أم كلثوم صور وألقاب

رغم كثرة الحوارات الصحفية والتلفزيونية التي أجريت مع أم كلثوم، إلا أننا لا نعرف الكثير عن حياتها الخاصة، فأم كلثوم ريفية، والريفيون لا يبيحون حياتهم الخاصة بسهولة؛ فقيمة الستر واحدة من القيم الأصيلة التي تتحكم في كثير من سلوكهم، وما نعرفه عن حياتها أغلبه من العموميات المعروفة بالضرورة عن مكابدات الريفيين مطالع القرن الماضي والنساء منهم خاصة... كانت أم كلثوم حريصة على عدم ابتذال حياتها الخاصة، وأصرّت باستمرار على التمييز بين الخاص والعام، فلا تُدخل هذا في ذاك.
واللافت أن جمهورها انشغل - مع الوقت - بأغانيها عن سيرتها، وخلق سردية حول هذه الأغاني وما يتناثر حولها من حكايات، وما يحكم اختياراتها من مبادئ، وما تجريه على النصوص والألحان من تعديل، فانساب خاص أم كلثوم غير المتاح في عام أم كلثوم المتاح، وغدت حياتها «سيرة غنائية» محكية، فيها من الخيال بقدر ما فيها من الحقيقة... سيرة تتناول محطات نبوغها، وتتابع بداياتها الأولى مع التواشيح، ورحلتها مع مشايخ التلحين وما رافق هذه البدايات من صعوبات وتحديات، وما أعقب ذلك من حضور طاغٍ حتى أصبحت «سيدة الغناء العربي».
ومن هنا، كانت الصورة الذهنية لأم كلثوم لدى جمهورها صورة صوتية بالأساس، تتصل بعلاقته الوجدانية مع هذا الصوت «الذي يمتد على ست عشرة درجة نغمية» (شريف صالح: مجانين الست)... هذا الصوت الذي ازدهرت قدراته وتبلورت هويته الفائقة عبر ارتباطه بنخبة استثنائية من الموسيقيين والكُتاب والشعراء والصحفيين والسياسيين، كانوا دعائم (النموذج الغنائي) الجديد الذي يجسده صوت أم كلثوم... بل إن مواقف أم كلثوم الاجتماعية والإنسانية ومبادراتها الوطنية تُعزِّز مباشرة صورتها الصوتية؛ إذ تفتح لها آفاقًا رحبة في نفوس جمهورها، باعتبارها - أي المواقف - جزءًا من همومهم وطموحهم الفردي والجمعي... فكان الغناء - ربما للمرة الأولى - تعاونًا على الجمال، وتعاونًا على محن الحياة وهمومها في الوقت نفسه، كان أخذًا وردًّا من المطرب إلى جمهوره، ومن الجمهور إلى مطربه.
نحن نتكلم عن مستوى من التفاعل والتناغم غير المسبوق، الأمر الذي مكّن أم كلثوم على مدار عقود متصلة من عمرها الغنائي من (استمالة) جمهورها والتمتع بتقديره... والاستمالة - كما هو معلوم - غاية كل خطاب، والغناء خطاب جماليّ حيّ، ومن المهم أن نتعامل معه بهذا الاعتبار.
(هامش: من الممكن هنا مقاربة أصوات الجمهور، ورصد تعليقاتهم وانفعالاتهم، في الحفلات المختلفة للأغنية الواحدة، ورصد تفاعل أم كلثوم مع جمهورها ومدى تجاوبها معهم، وهو ما يميز بعض الحفلات عن بعضها الآخر... جمهور أم كلثوم جزء من بهائها بلا شك).
وحين انتشرت الصورة الفوتوغرافية، في وقتٍ لاحق، وطُبعت صور أم كلثوم على نطاق واسع لحاجات الدعاية، كانت صورها منسجمة مع المزاج العام؛ فلا توجد صورة واحدة لأم كلثوم - حتى في أوقات الفراغ والاسترخاء على شاطئ البحر- يمكنها التأثير سلبًا على رأي جمهورها، على اختلاف طبقاته وشرائحه.. فهي تشترط - طبقًا لحديثها مع محمود عوض - ثلاثة أمور في الفستان الذي ستظهر به: الأناقة والحشمة والبساطة، وبتلك الصورة المقنعة أو التي يرضى بها الجميع تمكنت من تقديم الأغنية العاطفية التي تتناول الحب والغرام، والأغنية الوطنية التي تدعم نضال الأوطان، والأغنية الدينية التي تترنم بسبحات الطائعين ودموع التائبين والطائفين.
كانت أم كلثوم مقبولة في هذا ومقنعة في ذاك.. ومن المعروف أن المتلقي - كما يقول منظرو الحجاج - لا يُسلِّم عقله أو وجدانه إلا لمن يثق في صدقه وإخلاصه وإتقانه... لقد آمن بها جمهورها واقتنع بما تمثله، ومن ثم فقد تركّز اهتمامه على صوتها وشدوها واختياراتها وتابع باهتمام غير مسبوق تطوراتها الغنائية وانتقالاتها الفنية.
ألقاب أم كلثوم
لا يمكننا فهم الألقاب التي حظيت بها أم كلثوم بمعزل عن علاقتها الطويلة والممتدة بينها وبين جمهورها، فلم تحظ أم كلثوم بلقب واحد، ولكنها حظيت بأكثر من لقب، ألقاب تتتابع وتترادف، تحاول الإحاطة بالظاهرة من جهة، وتحاول من جهة أخرى استيعاب تقدير الناس وتفاعلهم مع مطربتهم... فألقاب أم كلثوم ذات صبغة تفاعلية، فيها استعارات الجمهور ومبالغاته الحسنة، فهي: «كوكب الشرق»، و«الست»، و«ثومة» و«قيثارة السماء»، و«معجزة الغناء العربي» و«الأسطورة»... إلخ.
وهذا التنوع في الألقاب فيه قدر كبير من التقدير، وفيه أيضًا انصهار أفق المستمع بأفق المطرب... وهكذا هي الألقاب ذات الطابع الجماهيري، تتحصن بالعاطفة والمجاز والتواصل الفياض: من الجمهور إلى الفنان، ومن الفنان إلى جمهوره، ومن الجمهور إلى غيره من المستمعين الذين لم يستمعوا إلى مطربهم بعد...
والألقاب ــ كما هو معلوم ــ لا تشير إلى مدلولها فحسب، ولكنها تقوم بوظيفة إشهارية واضحة لما يمثله صاحب اللقب من حضور اجتماعي، وحين تتخذ هذه الدلالة الإطلاقية فهذا يعني أنها تنطوي على دلالة تنافسية ما؛ فقد عرف الغناء كثيرًا من المطربات قبل أم كلثوم وبعدها، ولكنها - وحدها - ظلت «كوكب الشرق» منذ أن قرر جمهورها من المحيط إلى الخليج أن يمنحها هذه المكانة التي لم يزعمها أحد من قبل، ولم ينازعها فيها أحد من بعد.
ومن زاوية أخرى، فإن كل لقب يفتح أفقًا جديدًا للملقب به، اللقب ليس مجرد عملية تمييز عادية، أو مجرد تعريف بالهوية الشخصية على نحو ما يجري به التداول. اللقب صعود بالهوية الفردية إلى أفق ثقافي رحب، أفق جماعي، ينتقل بصاحبه من مدارات الفرد وانشغالاته اليومية العابرة إلى أنساق الثقافة، وطبقاتها البعيدة، بل يصعد به إلى خيال الجمهور وأفق انتظاره الرحيب.
يقوم اللقب بوظيفة دقيقة - خاصة حين يُشحن بدلالات المجاز- تتمثل في رعاية الموهبة، وإفساح الطريق أمامها لتتقدم وتزدهر... اللقب هنا فيه قدر كبير من معنى التكليف ودقة المتابعة، فكل خطوة يخطوها حامل اللقب مقدرة اجتماعيًا، وكل خطوة يجب أن يتبعها ما هو أهم منها، لتشرق الموهبة على كل النفوس وعلى كل الأماكن.
بعبارة أخرى، الألقاب في هذا السياق، جزء من رعاية المجتمع وتقدير الجمهور لمواهب أفراده، وعلى أم كلثوم إذن أن تكون جديرة بكل ما يخلعه عليها جمهورها من ألقاب، وما أثمن خُلَع الجمهور حين يكون المقام مقام علاقة حرة بين منتج الفن ومتلقيه، علاقة تقوم على الثقة والإيمان بقوة الموهبة وقدرتها على الانتقال من فضاء إبداعي إلى فضاء أوسع وأرحب... فالجمهور يلاحق أم كلثوم بالألقاب وأم كلثوم بدورها تتحرر من هويتها الشخصية الضيقة التي تدل عليها بطاقة هويتها التي تشير إلى اسم محدد: «أم كلثوم إبراهيم البلتاجي»، وزمن محدد (1875م - 1898م) ومكان محدد: «طماي الزهايرة».
لقد تجاوزت أم كلثوم الانتساب إلى الأماكن والأزمان والهوية المحدودة، وباتت بإطلاق - يثير التأمل - «كوكب الشرق» كل الشرق، بما ينطوي عليه من دلالات البداية والميلاد والوضوح... واستدعت المخزون الشعبي القديم الذي يرتقي بالمرأة إلى مقام الأسطوري والمقدس، فهي: «الست» بكل ما في هذا اللقب من حمولة نورانية تتوالى طبقاتها في الوعي المصري القديم من إيزيس إلى دوائر الإيمان المسيحي والإسلامي، لتغدو في اللقب الأخير «قيثارة السماء» أو المنحة الإلهية التي فاءت بها السماء على الناطقين باللغة العربية من المحيط إلى الخليج، وعلى القادرين على تذوق الموسيقا العربية في أي مكان في العالم.
لا يمكننا فهم هذا الفيض من الألقاب بمعزل عن الروح الرومانسية التي هيمنت على السياقين الثقافي والاجتماعي مطالع القرن الماضي، تلك الروح التي تنطوي على تقدير كبير لمكانة الفرد وعبقريته التي بمقدروها - وفق هذا النظر- إنجاز الكثير، ومن هنا نفهم كثرة الألقاب في تلك الحقبة، فأحمد شوقي هو أمير الشعراء، وطه حسين هو عميد الأدب العربي، وحافظ إبراهيم هو شاعر النيل، وخليل مطران شاعر القطرين، وسعد زغلول زعيم الأمة... إلخ.
وبجوار هذا العالم من الألقاب التي تؤكد التفرد والهيمنة على حقل أو مجال بعينه، سنجد حضورًا ملحوظًا للعلامات غير اللغوية الذاتية التي تتبدى في قطع الملابس التي يحرص نجوم هذه الفترة على الظهور بها وتمييز أنفسهم عن نظرائهم، على نحو ما نجد مثلا في كوفية العقاد، وعصا الحكيم، ونظارة طه حسين السوداء... إلخ.
وأم كلثوم - شأنها شأن نجوم هذا الزمان - اتخذت لنفسها أكثر من علامة ذاتية، فلم تكتف بما منحه لها الجمهور وكبار المستمعين من الطبقة المثقفة من ألقاب، ولكنها - بالإضافة إلى ذلك - خلقت أكثر من علامة ذاتية حرصت على إبرازها في اللحظة الفريدة التي يتسلط عليها الضوء، لحظة وقوفها على المسرح: كتسريحة شعرها الثابتة، والمنديل الحريري الذي اكتسب صيتًا واسعًا، والنظارة السوداء التي تغطي عينيها، وبصرف النظر عن اضطرارها إلى علامتي المنديل والنظارة لأسباب صحية فيما يرى البعض، إلا أنهما مع الوقت أصبحتا جزءًا من صورتها التي تؤكد تفردها وامتيازها.
تنوير أم كلثوم
وإذا كانت الأغنية - عند أم كلثوم - خطابًا، فإن هذا الخطاب جزء لا ينفصل عن السياق التاريخي والاجتماعي، والأهم أنه جزء من وعي أم كلثوم وتفاعلها مع هذا السياق، ويمكننا الحديث عن دوائر وعي واضحة لديها، وهي: الدائرة المصرية والعربية والإسلامية (أحمد يوسف: أم كلثوم الشعر والغناء)، وطبقًا لهذا الوعي كانت تختار أغانيها من عيون الشعر القديم والمعاصر: من محمد إقبال وعمر الخيام إلى «أبو فراس الحمداني» وكمال الدين بن النبيه المصري، وأحمد شوقي وأحمد رامي وبيرم التونسي ومأمون الشناوي... إلخ. وهي بهذا التواصل العميق تمكنت من ربط جمهورها بدوائر انتمائه المعرفية والجمالية والدينية، وتمكنت - بنعومة الموسيقا وجمالية الكلمات - من إنجاز الوصل التنويري بطابعه المدني الفريد، فلا تعارض بين قيم التراث وقيم المعاصرة، بل لا تعارض بين الوطنية والقومية وامتداداتهما الإنسانية في أفقها الرحب.
ولعلك لو تأملت قليلاً لرأيت أن هذه المصالحة الفذة بين الدوائر المتعددة للوعي المصري والعربي التي نجح فيها الغناء هي ما عجزت عنه مؤسسات أخرى وأسماء عظيمة الحضور في تلك الحقبة، هذه المصالحة جوهر مشروع التنوير العربي الذي تراجعت وعوده بداية من النصف الثاني من القرن العشرين، حتى وجدنا علمًا مثل طه حسين يودعنا «بكثير من الألم وقليل من الأمل» بعد أن رأى إخفاق مشروع التنوير أو على الأقل تراجع تأثيره. (غالي شكري: ماذا بقي من طه حسين).
ولا يعود ذلك النجاح إلى «بهجة الغناء» أو «بهجة التنوير» الكلثومي، بقدر ما يعود بالأساس إلى تلك الروح الفريدة التي تمتعت بها أم كلثوم، ووعيها بطبقات الهوية، وإصرارها على خلق نموذج تنويري «تصالحي» أو لا تتعارض فيه هذه الطبقات، فلم تخضع للنموذج الغنائي الهابط الذي كان سائدًا في عشرينيات القرن الماضي، ولم تتماه مع الروح التغريبية التي انغمست فيها الطبقة العليا، بأغانيها ولغتها وعاداتها، ولكنها ناضلت من أجل نموذج إبداعي خاص، لا يتجاهل قيم المجتمع، ولا عقائد الجمهور، وفي الوقت نفسه يستفيد منجزات الحداثة ويتطور معها.
لقد تمكنت أم كلثوم مع الوقت من خلق (نموذجها) الوجداني والجمالي الحداثي الفريد الذي ينطق بلساننا ويعبر عن وجداننا ويتصالح فيه حاضرنا مع ماضينا، ويتصالح فيه هذا وذاك مع قيم العصر وروح الإنسانية الرحبة... ولنا أن نعد أم كلثوم، من هذه الزاوية، أحد كبار التنويريين في عالمنا المعاصر، وليس من الحكمة تجاهل هذا الدور الذي قامت به، بل ليس من الحكمة تجاهل دور الغناء التنويري في تلك الفترة بشكل عام.
العابر والمقيم
كانت أم كلثوم - بتعبير النقاد الاجتماعيين - علامة إنتاج جمالي، وكل إنتاج يرتبط بالضرورة بحاجات المجتمع، ولذا كانت جزءًا من تحولات المجتمع، في حقبتيه الكبيرتين: الملكية والجمهورية، وظلت - رغم التحولات السياسية - جزءًا من الوعي الجمالي واللغوي والقومي النامي... ظلت جزءًا من الباقي وليس العابر، من طاقة التنوير التي يحتاجها المجتمع بصرف النظر عن نوع السلطة الحاكمة إيديولوجيتها، ومن ثم كان الجميع في حاجة إلى صوت أم كلثوم الذي يتعالى بجمالياته الفريدة عن انتماءات السياسة وتقلباتها، وكانت هي في حاجة إلى جمهورها ومسرحها الذي ستشدو فوقه، وترسل خطابها إلى الناس.
لقد اختصرت أم كلثوم عقودًا من الغناء واختصر معها موسيقيوها عقودًا من التطوير، وقدم الجميع رفقة موهبتها الاستثنائية إنتاجًا جماليًّا فريدًا، لا يناوئ تراثه، ولا ينفصل عن حاضره، ولا ينطق بغير لسانه... والأهم أنهم أعادوا إلى عالم الفن تقديره واحترامه، وإلى الفنان مكانته وهيبته، فانتقل المطرب من عالم البارات والمقاهي ودنيا السكارى، إلى المسارح الفخمة التي ينتظره فيها جمهوره، وهو يتطلع إلى الستارة الحمراء الفخمة التي سوف تفتح بعد قليل عقب ثلاث دقات متتالية، أقرب ما تكون إلى الطقس، لتطل بعدها أم كلثوم ومن خلفها فرقتها، يستقبلها جمهورها بالتصفيق ثم يجلس الجميع منصتين، بعد أن يبتعد عنهم الضوء، ويتركز على وجه «كوكب الشرق» وهي تشدو فوق خشبة المسرح.
هذه الهيبة وذلك الاحترام كان حلم الفتى الفاذّ محمد عبدالوهاب في عشرينيات القرن الماضي... والعجيب - ونحن لم نزل في دنيا الفن- أن الأدب الروائي كان في حاجة أيضًا إلى مثل هذه المكانة، ونحن نتذكر كيف خجل الدكتور هيكل من وضع اسمه على روايته «زينب» وآثر الاختباء خلف قناع «فلاح مصري»... حتى جاء نجيب محفوظ، ومنح الرواية الاحترام اللائق بها... وعلى مستوى الدور والنقلة يلتقي محفوظ بأم كلثوم...!
رحلت أم كلثوم عام 1975م، وهي لحظة فارقة بين زمنين: زمن الإنتاج الجمالي وزمن الاستهلاك العابر، زمن الألقاب الضخمة التي حمل عبئها هذا الجيل وحاول كل فرد أن يكون جديرًا بلقبه... كان رحيل أم كلثوم فاصلاً بين زمن الامتياز الفردي وزمن الجموع العادية، واللافت أن رحيلها تزامن مع رحيل الكبار في مختلف المجالات: فقد سبقها العقاد والنحاس وطلعت حرب وطه حسين، وبعدها بسنوات ترجل الشيخ مصطفى إسماعيل وتوفيق الحكيم... رحلت أم كلثوم قبل خمسين عامًا، وبقي فنها صادحًا رغم هذا الزمن الطويل، ولعلك تتفق معي في قدرته على البقاء لأزمنة أخرى، فهذا فن يحمل طابع الخلود ■