السينما المغربية وتصوير اللامرئي من سينما المدينة إلى سينما الجبل

حين تفكر السينما، في المعنى العام، في ذاتها تبني عوالم تخييلية هائلة، بحيث تتجاوز تصوير المرئي للبحث عن تصوير اللامرئي على حد تعبير الناقد والسينمائي الفرنسي جان-لوك غودار. ذلك الإحساس القوي الذي يعتمل في الشخصيات الفيلمية ولا يمكن التعبير عنه إلا من خلال انفعالاتها اللامتناهية التي تسعى الكاميرا للقبض عليها من مختلف زوايا التصوير.
إن السينما، ونقصد بها هنا تحديدًا السينما التعبيرية الطلائعية هي وحدها القادرة على فعل ذلك. إنها تتجاوز تصوير كل ما هو خارجي كما هو الشأن في عملية التصوير المتعلق بفضاءات المدن تحديدًا، لتذهب بعيدًا في الصعود إلى الجبل، باعتباره فضاء لامتناهيًا، الصاعد إليه مفقود والنازل منه مولود، وهي حين تقوم بذلك، فهي تحاول المزج بين فضاء الجسد والروح، وبالتالي فإنها تلج إلى محاولة تصوير منطقة الأعماق، منطقة الإحساس بالكيان الإنساني وهو يلتقي بالمجال الطبيعي في علوه وسموه إحساسًا وتجسيدًا، تعبيرًا وتخييلًا.
من هنا سعينا لمقاربة هذه العلاقة المتوترة القوية بين السينما والرغبة في القبض على ما لا يقبض عليه، الرغبة في القبض على الإنسان وهو يعيش في المغارات الجبلية ويلتقي بعوالمه الباطنية، عوالم التصوف والرغبة في الانعزال والغوص في كُليانية المحبة العميقة. وذلك من خلال مجموعة من الأفلام المغربية «جارات أبي موسى» و«جبل موسى» و«الثلث الخالي» وغيرها.
في البداية، وكما هو معلوم لدى المهتمين بالمجال السينمائي، أن السينما العالمية قد ولدت في رحاب المدن، وأن الأخوين أوغست ولويس لوميير، قد حرصا على تصوير كل ما هو يمت إلى عالم المدينة، كما نجد في المشاهد المخصصة للعمال، بحيث تحرص الكاميرا على تسجيل هذه اللحظات بدقة توثيقية كبيرة. ثم لا يمكن أن ننسى لحظة تصوير القطار وهو يسير في السكة، بحيث أرعب هذا المشهد السينمائي عامة المشاهدين وجعلهم يعتقدون أن القطار الماثل أمام أعينهم على الشاشة هو قطار حقيقي قد يقوم بدهسهم في أية لحظة. هكذا نرى أن السينما وهي تولد في عالم المدينة، ظلت مرتبطة في عملية نموها وتطورها بالمجال التكنولوجي الذي كان سببًا في وجودها، وهي بذلك تعتبر ابنة شرعية له.
طبعًا العديد من الأفلام السينمائية العالمية ارتبطت بالمدن وبفضاءاتها وحتى الشخصيات الفيلمية التي قدمتها كانت تنتمي إلى هذه الفضاءات، بل إن هذه السينما قد ارتبطت حتى في جمالياتها التعبيرية بعملية تصوير لهذه الفضاءات من مختلف الزوايا، وأهم فيلم في نظرنا يجسد هذه العلاقة القوية بين السينما والمدينة هو فيلم شارلي شابلن «الأزمنة الحديثة». فيما كانت تركز أفلام الويسترن على جعل فضاءات الجبال كواجهة ديكور لقصصها الفيلمية وبالتالي ظل فيها فضاء الجبل فضاءًا خارجيًا ولا يشكل في الغالبية منها عاملًا فاعلًا في سيرورة الأحداث بتعبير أ- جوليان غريماس.
هكذا وُلدت السينما في رحاب المدينة، وهكذا سعت إلى تصوير فضاءاتها المختلفة والمتنوعة واهتمت بشخصياتها، سواء أثناء عملهم أو حتى أثناء مرورهم في الشوارع. وتبعًا لذلك، فإنّ السينما بعد عملية ازدهارها وانتشارها في العالم كله وجدت نفسها، وكأنها تعيد تاريخ بداياتها الأولى في المناطق الجديدة من العالم التي وصلت إليه.
لم نقف بالتحديد عند بدايات السينما المغربية بالمفهوم المتداول الذي يربطها تارة بأفلام السينمائي محمد عصفور وتارة يربطها بداياتها الفعلية بأفلام كل من السينمائيين، حميد بناني «وشمة»، وأحمد المعنوني «السراب»، ومؤمن السميحي «الشركي»، وغيرها من الأفلام السينمائية الأخرى، ذلك أن هذه الأفلام السينمائية تراوحت فضاءاتها وانتماء شخصياتها الفيلمية بين فضاءات البادية، سواء حضر فيها الجبل أم يحضر، وبين فضاءات المدينة على اختلاف تجلياتها المتنوعة.
فضاء المدينة
لكن ما يمكن الوقوف عنده هنا أن السينما المغربية قد ارتبطت ارتباطًا قويًا بمختلف فضاءات المدينة وبشكل قوي مع ظهور جيل سينمائي مغربي ارتبط بها ارتباطًا عميقًا. هكذا ظهرت أفلام سينمائية ركزت على الحياة في المدن واحتلت مدينة الدار البيضاء فيها موقعًا كبيرًا، يمكن الإشارة إلى بعضها على سبيل التمثيل لا الحصر، وهي «حلاق درب الفقراء» لمحمد الركاب، وثلاثية عبد القادر لقطع «حب في الجار البيضاء» و«بيضاوة» و«الباب المسدود»، وكان لوقع فيلمه «حب في الدار البيضاء» صدى كبير دفع كثيرًا من المبدعين السينمائيين إلى تقديم مقاربة سينمائية جديدة وبرؤية إخراجية مختلفة لعلاقة السينما بالمدينة، وهو أمر إيجابي بحيث جعل سينما المدينة تعود من جديد إلى الواجهة السينمائية المغربية، حيث شكلت ثلاثية المخرج مصطفى الدرقاوي حدثًا سينمائيًا مهمًا، واستطاعت أفلامه السينمائية أن تحدث خلخلة في هذا المجال، وهي أفلام قاربت بعض أهم القضايا التي يمكن أن تقع في فضاء المدن، لاسيما فضاء المدن الكبرى، مثل مدينة الدار البيضاء، وتتكون هذه الثلاثية السينمائية التي أنجزها هذا المخرج المغربي الكبير من «غراميات الحاج الصولدي»، و«كازا باي نايت»، و«كازا داي لايت».
وفي مبادرة أخرى أثارت في وقتها كثيرًا من المداد، كما سبق لنا الحديث عنها في دراسة سابقة، لجأ المخرج نور الدين لخماري إلى تقديم فضاء مدينة الدار البيضاء في شكل مختلف عما ورد في الفيلمين السابقين، بحيث تحولت المدينة حتى على مستوى عنوان الفيلم السينمائي الذي قدمه من «كازابلانكا» أي «الدار البيضاء» إلى «كازانيكرا» أي الدار السوداء، أي أنه إنما كان يسعى إلى تقديم ما يعتبره الوجه الآخر لمدينة الدار البيضاء. الوجه الأسود، حيث المشكلات، وحيث الوضع الصعب الذي قد يعيشه بعض من أهلها. وهو ما جعل فيلمه هذا يسير في إطار الواقعية السينمائية على خطى ما فعله المخرج الأمريكي سكورسيزي في أفلامه السينمائية التي قدمها عن مدينة نيويورك. ونظرًا إلى نجاح فيلم نور الدين لخماري هذا، وفق منظوره السينمائي المختلف، نراه وقد حاول السير وفقه مع الرغبة والحرص على التجديد في فيلمه الآخر «زيرو»، الذي هو في شكل من الأشكال يكاد يشكل جزءًا ثانيًا من مشروعه السينمائي الفني حول مدينة الدار البيضاء، ثم من بعده فيلمه الأخير الذي اختتم به هذه الثلاثية البيضاوية والذي حمل عنوان «بورن أوت».
بعد هذا الحضور الطاغي لسينما المدينة داخل الفيلموغرافية المغربية، سنجد أن بعض السينمائيين المغاربة القدامى منهم أو الجدد قد انتهبوا إلى ضرورة الاهتمام بسينما أخرى غير هده السينما. فما كان منهم وطبعًا وفقًا لتصوراتهم السينمائية الفكرية والجمالية إلا أن التجأوا إلى ما يمكن أن نطلق عليه «سينما الجبل»، بحيث لا يصبح فضاء الجبل فيها مجرد فضاء خارجي للعملية الجمالية الخارجية، بل يتحول فيها هذا الفضاء إلى فضاء داخلي عميق مرتبط برؤية الشخصيات إلى العالم المحيط بها. هكذا يتحول الجبل من فضاء للديكور الخارجي الذي يؤثث فضاء الفيلم السينمائي ككل إلى عنصر فعال أو بتعبير أ- جوليان غريماس إلى عامل أساسي في سيرورة الحدث الفيلمي الكلي وعملية تناميه.
ومن بين الأعمال السينمائية القوية التي اتخذت من فضاء الجبل بؤرة حبكتها وجعلت منه فضاءً عاملاً في مُجريات القصة الفيلمية فيها، نجد فيلم «جبل موسى» للمخرج السينمائي المغربي إدريس المريني.
منذ البداية، أي منذ عنوان هذا الفيلم يحضر الجبل بقوة، بحيث يحتل المكانة الأولى فيه، وهو ينسب إلى اسم علم هو «موسى»، بحيث يبدو للوهلة الأولى فضاء معرفًا لدى المتلقي، وتحديدًا متلقي الملصق، بحيث نجد صورة الملصق تحتوي في خلفيتها على امتداد فضائي للجبل، وهو يحيط بالشخصيتين الرئيسيتين للفيلم وإحداهما تنظر إلى السماء وهي ترفع رأسها نحو الأعلى والأخرى، الشخصية المقعدة تنظر إلى الأسفل، إلى كل جنبات هذا الفضاء الجبلي الذي احتواهما معًا، وهما يتربعان على قمته. إن الفضاء الجبلي هنا، في هذا الملصق باعتباره عتبة أساسية، على حد تعبير جيرار جنيت بالإضافة إلى العنوان، عنوان الفيلم نفسه، يجعلنا نعي بأن هذا الفيلم ينتمي بشكل من الأشكال إلى سينما الجبل.
من المدينة إلى الجبل
ينفتح الفيلم منذ المشهد الأول على فضاء الطريق، هذا الفضاء الذي تخترقه سيارة أجرة تحمل بطل الفيلم، أو على الأقل أحد أبطاله، من فضاء المدينة إلى فضاء القرية، وبالتالي إلى فضاء الجبل. هكذا يخاطب البطل نفسه واصفًا انتقاله من المدينة إلى قرية جبلية بحرية، دون أن يحدد نوعية وسبب هذا الانتقال، هل هو ترقية أم عقاب، باعتباره أستاذا للاجتماعيات. وبالإضافة إلى كونه كان يحضر شهادة الدكتوراه في الفلسفة. نشعر هنا، أن هذه الشخصية الفيلمية وكأنها استسلمت لمصيرها، أو كأنها كانت تبحث عن هذا الفضاء بالذات، بما أنه لم يشكل بالنسبة إليها أي مشكل ولو على صعيد التوهم النفسي، لا سيما حين تم استقباله من لدن أهلها، وكما يقول هو نفسه أحسن استقبال. من هنا ينبهر، مروان، وهو اسمه بالفضاء الجبلي، وهو يرى الجبل من خلال البيت الذي اكتراه. وحين يذهب إلى عمله، تنفتح الكاميرا على مشهد يجمع بين فضاء الجبل وفضاء البحر، في لقطة سينمائية شاعرية. يبدو هنا فضاء الجبل فضاءً خارجيًا، حتى وإن كان يعكس بشكل نوعي روح الأستاذ المنشرحة ورغبته في ممارسة عمله التدريسي. لكن سرعان ما يتحول هذا الفضاء الجبلي الخارجي ليرتبط بدواخل شخصيات الفيلم شيئًا فشيئًا. ومن ثمة، يصبح جزءًا لا يتجزأ من نفسياتها المضطربة الباحثة عن المعرفة القصوى والراغبة فيها بكل قوتها. وكما كان الجبل منذ القدم مرتبطًا بالخلوة والتفكير في ماهية الوجود الإنساني، فإنه أيضًا في هذا الفيلم السينمائي لا يكاد يبتعد عن هذه الرمزية المرتبطة به. إنه يمنح للسينما إمكانية تصوير اللامرئي، الذي هو هنا بتعبير الفيلسوف الفرنسي موريس ميرلوبونتي، ذلك الذي لا يُرى، وإنما يُحس بشكل من الأشكال. ونعني به نحن هنا، دواخل الشخصيات وأهوائها وأحاسيسها.
يتجلى لنا ذلك في هذا الفيلم السينمائي تحديدًا في تعابير شخصية حكيم، الابن المتبنى من لدن الحاجة فتيحة والابن البيولوجي من أختها التي تصغرها عايشة، من علاقة غير شرعية، هذا الشاب المقعد أو بالأحرى الذي يدعي أنه مقعد كما سيظهر الأمر في نهاية أحداث الفيلم، الكثير التأمل، والباحث عن معرفة سر الوجود وكينونة الإنسان وحيرته المبنية على التساؤل المستمر المستمد من قراءاته الفكرية المتعددة والمتنوعة، والرافض للحديث مع أي كان نتيجة ما تعرض له من صدمات قوية في حياته. طبعًا سيتعرف مروان على حكيم وبعد صراعات نفسية قوية سيصبح كل واحد منهما صديقًا للآخر، وهو ما جعل مروان في نهاية الفيلم السينمائي يرضخ لرغبة حكيم في الصعود إلى قمة الجبل، جبل موسى، ليريا العالم، عالم القرية من أعلى. هنا يتم الحديث عن رمزية الجبل، وعن الإنسان والصخرة التي يحملها على كتفه ليوصلها إلى قمة الجبل وتسقط في كل مرة ليعاود حملها من جديد، وكأنه يُعيد أسطورة سيزيف من جديد كما يرى مروان، في حين يربط حكيم فضاء الجبل بالسمو والنقاء والحب والتضحية والاعتراف. يمتد الحوار قويًا بين الصديقين حول الوجود في تفكير فلسفي يُسائل رمزية كل شيء ويحاول أن يمنحها معنى.
وحين يصلا إلى قمة هذا الجبل نرى الماء يتدفق بين جنباته في إيحائية إلى سر الحياة وطهارة الجبل وامتداده في الوجدان الإنساني. يشرب مروان من ماء الجبل ويحمل بعضًا منه إلى حكيم ليشرب منه هو الآخر. نرى مجموعة من الناس، سياح، ينظرون من أعلى الجبل إلى القرية وما يحيط بها. وتمتد عن طريق الجبل حكاية قصة حكيم مع كل من أبيه وشعوره القوي بأنه كان سببًا في موته، ومعاقبته لنفسه من جراء ذلك، ليتخلص بالتالي من عُقده، وكأن الجبل أصبح سريرًا نفسانيًا للبوح والاعتراف والتخلص من عُقد من الحياة، وستكون النهاية هي انتصار الصداقة والإيمان الداخلي العميق.
إن السينما المغربية وهي تغوص من خلال هذا الفيلم السينمائي وغيره من باقي الأفلام السينمائية الأخرى تنهج مسارًا سينمائيًا آخر، يتم التركيز فيه على تصوير اللامرئي الذي يُرى من خلال الفكر بدلاً من الاكتفاء فقط بعملية تصوير المرئي الذي يرى بالعين فقط ■