغار عليهم؛ لمقتل ابنه وحليلته، فقتل منهم ما شاء... وفرّ الباقون إلى كهوف جبال بعيدة عن البستان.
أعاد الجدّ «سفيان» إلى بستانه؛ ليخدم فيه برفقة زوجه صفيّة، التي تعرف ماضيها جيدًا، فقد حكت لها قصّتها، إحدى العجائز في القصر. عندما كانت تحتضر، ولم تجد سوى صفيّة تبلل ريقها بقطرات من ماء النهر... فشكرت لها ذلك، وصارحتها بأصلها، على أن تعاهدها بحفظ السرّ حتى عن زوجها. وتلك كانت وصيّة من يسلم الروح... والوفاء بها واجب!
وكل ذلك لم يكن ليعلمه سفيان، الذي قيل له... بأنها ابنة أحد أقاربهم، وتربت في القصر كغيرها الكثير. وحتى ثأر جدّه من قتلة أبيه وأمّه لم يخبره به. أمور كثيرة كانت تخفى عليه...! وظلّ في عمله بالبستان، وعند المساء، يجلس إلى صفية، فيسمعان من خلفهما عواء الذئاب، ومن أمامهما أضواء القصر، تنير مياه النهر.
مضى الوقت... من دون ذريّة، وجدّه يراقب كلّ شيء، ولا يريد أن يتدخل، فقط يكتفي بجمع محصول البستان، ويعطيه وزوجه، ما يكفي لمؤونة العيش.
ملّ سفيان حياته، وهمّ بقطع الشجرة، التي ارتوت قبل سنوات بدماء أبويّه، وحنّ لأخذ الثأر، ولكن ليس من (مطاريد الجبل) بل من جدّه!
فلولا طرد والده من القصر، والحكم عليه بحياة السخرة في هذا البستان، بعيدًا عن نعمائه، التي لا تنتهي، لما نال أبواه هذا المصير المشؤوم... وعقد العزم على الخلاص.
هنا بصرتْ «صفيّة» بما بصرت. فنادت عليه... بأن الغربان تحوم حول جِيفة عند سفح الجبل، الذي لا يبعد كثيرًا عنهما، فتنبه سفيان... ومضى إلى حيث أشارت... بيد أنه لم يعد!
وظلت صفيّة، عبثًا... ترقب مجيئه! وما لبثت عقب غيابه إلا قليلًا، حتى شعرت ببوادر (وحم) إلى ثمار تفاحة... لم تثمر بعد، في بستان سفيان... والجدّ يرقب ما يجري، ويبتسم! ■